استمع إلى الملخص
- **تحديات بوريل في الشرق الأوسط**: غياب بوريل يثير مخاوف من فراغ سياسي في الشرق الأوسط، حيث كان نشطاً في وضع الموقف الأوروبي خلال حرب إسرائيل على غزة وانتقاد الانتهاكات الإسرائيلية.
- **توجهات كايا كالاس**: تعيين كالاس يرسل رسالة قوية إلى روسيا، فهي داعمة قوية لأوكرانيا. العلاقة مع روسيا قد تتعقد، مما يعزز تياراً داخل المفوضية الأوروبية يساند استمرار الحرب.
تنتهي مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل، ولاية الإسباني جوزيب بوريل على رأس مفوضية السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، التي انتقلت إلى رئيسة الوزراء الإستونية السابقة كايا كالاس، وبذلك تباشر مهامها في ديسمبر/كانون الأول المقبل، لتصبح ثالث امرأة تتقلد هذا المنصب، الذي سبقتها إليه كل من البارونة البريطانية كاترين آشتون ما بين 2009 و2014، عندما كانت بريطانيا لا تزال عضواً في الاتحاد الأوروبي، ومن ثم خلفتها الإيطالية فيديريكا موغيريني حتى عام 2019.
جرى استحداث هذا المنصب في عام 1999، من منطلق حاجة أوروبا إلى لعب دور سياسي على المستوى الدولي، ولم يكن هناك توجّه لتشكيل مفوضية خاصة، ولذلك تمّ اعتبار من يشغل الموقع في منصب نائب رئيس المفوضية الأوروبية، وممثله في الشؤون السياسية الخارجية. وبينما احتل موقع الشخص الثاني في التراتبية الأوروبية، فإنه أكثر شخصية رسمية حضوراً في الإعلام والمناسبات الدولية.
يثير غياب بوريل مخاوف من أن يترك فراغاً سياسياً في ما يخص دور أوروبا في الشرق الأوسط
وتولى الموقع في المرة الأولى الفيزيائي والأستاذ الجامعي الإسباني خافيير سولانا، الذي شغل قبل ذلك منصب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو الوحيد الذي أمضى ولايتين متعاقبتين في قيادة السياسة الخارجية الأوروبية، قبل أن يسلّم الراية عام 2009 إلى آشتون، التي لم تتمكن من إكمال الطريق الذي شقّه سولانا، من أجل بناء أسس خارجية أوروبية ذات فاعلية وتأثير في القضايا الدولية التي تتجاوز حدود أوروبا، خصوصاً في الشرق الأوسط. وكانت ولايتها هي الأقل فعالية وتأثيراً، إذا تمّت مقارنتها بكل من سولانا وموغريني وبوريل، حيث اجتهد هؤلاء على جعل أوروبا حاضرة في عدد من الملفات المهمة والمعقدة، كالفلسطيني والإيراني وثورات الربيع العربي والحرب على الإرهاب.
جوزيب بوريل المُشتبك مع الاحتلال
يغادر جوزيب بوريل موقعه وهو في ذروة الاشتباك مع إسرائيل، ولذلك يثير غيابه مخاوف من أن يترك فراغاً سياسياً في ما يخص دور أوروبا في الشرق الأوسط، خصوصاً أن هذا السياسي عمل بقوة، خلال نحو عام من حرب إسرائيل على غزة، كي يضع الموقف الأوروبي على الخريطة، على الرغم من هيمنة الولايات المتحدة على المشهد، ورفض إسرائيل الاستجابة لمحاولات أوروبا لعب دور متوازن. وبسبب ذلك، اتهمه مسؤولون إسرائيليون بـ"معاداة السامية"، وآخرها عندما استنكر مقتل ستة موظفين من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في غارة جوية إسرائيلية في 11 سبتمبر/أيلول الحالي على مدرسة، تحولت إلى مأوى في منطقة النصيرات وسط قطاع غزة. وقال وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس إن بوريل "معادٍ للسامية ويكره إسرائيل ويحاول باستمرار تمرير قرارات وعقوبات ضد إسرائيل في الاتحاد الأوروبي، لكن معظم الدول الأعضاء تمنعه".
