استمع إلى الملخص
قام رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بزيارة برلين وباريس لتصحيح العلاقات بعد بريكست، واتفق مع ألمانيا على معاهدة تشمل التجارة والدفاع والهجرة.
- **التعاون البريطاني الفرنسي:**
ركزت المباحثات بين بريطانيا وفرنسا على الهجرة والطاقة والأمن، مع التزام مشترك بأمن الشرق الأوسط واهتمام خاص بقضية المهاجرين عبر قناة المانش.
- **أسباب الاستدارة نحو أوروبا:**
تشمل الأسباب الرأي العام ضد بريكست، الفشل الاقتصادي، الحرب الروسية على أوكرانيا، وتخوف أوروبي من عودة ترامب، مع معارضة داخلية لستارمر.
زيارة رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر برلين وباريس خلال الأسبوع الأخير من شهر أغسطس/آب الماضي، شكّلت خطوة مهمة من أجل تصحيح الاختلالات في العلاقات التي نجمت عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومبادرة من قبل حكومة يسار الوسط البريطانية، بعد أقل من شهرين على وصولها إلى الحكم، من أجل مصالحة بريطانيا مع ألمانيا وفرنسا، بعد أعوام عدة من الجفاء، بسبب إدارة الظهر من قبل حكومة حزب المحافظين السابقة لأوروبا.
كير ستارمر يزور برلين وباريس
وعكست زيارة كير ستارمر برلين وباريس على التوالي، توجهاً للعودة الى دائرة القوة السياسية والاقتصادية الأوروبية، من بوابة العلاقات البينية. وبدا ذلك واضحاً من الاتفاق مع ألمانيا (خلال الزيارة) على توقيع معاهدة مطلع العام المقبل، تتضمن تعاوناً في مجالات التجارة والدفاع والهجرة. ومن موقع المبادر إلى فتح صفحة جديدة، تعهد ستارمر بتوثيق العلاقات التجارية مع ألمانيا، واصفاً المساعي "لإعادة إطلاق العلاقات" بأنها "فرصة تحدث مرة في كل جيل"، متعهداً بعلاقات أوثق في ما يتعلق بـ"العلوم والتكنولوجيا والتطوير والأعمال والثقافة". وقد تجاوب المستشار الألماني أولاف شولتز مع التوجه البريطاني، وأبدى استعداد برلين لوضع العلاقة "على أسس جديدة كلياً، وسنعمل على تحقيق ذلك خلال الأشهر المقبلة".
ساءت الأمور للغاية بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي في عهد المحافظين
ووصف شولتز الاتفاقية الثنائية التي سيعمل عليها الطرفان، بأنها "لم تحدث في السابق في تاريخ العلاقات بين البلدين"، وأنها تظهر أن بريطانيا "شريك خاص" لألمانيا. وأوضح المستشار الألماني أن التفاهمات الجديدة بين برلين ولندن، تتجاوز الإطار الثنائي إلى الحرب الروسية على أوكرانيا، والوضع في الشرق الأوسط، واصفاً بريطانيا بأنها "لطالما كانت شريكاً أساسياً لا غنى عنه في حلّ المشاكل العالمية، وأن هذا لم يتغير منذ مغادرتها الاتحاد الأوروبي". وبناءً على هذا، حرص البيان المشترك على أن الاتفاقية في الإطار الأوروبي، ستعكس "الروابط المتنوعة بين البلدين والشعبين والحكومتين استناداً إلى عضوية ألمانيا في الاتحاد الأوروبي وعلاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي".
وعلى غرار ألمانيا، تعد فرنسا شريكاً سياسياً وأمنياً رئيسياً لبريطانيا، وهما على نفس الموجة في العديد من الملفات البينية والدولية الحسّاسة. وعلى المستوى الثنائي، تشكل الهجرة والطاقة والأمن ركائز العلاقة بين باريس ولندن. وعلى الصعيد الدولي تتشاركان ملفات عدة في الشرق الأوسط؟ وكان من اللافت الزيارة المشتركة التي قام بها الشهر الماضي وزيرا خارجية البلدين، الفرنسي ستيفان سيجورنيه والبريطاني ديفيد لامي، إلى السلطة الفلسطينية وإسرائيل وعدد من الدول العربية، وإصدارهما في ختامها بياناً مشتركاً جاء فيه أن "المملكة المتحدة وفرنسا متحدتان وراء مجموعة مشتركة من الرسائل، التي نقلناها إلى كل من الإسرائيليين والفلسطينيين... وباعتبارنا عضوين دائمين في مجلس الأمن، لدينا مصلحة مشتركة، بل وأيضاً مسؤولية مشتركة، بأن نلعب دورنا لضمان أمن إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك استقرار المنطقة ككل".
وركّزت وسائل الإعلام الفرنسية على أن المباحثات عكست مدى قلق البلدين من "قضية المهاجرين الذين يعبرون قناة المانش إلى المملكة المتحدة على متن قوارب". ونظراً لحساسية هذه القضية، اعتبرها رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الهدف الأول للزيارة في بيان أصدره قبيل توجهه إلى باريس، خصوصاً أن عدد المهاجرين الوافدين إلى بريطانيا بلغ مستوى قياسياً خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي، وفقاً للندن، حيث زاد بنسبة 18% على أساس سنوي ليصل إلى 13500 شخص.
