أوصت غيلا غملائيل، وزيرة الاستخبارات "الإسرائيلية"، فيّ وثيقة داخلية، بخطة تهجير سكان غزة قسرًا إلى سيناء، عقب انتهاء الحرب التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزّة. ونشرت "كالكاليست"؛ وهي صحيفة اقتصادية، تلك المعلومات استنادًا إلى وثيقة حصلت عليها. بحسب الصحيفة اليومية الإسرائيلية، فإن هذه الوثيقة تتضمّن 3 مراحل: إنشاء مدن من خيام في سيناء، جنوب غرب القطاع، وإنشاء ممر إنساني لمساعدة السكان، وبناء مدن في منطقة شمال سيناء. وتشير هذه الوثيقة إلى إقامة منطقة محصنة لا تسمح للسكان الذين يتم إجلاؤهم بالعودة إلى القطاع، كما ورد في تقرير إخباري على موقع الجزيرة نشر في 2023/10/25.
خيوط المؤامرة
تكشف القراءة المُتأنِّية للمَراجِع التاريخية قدم هذه المقترحات "الإسرائيلية"، إذ بدأت في عام 1953 مباحثاتٌ بين الولايات المتّحدة، والحكومة المصرية، ومندوبي تشغيل اللاجئين (الأونروا) طُرح فيها مشروعٌ مُفصَّلٌ لتوطين لاجئي قطاع غزّة في صحراء سيناء. وفي 14 أكتوبر/تشرين الأول 1953 توصَّلت وكالة الغوث مع الحكومة المصرية إلى اتّفاقٍ مُحدَّدٍ، تُقدِّم مصر بموجبه 230 ألف فدانٍ من الأراضي الصحراوية لوكالة الغوث، لإجراء اختباراتٍ زراعيةٍ فيها، مع إعطاء وكالة الغوث الحقّ بانتقاء 50 ألف فدانٍ من بينها، من أجل أعمال التطوير الزراعي، لمصلحة اللاجئين. شريطة أن تضخ مصر كمياتٍ كافيّةً من المياه، تصل إلى حدود 1 % من حجم مياه نهر النيل سنويًا، لري هذه الأراضي. ولقد استغرقت أعمال هذا المشروع نحو ثلاثة أعوامٍ من تاريخ توقيعه، حتّى 28 يونيو/حزيران عام 1955، حين قدَّمت اللجنة الموْكَل إليها العمل تقريرها إلى وزير الدولة المصرية لشؤون الإنتاج، وإلى مدير الأونروا، إذ قُدِّرَتْ فترة تنفيذ المشروع كاملاً بخمسةٍ وعشرين عامًا. ورد هذا في تقرير أعدَّتهُ وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين عام 1955 حول المشروع، وقُدِّرَ عدد من سيرحلون بنحو 59500 نسمة، يُشكِّلون 12200 أسرة، منها 10 آلاف أسرة زراعية، و1750 أسرة خدمات، و700 أسرة بالقطاع الثانوي، في ما قُدِّرَتْ الفترة الزمنية اللازمة لتوطين الأسر بعشرة أعوام، وقد مُنِحَ المشروع مجالاً لزيادة عدد السكان، إلى جانب ما تقتضيه هذه الزيادة من خدمات، فكان من المتوقَّع حسب المشروع، أن تصل الزيادة في عدد السكان، خلال 25 عاماً، إلى 85000 نسمة. للمزيد من المعلومات حول "مشروع سيناء" ينصح بالعودة إلى كتابي حسين أبو النمل "قطاع غزّة 1948- 1967 تطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية وعسكرية"، الصادر عن مركز الأبحاث الفلسطينية عام 1979، وكتاب معين بسيسو "دفاتر فلسطينية"، الصادر عن دار الفارابي عام 1978.