لم تشمل زيارة بوريل الأخيرة إلى المنطقة في الأسبوع الأول من الشهر الحالي، إسرائيل، على الرغم من أنه تفقد معبر رفح من الجانب المصري، وقد أثار ذلك استغراب الأوساط. وقالت الصحف الإسرائيلية إنه اعتذر عن زيارة إسرائيل، في حين تمّ تناقل معلومات تفيد بأن إسرائيل هي التي رفضت استقباله. وكشفت معلومات أنه وجّه رسالة إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية بأنه ينوي زيارة تل أبيب يومي 14 و15 سبتمبر، وتلقى رداً رسمياً بأنه لن يتمكن من الحضور خلال هذين اليومين، ودعته إلى تنسيق الزيارة بعد الأعياد، والتي ستكون في أواخر أكتوبر، أي بعد انتهاء ولايته. والسبب أنه أدلى بتصريحات انتقد فيها بشدة الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية، مؤكداً أنها "تعطل حلّ الدولتين، بل تجعله مستحيلاً".
كما وجّه بوريل أكثر من مرة انتقادات إلى وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، ووزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، وطالب الاتحاد الاوروبي بفرض عقوبات عليهما، لدورهما في تشجيع اعتداءات المستوطنين على المدنيين الفلسطينيين في الضفة. ولكن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، حالت دون عرض الطلب على التصويت داخل اجتماعات وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، خصوصاً أن أي قرار من هذا القبيل، يحتاج إلى إجماع من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهذا غير متوافر في ظل وجود دول أوروبية تساند سياسة إسرائيل، وتدعم حربها على غزة بالسلاح، مثل ألمانيا. ولكن جوزيب بوريل نجح بدعم من إسبانيا وأيرلندا في عرقلة التوصل إلى اتفاق لتجديد اتفاقيات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وتل أبيب، بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان الفلسطيني، وجرى تأجيل مناقشة الأمر إلى ديسمبر المقبل، في ظلّ رئاسة المجر المتعاطفة مع إسرائيل، وسوف يشكل ذلك أول امتحان لخليفة بوريل.
وكشفت صحف إسرائيلية تفاصيل مهمة عمّا بلغه التوتر مع بوريل، وقالت صحيفة معاريف في السابع من سبتمبر الحالي، إن بوريل سياسي إسباني كتالوني، معروف بنهجه التقليدي المناهض لإسرائيل، ويتبنى طلب زعماء أيرلندا وإسبانيا وبلجيكا بصياغة إجراءات ضدها. وفي اليوم التالي، اعتبرت صحيفة جيروزاليم بوست، أنه مع إدراكه بأن إسرائيل ستجد سهولة أكبر في التعامل مع الاتحاد الأوروبي بعد رحيله، "ونظراً للصعود الكبير للأحزاب اليمينية في أوروبا، حاول جوزيب بوريل الانقلاب قبل انتهاء ولايته".
بوريل نجح بدعم من إسبانيا وأيرلندا في عرقلة التوصل إلى اتفاق لتجديد اتفاقيات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وتل أبيب
تدرّج موقف بوريل من الحرب على غزة من اعتبار أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، إلى ضرورة رسم حدود لهذا الحق، ومن ثم رفض سياسات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو التي تهدف إلى القضاء على حل الدولتين، حتى وصل أخيراً إلى اعتبار أن "من يشنون الحرب لا مصلحة لديهم بوضع حدّ لها، وتعنتهم يرافقه إفلات تام من العقاب، وأفعالهم لا تترتب عليها عواقب".
تيار معادٍ لروسيا ومؤيد لإسرائيل
يبدو أن الهدوء سوف يعود، وتتغير الأجواء، حالما تباشر مفوضة السياسة الخارجية الجديدة مهامها، فهي قبل كل شيء بعيدة عن المشهد الشرق أوسطي كلياً، وكانت حتى وقت قريب رئيسة وزراء دولة إستونيا، حيث تولت في بداية عام 2021 هذا المنصب في الجمهورية السوفييتية السابقة الواقعة على بحر البلطيق، والتي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، والتحقت بالاتحاد الأوروبي عام 2004، عندما جرى توسيعه ليضم 10 دول جديدة. وقدمت استقالتها من منصبها في يوليو/تموز الماضي كي تتسلم منصبها الأوروبي. والدها سيم كالاس، شيوعي سابق، أمضى في عضوية الحزب الشيوعي السوفييتي ما يقرب من 20 عاما، ثم أنشأ حزباً في إستونيا بعد الاستقلال عن روسيا أسماه "حزب الإصلاح"، الذي أوصله إلى رئاسة الوزراء في عام 2002 والتي ظلّ يشغلها حتى 2004 تم تولى بعد ذلك مهمة مفوض الشؤون الأوروبية، وترك رئاسة الحزب لابنته.
