التمدد الصيني في أميركا اللاتينية: أبعد من تكرار استراتيجية "فخ الديون"

12 يونيو 2024
شي جين بينغ ولويس إيناسيو لولا دا سيلفا، بكين، 14 إبريل 2023 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الصين تعزز تعاونها مع دول أميركا اللاتينية في مجالات اقتصادية وسياسية، مع تجاوز حجم التجارة 489 مليار دولار في 2023، وانضمام 22 دولة لاتينية لمبادرة الحزام والطريق.
- التعاون يشمل تفاهمات سياسية مثل مساعي البرازيل والصين لتسوية الأزمة الأوكرانية، ما يدل على الأهمية السياسية للعلاقات بين الصين وأميركا اللاتينية.
- الدول اللاتينية تسعى لتنويع شراكاتها الدولية وتعزيز استقلاليتها عبر التعاون مع الصين، رغم التحذيرات من مخاطر "فخ الديون" وتأثيره على الاقتصادات الضعيفة.

شهدت الصين، خلال الأيام الماضية، حراكاً نشطاً على مستوى التبادلات الدبلوماسية والتجارية مع دول أميركا اللاتينية، ما طرح تساؤلات حول آفاق ودوافع هذا التعاون وما إذا كانت الصين تسعى إلى تكرار تجربتها في القارة الأفريقية مع دول قارة أميركا الجنوبية، وبالتالي تكريس التمدد الصيني في أميركا اللاتينية وفق ما يعرّفه الغرب باستراتيجية "فخ الديون"، التي تقوم على استغلال الاقتصادات الضعيفة في سبيل الاستحواذ وتوسيع النفوذ والهيمنة، أم أن الأمر يتجاوز ذلك ليشمل أهدافاً سياسية، تتقدمها مقارعة الولايات المتحدة في حديقتها الخلفية، إلى جانب الأهداف الاقتصادية.

وزار الصين، منذ مطلع يونيو/حزيران الحالي، مسؤولون رفيعو المستوى من البرازيل وفنزويلا وكوبا، وهم: نائب الرئيس البرازيلي جيرالدو ألكمين، ووزير الخارجية الفنزويلي إيفان جيل بينتو، والمبعوث الخاص للرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل. وبرأي خبراء، فإن هذه الزيارات حملت هدفاً مشتركاً لهؤلاء المسؤولين، والمتمثل في البحث عن فرص تعاون جديدة وتعزيز العلاقات مع الصين في خضم تغيرات المشهد العالمي والصعوبات الاقتصادية الخاصة ببلادهم. وكانت وسائل إعلام صينية قد سلطت الضوء على هذه الزيارات المتزامنة، وقالت إن هدفها الاستفادة من الإمكانات الجديدة التي تقدمها الصين. وأشار مراقبون صينيون إلى أنه سواء في التعاون الإقليمي الشامل، أو في العلاقات الثنائية بين الصين ودول أميركا اللاتينية، فإن تقدماً يُحرز في مختلف الجوانب بوتيرة سريعة وثابتة، ما يضع نموذجاً للشراكة داخل الجنوب العالمي (الدول الأقل نمواً).

وتجاوز حجم التجارة بين الصين وأميركا اللاتينية، وفق الإدارة العامة للجمارك الصينية، 489 مليار دولار في عام 2023، بزيادة سنوية قدرها 1.1 في المائة. ووقعت حتى الآن 22 دولة من أميركا اللاتينية اتفاقيات تعاون مع الصين بشأن مبادرة الحزام والطريق (مبادرة صينية بهدف ربط الصين بالعالم عبر استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتية)، ما أدى إلى تعميق وتعزيز التعاون في مختلف المجالات، مثل بناء البنى التحتية والتجارة والاستثمار والتمويل والسياحة.

وعلى مستوى التعاون السياسي أيضاً، كان لافتاً إعلان الصين والبرازيل، في 23 مايو/ أيار الماضي، عن تفاهمات مشتركة من ست نقاط للتسوية السياسية للأزمة الأوكرانية، وذلك خلال زيارة كبير مستشاري الرئيس البرازيلي سيلسو أموريم إلى بكين. واعتبر الجانبان أن هذه النقاط تمثل نهجاً عملياً لحل الأزمة وسط المساعدات الأميركية الجديدة من الأسلحة التي قدمتها واشنطن إلى كييف، ومؤتمر "السلام في أوكرانيا" المزمع عقده في سويسرا السبت المقبل.