لم يُنفِّذ عبد الناصر المطلبيْن الأوّليْن فحسب، بل زاد عليهما تشكيل "الكتيبة 141 فدائيون"
نستطيع اعتبار المشروع المعد خصيصًا لتوطين لاجئي قطاع غزّة، من أكثر المشاريع خطورةً، لأنه يطرح تصورًا شاملًا لكيفية تنفيذ المشروع، كما يعكس من الناحية الثانية جدية وكالة الأمم المتّحدة، والحكومة المصرية حول تنفيذه. نظرًا لخطورة هذا المشروع نقدّم في ما يلي عرضًا موجزًا للمسائل التي تطرق إليها التقرير، الذي حدد الغرض من إعداده ألا وهو "تأكيد إمكانية التنفيذ الطبيعية والهندسية لتحويل خمسين ألف فدانٍ في الشمال الغربي لسيناء إلى أراضٍ مزروعةٍ، وكذلك إمكان استيطان جزءٍ من سكان غزّة اللاجئين هناك كأعضاءٍ نافعين عاملين في المجتمع". كما يقرر أيضًا: "التكاليف المقدرة لهذا التعمير، والدخل المحتمل الحصول عليه من المشروع... وسوف يختار سكان المشروع من بين اللاجئين الذين يستوطنون قطاع غزّة حاليًا، والذين قدر تعدادهم في مايو 1955 بحوالي 214000 من بين مجمل سكان القطاع وقدرهم 302000 نسمة، والفرق بين الرقمين هو 88000 يعادل السكان الأصليين للمنطقة". وقد اقترح قيام نوع من "الحكم المحلي"، وفقًا للأرقام التي أوردها كتاب حسين أبو النمل، المشار إليه سابقًا.
الرد الشعبي على "مشروع سيناء"
قُبر "مشروع سيناء" عبر انتفاضةٍ شعبيةٍ، اندلعت في قطاع غزّة، بقيادة تحالفٍ شيوعيٍ - إخوانيٍ يتيم، اندلعت على مدار الأيّام الثلاثة الأوّلى من مارس/آذار 1955، احتجاجًا على عدوانٍ عسكريٍ إسرائيليٍ على بئر الصفا، ومنطقة البوليس الحربي، في ضواحي مدينة غزّة في 28/2/1955م، ذهب ضحيّته 39 جنديًا مصريًا وفلسطينيًا وسودانيًا. ولم تتوقف تلك الانتفاضة، إلّا بعد أن سقط فيها عددٌ قريبٌ من عدد شهداء الهجمة الإسرائيلية، وفقًا لكتاب عبد القادر ياسين "الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين"، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت 2020.
من مدرسة فلسطين الثانوية الرسمية في غزّة، كان أحد قادة التظاهرة الطلابية يردد شعارًا هو: "كتبوا مشروع سيناء بالحبر، وسنمحو مشروع سيناء بالدم"، استنادًا إلى كتاب معين بسيسو المذكور سابقًا.
امتدت احتجاجات وتظاهرات غزّة إلى خانيونس ورفح، حيث قامت جموعٌ من اللاجئين العرب الفلسطينيين بإحراق مخازن الأمم المتّحدة... وبتوجيه الإهانات للجيش الذي فشل في حماية نفسه، وفي حماية قطاع غزّة من الهجوم "الإسرائيلي"، وقذفت الجماهير السيارات التي تقل جنودًا مصريين بالحجارة، وقد عجزت الوحدات المصرية المسلّحة عن ضبط أعمال العنف على الرغم من إطلاقها النار فوق رؤوس المتظاهرين، كما أطلقت النار على الجموع التي تحاصر الضباط. كان طلب كلّ اللاجئين بالسلاح، سواء المتظاهرين في الشوارع، أو على لسان ممثلي اللاجئين عند حديثهم مع المسؤولين المصريين في المكاتب، إذ كانوا يقولون: "أعطونا السلاح وسوف ندافع عن أنفسنا"، كما ورد في كتاب حسين أبو النمل ذاته.
حملت التظاهرات شعار "لا توطين ولا إسكان ... يا عملاء الأميركان"، و"العودة ... العودة حقّ الشعب". وبدأت الشرطة والمباحث وجنود الجيش المصري بالتصدّي للمسيرة وقررت السلطة أن تواجه الحناجر بالرصاص، أطلقوا النار على المتظاهرين وصوبوا بنادقهم على قائد المسيرة معين بسيسو ،الذي كان على رأس التظاهرة، وسقط الرفيق حسني بلال (عامل النسيج من المجدل واللاجئ إلى غزّة، والمقيم في حارة الفواخير) ، محتضنًا شعار حزبه "كتبوا مشروع سيناء بالحبر، وسنمحو مشروع سيناء بالدم"، في هذه اللحظات هب معين بسيسو ممزقًا قميصه وفاتحًا صدره للرصاص وهو يهتف: "يا فم حسني بلال ... الدم سال وقال". وهو ما نقله معين بسيسو في كتابه المذكور سابقًا.
