ما بعد الهجوم الأوكراني على كورسك وسيناريوهات اليوم التالي

17 اغسطس 2024
دبابة أوكرانية في سومي، 15 أغسطس 2024 (فياتسلاف راتينسكي/رويترز)
+ الخط -

ما زال الهجوم الأوكراني على كورسك الروسية يثير تساؤلات مريرة لدى الشارع الروسي. فللمرة الأولى منذ ثمانين عاماً تتوغل قوات أجنبية داخل الأراضي الروسية. وإلى جانب تداعيات هذا التطور على مسار الحرب الأوكرانية، ومواقف الجهات الفاعلة فيها، من المحتمل أن يترك الهجوم الأوكراني على كورسك أثراً نفسياً طويل الأمد في المجتمع الروسي والنخبة الحاكمة في الكرملين. فاجأ الهجوم الأوكراني على كورسك الذي بدأ في السادس من أغسطس/آب الحالي، الجميع، بما يمكن أن يغير قواعد اللعبة التي سادت خلال العامين ونصف العام الأخيرين من الحرب الأوكرانية. فامتلاك القوات الأوكرانية زمام المبادرة، ونجاحها في نقل الحرب إلى داخل الأراضي الروسية، يعتبران إنجازاً كبيراً بحد ذاتهما، حتى لو لم تكن تخطط للاحتفاظ بالمناطق التي سيطرت عليها لفترة طويلة.

في المقابل، فإن الهجوم الأوكراني على كورسك والاختراق الذي حققته القوات الأوكرانية يعدان فشلاً للجيش الروسي، بغض النظر عن المدة التي سيستغرقها هذا الهجوم. فغالبية التحليلات تؤشر إلى أن الأهداف المباشرة للهجوم على المقاطعة قد نجحت، على المستويين الاستراتيجي والنفسي، وستضطر روسيا إلى تخصيص موارد عسكرية كبيرة لوقف الهجوم الأوكراني على كورسك وإخراج القوات من المقاطعة، وإعادة النظر في الخطط الدفاعية على الحدود الروسية الطويلة مع أوكرانيا، كورسك وبريانسك وبيلغورود. وسيخصص جزء أساسي من تلك الموارد على حساب المجهود العسكري الروسي على الجبهات في شرق وجنوب أوكرانيا.

وفي المعادلة الكلية، حققت روسيا خلال الشهور العشرة الأخيرة نجاحات بطيئة في الحرب، بهجمات محدودة من وضعية الدفاع، إلا أن الهجوم الأوكراني على كورسك أعاد الاعتبار لما يصطلح على تسميته أسلوب المناورة في الحرب، حيث القوات الروسية أضعف، ما قد يضع الحرب في سياق مختلف تماماً، يجبر روسيا على كسر جمود الحرب الثابتة التي تسير لصالحها، وإعادة تموضع قواتها، واتّباع تكتيكات جديدة. وعلى المستوى النفسي، أصبحت الحرب أكثر وضوحاً بالنسبة للمواطنين الروس. وأعرب العديد من المدنيين الروس، على وسائل التواصل الاجتماعي، عن خيبة أملهم لعدم مقدرة الجيش الروسي على حمايتهم من الهجوم الأوكراني، وهي بالتأكيد رواية لا ترغب القيادة السياسية الروسية، والرئيس فلاديمير بوتين شخصياً، بنشرها أكثر داخل المجتمع الروسي، لأنها قد تؤثر على قوة نظام الحكم، وشعبية ومكانة بوتين التي ثابر على صنعها طوال ربع قرن من حكم روسيا.

لماذا الهجوم الأوكراني على كورسك الروسية؟

من المؤكد أن اختيار القيادة العسكرية الأوكرانية الهجوم على كورسك بني على معلومات استخبارية حول ضعف الدفاعات الروسية في المنطقة، بالإضافة إلى إمكانية امتلاك عنصر المفاجأة، فالأنظار كانت تتجه عادة إلى مقاطعة بيلغورود لقربها من مسرح العمليات شرق أوكرانيا. وكانت قد أثيرت تساؤلات حول عدم بناء الجيش الروسي خطوطاً دفاعية على الحدود من أوكرانيا، بعد الهجوم المعاكس الذي شنته القوات الأوكرانية في صيف وخريف 2022، وقيام مقاتلي ما يسمى بـ"فيلق روسيا الحرة" بهجوم على مقاطعة بيلغورود من الحدود الأوكرانية، في مايو/أيار 2023، والتمرد الذي قامت به عناصر من مجموعة مرتزقة "فاغنر" في يونيو/حزيران 2023، واستطاعت من خلاله السيطرة على المقار العسكرية في مقاطعة روستوف، والتقدم على طول الطريق السريع بين روستوف والعاصمة موسكو، من دون مقاومة تذكر.

