يفتح الإعلان الأميركي الجديد عن عدم وجود أيّ خطط لواشنطن في الوقت الحالي لتخفيض عديد قواتها في العراق، الباب مجدداً أمام احتمالات تصعيد أمني جديد من قبل الفصائل العراقية المسلحة الرافضة للوجود الأميركي في البلاد، وأمام أزمة ثقة أخرى بين تلك الأطراف وحكومة مصطفى الكاظمي. ويُظهر الإعلان الأميركي تضارباً كبيراً مع حديث حكومة الكاظمي، في السابع من شهر إبريل/نيسان الحالي، حول طلبها من الولايات المتحدة وضع إطار زمني لبدء سحب قواتها من العراق، وذلك خلال جولة المباحثات التي جمعت الطرفين عبر دائرة تلفزيونية مغلقة ضمن جولة الحوار الاستراتيجي الثالثة بين البلدين، التي ترأسها وزيرا الخارجية العراقي والأميركي، فؤاد حسين وأنتوني بلينكن. ومساء الخميس الماضي، قال قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال كينيث ماكينزي، خلال مؤتمر صحافي، إن بلاده لن تخفض عديد قواتها المتواجدة في العراق، معللاً القرار بأنه يأتي "بناءً على رغبة بغداد". وأضاف ماكينزي أن "العراق يريد بقاءنا، ولن نخفّض عدد القوات هناك". خاتماً بتعليق على الوضع العراقي، بقوله إنه لا يعتقد أن الولايات المتحدة "على حافة الانخراط بحربٍ في الشرق الأوسط".
ماكينزي: العراق يريد بقاءنا، ولن نخفض عدد قواتنا هناك
ورد قيس الخزعلي، زعيم مليشيا "عصائب أهل الحق"، أحد أبرز الفصائل المسلحة الحليفة لطهران في العراق، على تصريحات ماكينزي، قائلاً إنها "دليل واضح على عدم جدية الإدارة الأميركية بسحب قواتها من العراق". وأضاف في تغريدة على "تويتر" أمس السبت: "في حال عدم صدور تكذيب من الطرف الحكومي العراقي، فإنه سيُعتبر دليلاً على عدم مصداقيته بأنه طالب بخروج القوات الأميركية من العراق، وأن ما يقال في العلن غير ما يقال في السر". وهدد بالقول إن "الأميركيين يقدّمون دليلاً تلو الآخر على أن الحوار والمنطق لا ينفعان معهم وأن الطريقة الأفغانية هي الطريقة الوحيدة لإخراجهم".
تبع ذلك تأكيد المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء يحيى رسول، أن جدولة انسحاب القوات الأجنبية تحددها اللجان الفنية ضمن الحوار الاستراتيجي. وقال لوكالة الأنباء العراقية (واع) أمس: إن "هناك جدولة لعملية انسحاب القوات الأجنبية خلال فترات تحدد بعد لقاء اللجنة الفنية التي شكلت بأمر القائد العام للقوات المسلحة، برئاسة رئيس أركان الجيش لإدارة هذا الملف ضمن الحوار الاستراتيجي"، لافتاً إلى أن "العراق لا يحتاج لأي جندي أميركي أو أجنبي يحمل السلاح ويقاتل مع القوات العراقية ولا يحتاج إلى مقاتلين على الأرض باستثناء القوات العراقية".
وفي السابع من إبريل/نيسان الحالي، أعلن مستشار الأمن الوطني العراقي، قاسم الأعرجي، خلال مؤتمر صحافي في مقر وزارة الخارجية عقب انتهاء جولة الحوار الاستراتيجي بين العراق وواشنطن، أن "الولايات المتحدة تعهدت بسحب المزيد من قواتها من البلاد، وبعدم وجود أي قواعد عسكرية أميركية داخل العراق"، موضحا أنّ "عملية انسحاب القوات القتالية الأميركية ستجري عبر لجنة مشتركة تتولى تحديد التوقيتات الزمنية". تبع ذلك إعلان مكتب الكاظمي عن تشكيل "لجنة فنية تتولى مهمة إقرار التوقيت والآليات المتعلقة بنتائج الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، بما في ذلك انسحاب القوات الأجنبية من البلاد، وتكون برئاسة رئيس أركان الجيش (الفريق الأول الركن عبد الأمير يار الله)".