إسقاط "مشروع سيناء"
بدأت المفاوضات لجَسر الهُوَّة بين قيادة الجماهير، ومواقفها العادلة، وبين الإدارة المصرية التي لم ترفض، قبل نُشوب الانتفاضة، تنفيذ عملية التوطين. تركَّزت مطالب الجماهير الشعبية الفلسطينية، وقيادتها حينذاك، كما نقلها معين بسيسو في كتابه المذكور قبل قليل على:
- أن تعلن أجهزة الاعلام الرسمية كافّة إلغاء "مشروع سيناء".
- تدريب وتسليح المخيّمات الفلسطينية حتّى تتمكَّن من الدفاع عن نفسها في مواجهة الغارات "الإسرائيلية".
- محاكمة المسؤول عن قتل الرفيق حسني بلال، والمسؤولين عن إطلاق الرصاص على المتظاهرين.
- إطلاق الحريَّات العامّة، وعلى رأسها حريَّة النشر، والاجتماع، والإضراب.
- عدم المساس بحرية الذين تظاهروا في اليوم الأوّل والثاني والثالث من انتفاضة مارس/آذار 1955، الذين يجسدون قلب وروح الشعب والوطن.
نستطيع اعتبار المشروع المعد خصيصًا لتوطين لاجئي قطاع غزّة، من أكثر المشاريع خطورةً، لأنه يطرح تصورًا شاملًا لكيفية تنفيذ المشروع
لم يُنفِّذ جمال عبد الناصر المطلبيْن الأوّليْن فحسب، بل زاد عليهما تشكيل "الكتيبة 141 فدائيون"، وأوكل قيادتها إلى مدير المخابرات الحربية المصرية في قطاع غزّة، البكباشي (المقدم) مصطفى حافظ، وضمت نحو سبع مائة فدائي فلسطيني، ممن أخرجهم حافظ من السجون المصرية، وحدّد لكلٍّ منهم راتبًا قدره تسعة جنيهاتٍ شهريًا، بالإضافة إلى علاوةٍ - على كلّ عمليةٍ فدائيةٍ -، بعد أن كانوا مسجونين بتهمة "التسلُّل" إلى وطنهم المغتصب! وألحَقت الكتيبة، خلال بضعة أسابيع (25/8/1955 - 22/1/1956م) بإسرائيل خسائر بشريةٍ فادحةٍ، نحو1400 قتيلٍ، هزَّت المشروع الصهيوني من جذوره، وكانت ضمن المحفِّزات التي سرَّعت في ظهور حركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة، كما عجَّلت تلك الانتفاضة بانعطاف عبد الناصر نحو المشروع القومي التقدّمي، حين عقد "صفقة الأسلحة التشيكية"، خريف العام نفسه، الأمر الذي استنكرته الإدارة الأميركية، فرد عبد الناصر بعقد صفقةٍ ثانيةٍ؛ هنا غيَّرت الإدارة الأميركية تكتيكاتها في التعامل مع نظام عبد الناصر محاولةً احتوائه، وعرضت عليه تمويل "السد العالي"، وفي إثرها جاء كلٌّ من البنك الدولي وحكومة لندن، إلّا أن الثلاثة سحبوا عروضهم، بمجرد اعتراف عبد الناصر بالصين الشعبية في مايو/أيّار 1956م، الأمر الذي كانت الإدارة الأميركية تؤثِّمه، وتُعاقب عليه. فكانت مصر أوّل دولةٍ عربيةٍ، وأفريقية، تُقدم على هذا التحدّي لواشنطن، وفقًا لكتاب عبد القادر ياسين المشار إليه سابقًا.
السؤال المطروح الآن: هل هناك عاقل لا يزال يعتقد أنّ هناك قبولًا فلسطينيًا للتوطين في سيناء؟ بعدما رفض الفلسطينيون مشاريع التوطين فيها من قبل، رغم الضغوط الدولية للتوطين آنذاك!
الإجابة؛ رغم عدم الحاجة للتأكيد عليها، هي: لن يقبل شعبٌ ناضل لسبعة عقودٍ ونيف، وفَقَدَ الآلاف من أبنائهِ، وتحمَّل عنصريَّة الاحتلال، وطغيانه أن يترك أرضه ويرتحل، لا سيّما بعدما رفض مخططات توطينه في أراضٍ مصريةٍ سابقًا.