تعيين كالاس في هذا المنصب يحمل رسالة سياسية واضحة إلى روسيا، عنوانها إغلاق المجال أمام أي إمكانية للحوار بين أوروبا وموسكو في الوقت الراهن، وذلك يعود إلى أن كالاس صاحبة موقف راديكالي من حرب روسيا على أوكرانيا، وكانت من أكثر المؤيدين المتحمسين من بين قادة الاتحاد الأوروبي لكييف، وأعلنت في فبراير/شباط الماضي أنها ستخصص 0.25% من الناتج المحلي الإجمالي لإستونيا لتلبية الاحتياجات العسكرية لأوكرانيا خلال أربع سنوات. وتحت قيادتها، أصبحت إستونيا، وهي جمهورية صغيرة يبلغ عدد سكانها نحو 1.4 مليون نسمة، واحدة من أكبر الجهات المانحة للمساعدات العسكرية لأوكرانيا على أساس نصيب الفرد من الناتج المحلي الخام، كما وضع مجلس وزرائها قانوناً لإضفاء الشرعية على الاستيلاء على الأصول الروسية. وقد دفع ذلك موسكو إلى وضعها على قائمة المطلوبين بتهم جنائية، وأصدرت وزارة الداخلية الروسية مذكرة بحث ضدها، بينما كانت تشغل منصب رئيسة وزراء بلادها.
لم تكن العلاقة بين بوريل وروسيا حادة إلى هذه الدرجة، وعلى الرغم من تدهور العلاقات الأوروبية بين روسيا والاتحاد الأوروبي، فقد بقيت قنوات التواصل الخلفية مفتوحة، وكان في وسع مسؤول السياسة الخارجية أن يلتقي المسؤولين الروس، لكن في حالة كالاس يبدو ذلك متعذراً، وهذا ما يعمل له تيار داخل المفوضية الأوروبية، يساند استمرار الحرب.
مفوضة السياسة الخارجية الجديدة كايا كالاس بعيدة عن المشهد الشرق أوسطي كلياً
يلعب الطابع الشخصي والاهتمامات والأولويات دوراً مهماً في تحديد التوجه السياسي العام، وهو ما يترجم نفسه من خلال الأداء وإبداء الاهتمام. وتتدخّل بذلك علاقة بلد شاغل المنصب بالقضايا الدولية، ومدى قدرة حكومته على التفاعل معه، وتشكيل مظلة سياسية له، وهو ما انعكس بصورة واضحة على أداء جوزيب بوريل خلال الحرب على غزة، والذي عكس إلى حد بعيد سياسة الحكومة الإسبانية، التي تبنت مواقف تدعو إلى وقف الحرب والتضامن مع الشعب الفلسطيني، وتقدمت على بقية بلدان الاتحاد الأوروبي، إلى جانب النرويج وأيرلندا وسلوفينيا، عندما اعترفت رسمياً بالدولة الفلسطينية. وانعكس ذلك بالمسافة بين تحركات وتصريحات بوريل القوية ضد استمرار الحرب، وبين موقف رئيسة المفوضية فون ديرلاين، المنحازة لإسرائيل منذ بداية الحرب على غزة. لم يخفِ بوريل موقفه واتهمها بالانحياز التام لإسرائيل، وقال في أحد أحاديثه الصحافية في فبراير الماضي، إن زيارتها إلى تل أبيب أواخر عام 2023 "خلّفت تكلفة جيوسياسية باهظة لأوروبا"، واعتبر أنها "لا تمثل فيها إلا نفسها من حيث السياسة الدولية".
من المبكر الجزم حول مواقف خليفة جوزيب بوريل من قضايا الشرق الأوسط، غير أنه، ومهما يكن من أمر، فإن الجدل لن يتوقف داخل الاتحاد الأوروبي، وسوف يبقى مفتوحاً، على الرغم من هيمنة فون ديرلاين على المفوضية الأوروبية الجديدة، التي تتجه بقوة نحو اليمين المحافظ. وما يعزز من ذلك وجود دول أوروبية عدة ذات مواقف متقدمة، ومع الانحياز إلى إسرائيل.