وكانت العاصمة العراقية بغداد، قد شهدت ليل الخميس-الجمعة، وبعد أقل من ساعتين على الإعلان الأميركي بشأن عدم وجود خطط لانسحاب من العراق، قصفاً صاروخياً استهدف قاعدة فيكتوريا العسكرية الملاصقة لمطار بغداد الدولي، حيث تتواجد وحدة مهام أميركية ضمن جهود "التحالف الدولي" لمحاربة تنظيم "داعش" تبلغ قوامها نحو 200 جندي، أغلبهم من مشاة البحرية (المارينز)، وأسفرت عن خسائر مادية طفيفة، جميعها خارج القاعدة، كما أصيب حارس أمن عراقي بجروح. أعقب ذلك ثلاث هجمات جديدة استهدفت أرتالا مدنية تحمل مساعدات لقوات "التحالف" وتسبّبت في خسائر مادية، فيما نقلت تقارير محلية عراقية عن مسؤولين أمنيين في بغداد، أن القوات الأميركية اختبرت، صباح أول من أمس الجمعة، منظومة جديدة للدفاع الجوي في معسكر فيكتوريا، كما أعادت تجربة منظومة الإنذار المبكر في سفارة بلادها داخل المنطقة الخضراء، حيث سمعت صافرات الإنذار في محيط السفارة.
ولم يشأ أي من مسؤولي حكومة الكاظمي الذين تواصلت معهم "العربي الجديد"، التعليق على تصريحات ماكينزي وموقف بغداد الرسمي منها، وعلى سبب التضارب الجديد، لكن عضواً بارزاً في البرلمان العراقي قال، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، إن "الأميركيين أحرجوا الكاظمي على ما يبدو في هذا الإعلان، ما قد يترتب عليه هجمات جديدة من قبل فصائل مسلحة، كونه جاء مستفزاً". وكشف النائب عن زيارة مرتقبة سيجريها الكاظمي إلى واشنطن، مطلع يوليو/تموز المقبل، لبحث عدد من القضايا مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، من دون أن يستبعد أن يكون ما تمّ التوصل إليه خلال جولة المباحثات الأخيرة بين الطرفين، قد جرت إعادة النظر فيه من قبل الإدارة الأميركية، تحديداً في ما يتعلق بالوجود العسكري الأميركي في العراق.
يزور الكاظمي واشنطن مطلع يوليو المقبل، لبحث عدد من القضايا مع إدارة جو بايدن
وشدّد المصدر على أن "الجولة الثالثة للحوار لم تشهد أي طلب عراقي بسحب القوات الأميركية، بل على العكس، كان هناك حديث عن دعم أميركي للعراق في برامج عسكرية عدة، منها تطوير سلاح الجو العراقي وصيانة وتوفير قطع غيار لوحدات الدروع والدبابات العراقية، خصوصاً عربات هامفي وهامر ودبابات أبرامز، إذ توجد المئات منها التي خرجت عن الخدمة، إضافة إلى التدريب والدعم الجوي الحربي في تتبع خلايا وجيوب داعش". وأكد النائب أن الحديث عن انسحاب القوات الأميركية قبل الانتخابات هو أمرٌ غير وارد.
هذه المعطيات ذاتها أكدها عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، علي الغانمي، في تصريح له، إذ قال "للأسف الشديد، فإن الجولة الثالثة للحوار الاستراتيجي لم تتطرق إلى جدولة الانسحاب الأميركي من الأراضي العراقية، عكس ما كان في الجولات السابقة".
ومساء أول من أمس الجمعة، أعلنت حكومة إقليم كردستان العراق، عن تلقّي رئيس الوزراء في الإقليم، مسرور البارزاني، اتصالاً هاتفياً من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن. ووصف بيان حكومة الإقليم الاتصال بـ"المطول"، والذي جرى خلاله بحث عدد من القضايا، أبرزها إدانة "هجمات الصواريخ والطائرات المسيّرة ضد إقليم كردستان والقواعد العراقية وقوات التحالف الدولي، كما جرى الاتفاق على الحاجة المستمرة لقوات التحالف الدولي في البلاد ودعم البشمركة والقوات الأمنية العراقية في الحرب ضد داعش". كما شمل الاتصال مناقشة الانتخابات التشريعية المقبلة في العراق، وذكر البيان أن الطرفين أعربا عن "قلقهما من محاولات الجماعات المنفلتة تقويض هدف مشترك للعراق والمجتمع الدولي، ويتمثل في إجراء انتخابات حرّة ونزيهة، إلى جانب محاولاتها تقويض الشراكة بين العراق والولايات المتحدة". من جهته، تحدّث بلينكن، في تغريدة على "تويتر"، عن إجرائه مكالمة هاتفية مع البارزاني، مؤكداً أن بلاده "ستواصل العمل مع العراق لمواجهة التحديات الأمنية، وحماية القوات الأميركية والتحالف الدولي".