التمدد الصيني في أميركا اللاتينية

وحول دوافع وآفاق التمدد الصيني في أميركا اللاتينية أخيراً، قال الباحث في العلاقات الدولية بمركز ونشوان للدراسات الاستراتيجية جيانغ لي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "علاقات الصين مع دول أميركا اللاتينية تقوم على مبدأ المنفعة والمصالح المشتركة الخالية من أي اشتراطات أو إملاءات مسبقة". واعتبر أن "محاولة تصوير الصين مارداً انتهازياً يتوغل في المناطق ذات الاقتصادات الضعيفة محض افتراءات غربية تقودها الولايات المتحدة لردع الدول عن التعاون مع الصين وإبقائها رهينة السياسات والاشتراطات الأميركية".

جيانغ لي: علاقات الصين مع دول أميركا اللاتينية خالية من أي اشتراطات أو إملاءات مسبقة

وأوضح أنه في ما يخص التبادلات مع دول مثل البرازيل وكوبا وفنزويلا، فإنها "تأتي في إطار سعي عدد من الدول اللاتينية لإيجاد طريق عملي ومنهجي للتنمية". وأضاف: "بما أن سياسات التنمية الصينية نموذجية، فإنها السبيل نحو بناء اقتصادات قائمة على أساس التعاون بعيداً عن الإملاءات والاشتراطات الغربية". وبيّن أنه "بالتالي هناك مصلحة في تعميق العلاقة ذات المنفعة المتبادلة لكل من الصين، بتطورها التكنولوجي العالي، وأميركا اللاتينية، بمواردها الطبيعية الوفيرة". وذكر مثالاً على ذلك أن "العديد من دول أميركا اللاتينية دأبت خلال السنوات الماضية على اعتماد الأساليب الصينية للاستهلاك المنخفض للطاقة، ما استفيد منه في تقليل معدلات التلوث وانبعاث الكربون، إلى جانب توفير الوقود".

فخ الديون

في المقابل، قال لي يانغ، الأستاذ في معهد تسيونغ كوان للدراسات والأبحاث، ومقره هونغ كونغ، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "الصين تكرر تجربتها الأفريقية في أميركا اللاتينية، وإن الأمر لا يحتاج إلى اجتهاد للوقوف على دوافع بكين نحو التمدد إلى الجنوب العالمي الأكثر فقراً"، وبالتالي نحو التمدد الصيني في أميركا اللاتينية. ولفت إلى أن "كوبا إحدى الدول التي زار ممثلوها الصين أخيراً، وتواجه أزمة اقتصادية خانقة بسبب العقوبات الاقتصادية والمالية طويلة الأمد الت يفرضتها الولايات المتحدة، والتي استمرت أكثر من نصف قرن، ما تسبب في تكبدها خسائر اقتصادية واجتماعية كبيرة".

لي يانغ: سعت كوبا للتغلب على تحدياتها الاقتصادية من خلال طلب التعاون مع الصين

وأضاف أنه "لذلك، وفي ظل القيود والضغوط الشديدة التي تمارسها الولايات المتحدة، سعت (كوبا) إلى إيجاد سبل للتغلب على تحدياتها الاقتصادية من خلال طلب المساعدة والتعاون مع الصين". واعتبر أن "هذه المعادلة تحيلنا إلى ما اصطلح على تسميته بفخ الديون، الذي حذّرت منه واشنطن مراراً، وهو يبدأ بطلب المساعدة في إنشاء مرافق وبنية تحتية وينتهي عادة باستحواذ الدائن على هذه المرافق نتيجة تعذر سداد المدين". كما أشار في سياق التمدد الصيني في أميركا اللاتينية إلى أزمة فنزويلا الرئاسية، ورغبتها منذ مدة طويلة في الانضمام إلى مجموعة بريكس (تضم البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا وإيران ومصر وإثيوبيا والإمارات والسعودية)، "وبالتالي هي تحتاج إلى دعم الصين للحصول على العضوية". وأضاف أنه "في المقابل، تمتلك فنزويلا احتياطيات نفطية غنية، وهذا ما تتطلع إليه بكين التي تحاول دائماً تنويع مصادرها من الطاقة".

