قبل أيام من الذكرى السنوية الثانية للغزو الروسي لأوكرانيا، أعلن قائد الجيش الأوكراني الجديد أولكسندر سيرسكي، أول من أمس السبت، الانسحاب من مدينة أفدييفكا في مقاطعة دونيتسك شرقي أوكرانيا.
وأوضح سيرسكي في بيان أنه "بناء على الوضع العملياتي الذي تطور حول أفدييفكا، ومن أجل تجنب التطويق والحفاظ على حياة وسلامة الأفراد العسكريين، قررت سحب وحداتنا من المدينة والتحوّل إلى الدفاع على خطوط أكثر فائدة". ومع تحقيق الجيش الروسي أكبر إنجاز منذ السيطرة على مدينة باخموت، في مايو/أيار من العام الماضي، سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تهنئة قواته.
وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، مساء أول من أمس: "استمع فلاديمير بوتين في الكرملين إلى تقرير وزير الدفاع سيرغي شويغو عن السيطرة على أفدييفكا. هنأ الرئيس جنودنا ومقاتلينا بهذا الانتصار المهم".
وبالتزامن، برز موضوع استئناف دعم أوكرانيا من الدول الغربية، تحديداً الولايات المتحدة، بالأسلحة لمنع تقدم القوات الروسية. وشدّد الرئيس الأميركي جو بايدن، أول من أمس، في اتصال مع نظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، على أنه "واثق" من أن الكونغرس سيجدد المساعدات العسكرية لكييف.
الالتزام الأميركي باستئناف الدعم العسكري لمنع تقدم القوات الروسية ينتظر تخطي عقبة الكونغرس
وأضاف لصحافيين في ديلاوير في ولاية أوهايو الأميركية: "تحدثت مع زيلينسكي بعد ظهر اليوم (السبت) لأخبره بأنني واثق من أننا سنحصل على هذه الأموال".
ورأى أن فشل المشرعين الأميركيين في الموافقة على تمويل جديد للمساعدات العسكرية لكييف سيكون "سخيفاً" و"غير أخلاقي".
وتابع:"سأكافح من أجل تزويدهم (أوكرانيا) بالذخيرة التي يحتاجونها". يُذكر أن خلافاً بين الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس يعرقل إقرار 60 مليار دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا.
وأعقب تصريح بايدن، قول البيت الأبيض في بيان، أول من أمس، إن "الجيش الأوكراني أُجبر على الانسحاب من أفدييفكا بعد أن اضطر الجنود الأوكرانيون إلى الاقتصاد بالذخيرة بسبب تضاؤل الإمدادات نتيجة لتقاعس الكونغرس، مما أدى إلى أول مكاسب ملحوظة لروسيا منذ أشهر".
وأضاف أن بايدن شدد "على ضرورة تمرير الكونغرس مشروع قانون التمويل التكميلي للأمن القومي بشكل عاجل لإعادة تزويد القوات الأوكرانية بالمساعدات".
وجاءت هذه التصريحات في الوقت الذي قالت فيه نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، من مؤتمر ميونخ للأمن، أول من أمس، إلى جانب زيلينسكي، إنه "في ما يتعلق بدعمنا لأوكرانيا، يجب أن نكون ثابتين ولا يمكننا ممارسة ألاعيب سياسية".
من جهته، أعلن زيلينسكي، مساء السبت، أنه تحدث هاتفياً إلى بايدن وناقش معه الوضع على الجبهة، مشدداً على ثقته بأن الكونغرس الأميركي سيتخذ "قراراً حكيما" بالإفراج عن المساعدات لكييف. وكتب على تطبيق "تليغرام": "مسرور بأنه يمكنني التعويل على الدعم الكامل للرئيس الأميركي. نثق أيضاً بالقرار الحكيم للكونغرس".
وكان في وقت سابق، قد اعتبر أن الانسحاب من أفدييفكا كان "قراراً صحيحاً"، محذّراً في الوقت نفسه من ميونخ، من إبقاء بلاده في حالة "عجز مصطنع" بشأن الأسلحة، خصوصاً "في ظل العجز في المدفعية والقدرات (من الأسلحة) بعيدة المدى، ما يسمح لبوتين بالتكيف مع الوتيرة الحالية للحرب".
أهمية رمزية
وذكرت وكالات أنباء روسية أمس الأحد نقلاً عن وزارة الدفاع أن القوات الروسية أحكمت السيطرة الكاملة على مدينة أفدييفكا الأوكرانية وتقدمت لمسافة 8.6 كيلومترات في هذا الجزء من خط المواجهة.
وتعدّ السيطرة على أفدييفكا "هدية" لبوتين قبيل إعادة انتخابه المرجح، لولاية خامسة، في الانتخابات الرئاسية في مارس/ آذار المقبل، فيما ركّز في حملته الانتخابية على قضايا الحرب، إذ تفقّد، الخميس الماضي، مصنعاً للصناعات العسكرية في منطقة الأورال، بمدينة نيجني تاغيل، شرقي روسيا.