ورأى عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، حسن شويرد، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن تصريح الجنرال ماكينزي "كان صريحاً بخصوص بقاء قواته في العراق"، متحدثاً عن ضرورة الذهاب بـ"اتجاه واحد بالنسبة للشأن العراقي، وهو مدى حاجة القوات العراقية لنظيرتها الأميركية، وهو ما تحدده الحكومة بعيداً عن أي جانب سياسي، كون الملف أمنيا وله اعتباراته الخطيرة".
وفي إشارة منه إلى تصويت البرلمان العراقي العام الماضي على قرار يُلزم الحكومة بإخراج القوات الأميركية عقب مقتل قائد "فيلق القدس" الإيراني الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس "الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس مطلع يناير/كانون الثاني 2020 بغارة أميركية قرب مطار بغداد، اعتبر شويرد أنه "سبق أن جرى تصويت في البرلمان حول ذلك، لكن الآن وضع الاحتياجات الأمنية للدولة، يحددها القائد العام للقوات المسلحة (مصطفى الكاظمي)، وهناك هجمات لداعش وتحديات أمنية مختلفة".
من جهته، اعتبر القيادي في "التيار الصدري"، النائب السابق حاكم الزاملي، أن حكومة الكاظمي "مطالبة بأن تكون أكثر وضوحاً في هذا الملف"، مضيفاً، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، أن "العراق مقبل على مرحلة مهمة، وهي الانتخابات والتحولات التي ستترتب عليها، لذا فإنه يمكن للحكومة تحديد ما تحتاجه من القوات الأجنبية على مستوى التدريب والدعم الاستخباري وغيرها، لأن البلاد لم تعد بحاجة إلى الدعم القتالي".
لا يمكن تعويض الوجود الأميركي في العراق من خلال قواعد في دول أخرى مثل السعودية وتركيا وقطر
ورأى الأستاذ المساعد في قسم الدراسات الأمنية في معهد الدوحة للدراسات العليا، مهند سلوم، أن "انسحاب القوات الأميركية بشكل كامل من العراق مستبعد في المستقبل القريب"، موضحاً، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن ذلك يعود لأسباب عدة، بينها أن "تواجد هذه القوات بات أساسياً للمحافظة على مساحة نفوذ الولايات المتحدة الاستراتيجي في المنطقة، وهو ما لا يمكن تعويضه من خلال قواعد في دول أخرى مثل السعودية وتركيا وقطر، خصوصاً أن واشنطن تواجه تنمراً إيرانياً متزايداً تجاه حلفائها الإقليميين وسعي إيران الحثيث لامتلاك التكنولوجيا النووية".
وأكد سلوم أن "التصريح المشترك الذي أصدرته اللجنة العراقية - الأميركية بعد مباحثات السابع من الشهر الحالي بخصوص الانسحاب الأميركي من العراق، موجّه إلى الداخل العراقي أكثر من كونه اتفاقاً رسمياً لسحب القوات الأميركية. إذ صرح الجنرال ماكينزي، في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي منتصف هذا الشهر: لا أرى القوات الأميركية تنسحب بشكل كامل من العراق في المستقبل"، مضيفاً "في الوقت نفسه، فإن موضوع انسحاب القوات الأميركية من العراق بشكل كامل مرتبط بتوازنات إقليمية لو اختلّت، يمكن أن تحوّل العراق إلى ساحة صراع مفتوحة بين إيران وخصومها في منطقة الشرق الأوسط".
ولفت سلوم إلى وجود "خلاف سياسي داخل العراق في مسألة توقيت وآلية انسحاب القوات الأميركية الكامل من العراق، إذ ترفض حكومة إقليم كردستان العراق انسحاب هذه القوات، وتعتبر وجودها ضماناً لأمن الإقليم واستقرار العراق"، متابعاً أنه "في الوقت ذاته، تعتقد القوى السياسية العربية السنّية أن انسحاب القوات الأميركية في هذه المرحلة الانتقالية يعني إحكام إيران التام قبضتها على العراق، ما يعني تهميشاً وربما إقصاءً كاملاً لكل من يعارض سياسات إيران في العراق والمنطقة، وبالتالي عودة مناطقهم إلى الاحتجاج وربما المواجهات العنيفة مع الحكومة والمليشيات الموالية لإيران".