توظيف سياسي

من جهته، رأى أستاذ الدراسات السياسية السابق في جامعة تايبيه الوطنية جين توي، في حديث لـ"العربي الجديد، أن أحد أهداف التمدد الصيني في أميركا اللاتينية "هو مواجهة الولايات المتحدة في ساحاتها الخليفية رداً على الأنشطة الأميركية في مضيق تايوان ومنطقة المحيط الهادئ والهندي، فضلاً عن سعي الصين إلى عزل تايوان دبلوماسياً عن أميركا اللاتينية". وأضاف أن بكين "تبنت في سبيل ذلك عدة أساليب مثل بيع الأسلحة واستخدام القوة الناعمة لتحقيق هذه الأهداف".

ولفت إلى أن الصين "وقعت خلال السنوات الماضية شراكات استراتيجية شاملة مع كل من: البرازيل والأرجنتين والمكسيك والبيرو وفنزويلا والإكوادور، بينما رفضت إقامة أي علاقة مع الدول التي تعترف بسيادة تايوان". وقال إنه "خلال السنوات الأخيرة، تضاءل دعم أميركا اللاتينية للجزيرة، (لا تزال سبع دول فقط في المنطقة تعترف بتايوان)، وفي عام 2023، أصبحت هندوراس أحدث دولة لاتينية تحول ولاءها الدبلوماسي إلى بكين". وأشار إلى أنه "من المتوقع أن تحذو جمهورية الدومينيكان ونيكاراغوا وهايتي حذو هندوراس قريباً تحت تأثير المد الصيني".

كذلك، أشار جين توي إلى أنه "في ظل التقارب الصيني اللاتيني، باتت الفروقات السياسية في مقاربة ملفات وقضايا دولية ضئيلة جداً بينهما، فضلاً عن أنها لم تؤثر على مسار التعاون الاقتصادي والعسكري". وأضاف أنه "أخيراً تابعنا كيف قدمت الصين والبرازيل مبادرة سلام مشتركة لحل الأزمة الأوكرانية"، لافتاً إلى أن "الصين ساعدت على إعلاء صوت هذه الدول الصغيرة على الساحة والدولية". وقد ساهم ذلك، حسب قوله، "في تشكيل جبهة موحدة أمام المحاولات الأميركية لفرض الهيمنة في القارة اللاتينية من خلال تأجيج الاضطرابات والانقلابات العسكرية وفرض العقوبات الدولية، ما خدم بطبيعة الحال مصالح الصين وسعيها نحو بناء نظام دولي متعدد الأقطاب".

بعد اقتصادي

وحول التمدد الصيني في أميركا اللاتينية اعتبر الخبير الاقتصادي تشي جيانغ، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "علاقة بكين بدول أميركا اللاتينية تحكمها المصالح الاقتصادية المشتركة". وقال إن "أهم مجالات التعاون تتمحور حول الطاقة الخضراء (للمحافظة على البيئة)"، لافتاً إلى أنه في السنوات الأخيرة، "أصبحت سيارات الطاقة الجديدة وبطاريات الليثيوم والمنتجات الكهروضوئية علامة بارزة في تحول التصنيع داخل الصين نحو التنمية المتطورة والذكية".

 تشي جيانغ: دول أميركا اللاتينية تحتفظ بهامش من الإرادة ضد الإملاءات  الأميركية

وأضاف أنه كان لذلك تأثير في جميع أنحاء العالم، "بما في ذلك دول أميركا اللاتينية التي أصبحت سوقاً كبيرة لصادرات الصين من سيارات الطاقة الجديدة"، لافتاً إلى أنه "إلى جانب سيارات الطاقة الجديدة، هناك العديد من المنتجات الخضراء الأخرى التي توفر فرصاً للتعاون بين الصين ودول أميركا اللاتينية، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية". وقال إن التعاون بين الصين وتلك الدول "ضرورة ملحة في ظل تزايد الحمائية (تقييد الواردات) من قبل الغرب بقيادة الولايات المتحدة ضد منتجات الطاقة الجديدة الصينية". ولفت إلى أن "ما يشكل ميزة في دول هذه المنطقة أنها تحتفظ بهامش من الاستقلالية والإرادة ضد الإملاءات والهيمنة الأميركية".
 

المساهمون