والتفسير البسيط الذي يُقدَّم، يتخلص في أن موسكو كانت واثقة من أن أوكرانيا لن تُقدم على كسر أهم خط أحمر وضعه الرئيس الروسي، والذي أصبح من الخطوط الحمراء أيضاً للغرب في تعاطيه مع الحرب الأوكرانية، وشروط استخدام الجيش الأوكراني للدعم العسكري الغربي. ورغم الهجوم الأوكراني على كورسك ما زالت الخطوط الحمراء الغربية غير واضحة، ولا يمكن تفسيرها بأنها دعم غير مشروط للخطط والتكتيكات العسكرية الأوكرانية. وبناء على ما سبق، لم تستعد القوات المسلحة والسلطات الروسية لاحتمال حصول توغل أوكراني واسع النطاق داخل الأراضي الروسية، ولم تخطط أيضاً للتعامل مع العواقب الاقتصادية والاجتماعية، لمثل هذا التوغل. وجرى إهمال المعلومات الاستخباراتية عن وجود استعدادات أوكرانية لشن هجوم.

يمكن أن يكون الهجوم الأوكراني على كورسك خطوة استباقية لتعزيز الموقف التفاوضي لكييف

ومن غير المستبعد أن من بين الأسباب الأخرى التي دفعت كييف لاختيار الهجوم على كورسك وجود محطة نووية فيها. وإذا استطاعت القوات الأوكرانية الوصول إليها، أو تهديدها، يمكن أن تكون ورقة للتفاوض مقابل محطة زابوريجيا النووية التي تسيطر عليها القوات الروسية، والتي تعد أكبر محطة نووية في أوروبا. ومن شأن الهجوم الأوكراني على كورسك الحيلولة دون توسيع روسيا لهجماتها المعاكسة مستقبلاً باتجاه مقاطعة سومي شمال شرق أوكرانيا، فضلاً عن إضعاف الروح المعنوية للجنود الروس.

وعلى المستوى السياسي، يمكن أن يكون الهجوم الأوكراني على كورسك في سياق خطوة استباقية، لتعزيز الموقف التفاوضي لكييف، تحسباً لاحتمال فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، في الخريف المقبل، وإقناع الدول الأوروبية والغربية بمواصلة تقديم دعم عسكري واقتصادي وسياسي سخي لأوكرانيا. وربما لعبت الرمزية التاريخية لمقاطعة كورسك دوراً مهماً في اختيارها كهدف للهجوم الأوكراني. فمعركة كورسك التي وقعت في صيف 1943 (يوليو/تموز- أغسطس/آب 1943) تصنف واحدةً من المعارك الكبرى التي غيّرت مسار الحرب العالمية الثانية، وأدت إلى هزيمة ألمانيا النازية لاحقاً. ومن هذه الزاوية ربما تراهن كييف على أن يكون لتوغل قواتها في كورسك دلالة رمزية حول مآل الحرب في نهاية المطاف، وفي المدى المباشر تغيير مسارها.

سيناريوهات اليوم التالي

أعلنت أوكرانيا على لسان وزير داخليتها إيغور كليمنكو، يوم الأربعاء الماضي، نيّتها إقامة منطقة عازلة على الأراضي التي تسيطر عليها قواتها في مقاطعة كورسك. وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد أشار إلى أنه بحث في اجتماع مع مسؤولين أوكرانيين إنشاء إدارات عسكرية، واحتمال فرض حكم عسكري في المناطق التي تسيطر عليها قواته في مقاطعة كورسك الروسية. ووفقاً للقائد العام للجيش الأوكراني أولكسندر سيرسكي، في مكالمة مع زيلينسكي، فإن "كل شيء يسير وفقاً للخطة"، وأنه "على الرغم من القتال الصعب والمكثف، تواصل القوات الأوكرانية تقدمها في مقاطعة كورسك". وما سبق يتفق مع تقديرات خبراء عسكريين غربيين، يعتقدون بأنه من المحتمل استمرار المعارك في مقاطعة كورسك لفترة طويلة نسبياً، في مسعى من جانب أوكرانيا لنقل الحرب إلى الأراضي الروسية لأطول وقت ممكن. ومما يؤكد ذلك أن الخطة الأوكرانية لمهاجمة كورسك وضعت بحيث لا يمكن تنفيذ الانسحاب إلى الأراضي الأوكرانية خلال فترة زمنية قصيرة جداً، وفقاً لخبراء عسكريين غربيين.