وأشار خلال الزيارة، وفق "وكالة "سبوتنيك" الروسية، إلى أنه "بالنسبة لإنتاج دروع الحماية الفردية للجنود، فقد زاد 10 مرات، وإنتاج السيارات من مختلف الفئات زاد 7 مرات، بينما زاد إنتاج الدبابات 5 مرات، وإنتاج المركبات المدرعة من مختلف الفئات 3.5 مرات"، مؤكداً أن عمليات الإنتاج "تضاعفت عدة مرات".
وأفدييفكا مدينة صناعية كان يقطنها قبل الحرب قرابة 30 ألف أوكراني، وتقع على بعد 20 كيلومتراً شرق مدينة دونيتسك، مركز المقاطعة الأوكرانية، والتي ضمتها روسيا في نهاية سبتمبر/ أيلول 2022.
وفي 2014 سيطر الانفصاليون المدعومون من موسكو على المدينة لفترة وجيزة، إذ أعادت القوات الأوكرانية تحريرها في ذات العام. ومنذ بداية الحرب في 24 فبراير/ شباط 2022، شنّ الجيش الروسي والانفصاليون هجمات عدة للسيطرة على المدينة، لكن كل الجهود باءت بالفشل نظراً للتحصينات الأوكرانية القوية، ووجود قوات من النخبة فيها.
ويعود السعي الروسي للسيطرة على أفدييفكا لعدة أسباب، أهمها تأمين مدينة دونيتسك من الضربات المدفعية المنطلقة من المدينة، والتي أدت إلى قتل وجرح العشرات، والانطلاق إلى مدن كونستنتينوفكا وسلوفيانك وكراماتورسك شمال دونيتسك.
وكثّفت القوات الروسية هجماتها على أفدييفكا منذ 10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وحشدت قرابة 40 ألف جندي للمعركة، فيما أطبقت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، الحصار عليها، وضغطت في وقت واحد من الجانبين الشمالي والجنوبي، في محاولة لقطع خطوط الإمداد عن المدينة.
ولم يتمكن الجيش الروسي من الاستيلاء على المدينة دفعة واحدة، إذ واصل تدميرها بالغارات الجوية وهجمات المشاة.
وتؤكد أوكرانيا أن الجانب الروسي دفع أثماناً كبيرة من حياة جنوده، إذ قال سيرسكي في بيان قرار الانسحاب من أفدييفكا إن الجنود الأوكرانيين أدوا واجباتهم العسكرية "بكرامة"، و"ألحقوا بالعدو خسائر كبيرة من حيث القوة البشرية والمعدات".
وقال ديمتري ليخوفوي، الناطق باسم قوات "تافريا" التي كانت تدافع عن المدينة، لخدمة "بي بي سي" الروسية أول من أمس، إن التقديرات الأوكرانية للخسائر الروسية أثناء الاستيلاء على أفدييفكا تصل إلى 47 ألفا بينهم 17 ألف قتيل.
وكان رئيس الإدارة العسكرية لمدينة أفدييفكا، فيتالي باراباش، قد قال في الأسابيع الأولى من الهجوم على المدينة، إن عدد القتلى الروس حتى نهاية أكتوبر بلغ حوالي 6.5 آلاف شخص، فضلاً عن تدمير مئات المركبات المدرعة.
المحافظة على المدينة أم الانسحاب؟
وحسم الانسحاب الذي جاء بعد عدة أيام من تعيين سيرسكي قائداً جديداً للجيش جدلاً طويلاً حول أهمية المحافظة على المدينة، التي سقطت فعلياً ودُمّرت منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بعد محاصرتها من ثلاث جهات.
ويبدو أن قرار الانسحاب غرباً، جاء لتلافي وقوع القوات المدافعة عن المدينة بين فكي كماشة، والانسحاب بأقل الخسائر. وفي الشهور الأخيرة، رأى مؤيدو الانسحاب أنه يمكن المحافظة على الوحدات المدربة والمجهزة من القوات المسلحة الأوكرانية، والتخلي عن قطعة من الأرض لا أهمية عسكرية لها، والتراجع إلى خطوط دفاع أخرى، إلى جانب جمع الاحتياط وتنفيذ هجوم مضاد قوي على الجناحين، في حال استئناف الدعم العسكري الغربي.
ومع تمسك الجيش الأوكراني سابقاً بأفدييفكا، برزت مقارنات بين ما حصل فيها وما جرى في باخموت. ففي حالة باخموت، وبعد سقوطها في مايو 2023، رأى مدافعون عن خيار الاستمرار بالاحتفاظ بالمدينة والمقاومة أن ذلك أدى إلى إلحاق خسائر كبيرة بالقوات الروسية وقوات "فاغنر"، وأن الجيش الروسي ضخ عشرات الآلاف في المعركة ما عطل إمكانية تقدمه في محاور أخرى.
وفي المقابل، قال الفريق الذي دعا إلى ترك باخموت، إن البقاء فيها أدى إلى استنزاف القوات الأوكرانية وتعطيل الهجوم المضاد وتأخيره من الربيع إلى بداية يونيو/ حزيران الماضي، من دون تحقيق نجاحات كبيرة حتى الآن.
الاستحواذ على أفدييفكا ذو أهمية سياسية لا عسكرية بالنسبة للكرملين
والواضح أن الصمود في باخموت ولاحقاً في أفدييفكا أو الانسحاب منهما، كان من الأسباب الأساسية لبروز خلافات بين زيلينسكي، والذي دعا إلى المقاومة وعدم ترك باخموت بأي ثمن، والقائد العام للقوات الأوكرانية فاليري زالوجني (أقيل أخيراً)، والذي دعا حينها إلى انسحاب القوات، ودعمه في ذلك كثير من الخبراء العسكريين في الغرب.
ماذا بعد السيطرة على أفدييفكا؟
يتفق معظم الخبراء على أن السيطرة على أفدييفكا ذات أهمية سياسية بحتة، لا عسكرية، بالنسبة للكرملين. وتركز معظم التصريحات الروسية الداعية للسيطرة على المدينة على أن إبعاد الجيش الأوكراني سيحمي مدينة دونيتسك من الهجمات المدفعية والصاروخية، نظراً لقربها من مركز المقاطعة التي تحمل الاسم نفسه.
لكن الأوضاع حالياً تغيرت، فالقوات الأوكرانية باتت تملك أسلحة صاروخية قادرة على الوصول إلى دونيتسك من أماكن أبعد، وباتت تملك فضلاً عن "مدافع 152" السوفييتية القادرة على الوصول إلى حوالى 30 كلم، مدافع "هاوتزر"، والتي يصل مداها إلى 40 كيلومتراً، وكذلك "هايمارس" التي يصل مداها إلى 70 كيلومتراً، وصواريخ "أتاكمز" (ATACMS) الباليستية.
كما تلقت أوكرانيا صواريخ "ستورم شادو"، والتي يصل مداها إلى 160 كيلومتراً. ويقول فريق من الخبراء الروس إن السيطرة على أفدييفكا تحرم الجانب الأوكراني من تنفيذ هجوم على دونيتسك، ولكن معظم الخبراء الغربيين لا يرجحون مثل هذه الفرضية نظراً لأن الفجوة ضيقة جداً من جهة أفدييفكا، وستكون القوات المتقدمة محاصرة.
وأكدت أوكرانيا، صباح أمس الأحد، تعرض مدينتي كراماتورسك وسلوفيانسك الواقعتين تحت سيطرة أوكرانيا في مقاطعة دونيتسك لقصف صاروخي، في إشارة روسية واضحة إلى الوجهة المقبلة لاستكمال السيطرة على مقاطعة دونيتسك، بحدودها الإدارية عام 2014.
مع العلم أن بوتين أعلن في 2022 اعتراف بلاده باستقلال إقليمي دونيتسك ولوغانسك، شرقي أوكرانيا، قبل إجراء استفتاءات في العام نفسه في الإقليمين إلى جانب مقاطعتَي زابورويجيا وخيرسون، جنوبي أوكرانيا، والتي وافقت جميعها على الانضمام إلى روسيا.
في موازاة ذلك، فإن التقدم الروسي قد يتأخر نظراً للخطوط الدفاعية في المدن الأخرى، فضلاً عن عدم وجود كفاية حالياً من القوات الروسية المدربة لشن هجمات. فالمهاجم حسب المبادئ الأساسية للحرب يحتاج إلى تفوق عددي بنحو ثلاثة أضعاف على الأقل من القوات المدربة بشكل جيد.
ورغم أن السيطرة على أفدييفكا تعد نصراً "رمزياً" فإن إمكانية مواصلة الجيش الروسي قضم مناطق من أوكرانيا بشكل بطيء واردة في حال استمر غياب تزويد أوكرانيا بالأسلحة والذخائر، والأهم عدم توفير وسائل الحماية الجوية للقوات الأوكرانية المدافعة والمهاجمة، مع نجاح روسيا بتطوير أدوات جديدة من ضمنها استخدام المسيّرات على نطاق واسع لتدمير التحصينات والمدرعات الأوكرانية.
في هذه الأثناء، قال قائد القوات الجوية الأوكرانية ميكولا أوليشوك، أمس، إن القوات الأوكرانية أسقطت 12 طائرة مسيّرة هجومية أطلقتها روسيا، ليل السبت - الأحد، فضلاً عن صاروخ كروز من طراز "كيه إتش 59" وطائرة قاذفة مقاتلة من طراز "سوخوي-34".
وأضاف عبر تطبيق "تليغرام"، أنه يشكر "وحدات القوات الجوية على عملها القتالي الناجح". كما أعلن الجيش الأوكراني، أمس، أن قواته أحبطت هجوماً روسياً على الجبهة الجنوبية "في زابوريجيا أمس (السبت)"، مضيفاً على "تليغرام"، أنه دمر 18 مركبة مدرعة من بينها 3 دبابات. وقال إن القوات الروسية تراجعت إلى مواقعها السابقة.