يعتمد مستقبل الحرب على كيفية عمل روسيا لإبعاد الجيش الأوكراني من كورسك

إلا أن سير الأمور يتوقف على قدرة القوات الروسية في الرد، والشكل الذي ستتخذه المواجهات في الأيام أو الأسابيع المقبلة. كما أن تكلفة استمرار سيطرة أوكرانيا على المناطق التي تحتلها في مقاطعة كورسك ستكون كبيرة جداً. ومن غير الوارد على الإطلاق أن تسعى القوات الأوكرانية إلى توسيع هجماتها في الداخل الروسي كهدف استراتيجي. وتبرز ثلاثة احتمالات لتطور المواجهات في مقاطعة كورسك: الاحتمال الأول تمكّن القوات الأوكرانية من مواصلة تقدمها. وهذا احتمال ضعيف جداً، نظراً لمحدودية موارد أوكرانيا العسكرية، والتدابير الروسية المضادة. كما أن هناك مخاطر كبيرة في أن تكون المعارك المستقبلية في كورسك دموية، خصوصاً إذا اختارت أوكرانيا أن تتعامل مع هذا الأمر بما هو هدف. الاحتمال الثاني أن توقف القوات الأوكرانية تقدّمها، وتتمكن من الدفاع عن المناطق التي سيطرت عليها حتى الآن. وهذا احتمال ممكن لفترة زمنية، وربما إذا كانت طويلة نسبياً تُحسن الموقف التفاوضي لأوكرانيا.

لكنه سيكون بكلفة كبيرة جداً، وعلى حساب أولويات أهم، وربما يتحوّل إلى فخ لاستنزاف القدرات الأوكرانية. الاحتمال الثالث أن تتمكن روسيا، بفضل التعزيزات العسكرية الكبيرة، من احتواء الهجوم الأوكراني على كورسك ودفع القوات الأوكرانية إلى خارج الحدود، وهو احتمال راجح بقوة، والشي الوحيد غير المؤكد فيه عامل الوقت فقط. وكما هو ملاحظ في السيناريوهات الثلاثة، يتوقف الكثير على قدرة القوات الأوكرانية على الاستمرار بامتلاك زمام المبادرة، والنجاح في الدفاع. وفي المقلب الآخر قدرة القوات الروسية على الخروج سريعاً من حالة الصدمة والإرباك.

يعتمد مستقبل الحرب على الطريقة التي ستتعامل بها روسيا لإبعاد الجيش الأوكراني من كورسك. وحتى الآن تكشف تصريحات المسؤولين الروس بأن موسكو لا تنوي سحب جزء من قواتها من دونيتسك إلى كورسك، وفي حال استطاعت فعل ذلك وواصلت تقدمها في دونيتسك، فإن النجاح التكتيكي لأوكرانيا يمكن أن يتحوّل إلى هزيمة كبرى. وعلى العكس إذا خفّ الضغط عن دونيتسك، وتمكنت أوكرانيا من التقاط أنفاسها لتعزيز دفاعاتها، وضخ أسلحة وعناصر بشرية جديدة، فإن مغامرة الهجوم على كورسك قد تحقق هدفاً.

وفي المحصلة الكلية لمعركة كورسك، بالارتباط مع الأهداف الأوكرانية من وراء فتحها، فإن إمكانية استثمار كييف هجومها سياسياً مرهونة بإمكانية حصول تغير استراتيجي في القيود التي يفرضها الغرب على نفسه في التعاطي مع الحرب الأوكرانية، وتأثير ذلك على المواقف الروسية. لكن في كل الأحوال يسجل لأوكرانيا إنجاز تكتيكي كبير، ستكون له ارتدادات عميقة، على الداخل الروسي سلباً، والأوكراني إيجاباً، وعلى مسار الحرب الأوكرانية مستقبلاً.

المساهمون