عودةٌ إلى أوروبا
عكست الزيارتان اللتان قام بهما كير ستارمر إلى برلين وباريس، عواطف حارة، ظهرت بارزة في الاستقبال والاهتمام الذي لقيه في العاصمتين الأوروبيتين، وكذلك جرى تثمين مبادرته، حيث إن الزيارتين جاءتا بعد أقل من شهرين من وصوله للحكم، في حين أن سلفه (المحافظ) ريشي سوناك انتظر 18 شهراً في رئاسة الوزارة، حتى زار ألمانيا وفرنسا. ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال، أن بريطانيا تنوي العودة إلى الاتحاد الأوروبي، ولا حتى إعادة النظر في بريكست، بل هي من قبيل محاولة الحكومة البريطانية الجديدة "لإعادة ضبط" العلاقات مع أوروبا، لا سيما بعد سنوات من التوتر بين لندن وباريس، حيث ساءت الأمور للغاية في ظل حزب المحافظين، وخصوصاً مع رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، الذي ازدرى الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) علناً، عندما صرح بأنه "شعر بأنه ليس لديه شريك موثوق به" في فرنسا.
هناك رأي عام واسع ضد بريكست في بريطانيا، وربما فاقت نسبته صفّ تيار الطلاق مع أوروبا
الاتحاد الأوروبي، كان يتحرك في السابق بقوة دافعة من ثلاث دول هي فرنسا وألمانيا وبريطانيا، تشكل قلب أوروبا ومركز ثقلها الجغرافي والتاريخي، وهي التي تحكمت بقرارات الحرب والسلم، وبالسياسة والاقتصاد، وعلى الدوام كانت لندن تضع قدماً داخل أوروبا وأخرى خارجها وتميل إلى الطرف الآخر من المحيط الأطلسي، نحو الولايات المتحدة، تاركة لكل من باريس وبرلين قيادة القاطرة الأوروبية، ولكنها لم تقطع حبالها معهما، حتى جاء بريكست على يد حزب المحافظين والقوى الشعبوية المناهضة للأجانب، فأدارت لندن ظهرها، وأوصدت أبوابها مع أوروبا في الفترة التي تولى فيها بوريس جونسون رئاسة الحكومة البريطانية في الفترة ما بين 2019 و2022، وشهدت خلالها العلاقات مع باريس أسوأ مراحلها.
حاول رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك أن يصلح ما أفسده جونسون مع الاتحاد الأوروبي، وقام بخطوات مهمة لم تحقق نتائج ملموسة، وذلك من خلال التفاوض بهدف بناء علاقة أكثر مرونة وفائدة تكون مفتوحة في الاتجاهين، على غرار تلك التي بين سويسرا والاتحاد الأوروبي منذ عقود، وذلك من خلال اتفاق التجارة الذي أبرمته بريطانيا بعد بريكست مع الاتحاد الأوروبي. وكان هدف سوناك أن يعود بالاقتصاد البريطاني إلى حالة من التوازن والاستقرار، ويرى في الأفق فرصة مناسبة في إعادة التفاوض مع أوروبا، بخصوص العديد من القوانين الخاصة بحركة رؤوس الأموال والهجرة وتأشيرات السفر.
لم تنجح مساعي سوناك بسبب التداعيات الكبيرة التي ترتبت على بريكست، ومن هنا أراد رئيس الوزراء الجديد كير ستارمر أن يستفيد من الخطوط العامة التي وضعها، ويترجمها على طريقته وأسلوبه الخاص، ولذلك طرق الباب الأوروبي من برلين، التي تمتلك معها لندن أقوى علاقات اقتصادية على المستوى الأوروبي.
فتور أميركي
عدة أسباب تدفع ستارمر للاستدارة نحو أوروبا، أولها، أن هناك رأياً عاماً واسعاً ضد بريكست في بريطانيا، وربما فاقت نسبة المؤيدين للعودة إلى الاتحاد الأوروبي نظيرتها في صفّ تيار الطلاق مع أوروبا. وهو يستفيد بذلك من متغيرات بريطانية داخلية عديدة، منها على مستوى التاج البريطاني مع تولي الملك تشارلز العرش.
هناك سبب مهم وراء تلاقي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، هو تخوف الأوروبيين من عودة ترامب إلى البيت الأبيض
والسبب الثاني اقتصادي، حيث عادت العلاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي إلى الحمائية في الاتجاهين، لكن بريكست فشل في إحداث نقلة نوعية بالاقتصاد البريطاني، وثبت قصور نظرية أن بريطانيا قادرة أن تعيش وتزدهر خارج أوروبا من خلال بناء شراكات اقتصادية مع الولايات المتحدة، وبعض دول الخليج وشرق آسيا.
وكما هو منظور لن تكون هناك عقبات كبيرة تقف في طريق إعادة التفاوض مع بلدان أوروبا، باعتبار أن لندن ترجع إلى جيرانها، وهي تعترف بعدم قدرتها على العيش منفردة. وتشكل الحرب الروسية على أوكرانيا ظرفاً مناسباً من أجل التقارب بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وهو تقارب يمثل قوة للطرفين، في وقت تعاني فيه أوروبا من ضعف كبير بسبب الفاتورة الكبيرة التي ترتبت عليها من جرّاء الحرب، بالإضافة إلى محاولات تهميشها على المستوى الدولي من طرف الولايات المتحدة، بما في ذلك بريطانيا الحليف التاريخي. وقد لوحظ أن فوز حزب العمال البريطاني في يوليو/تموز الماضي بالانتخابات التشريعية، مرّ بفتور في واشنطن رغم القرابة الفكرية والسياسية بين العمّال والديمقراطيين. ومن المرجح أن يسوء الوضع في حال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
أما السبب الثالث، فقد لخّصه ستارمر بالقلق تجاه "ما يحدث في المملكة المتحدة، وبما ترونه يحدث في بلدان أوروبية أخرى، بما في ذلك فرنسا وألمانيا"، خصوصاً أن الحكام الثلاثة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا ينتمون بمسافات متفاوتة إلى يسار الوسط، وتواجه بلدانهم نمواً متسارعاً لقوى اليمين المتطرف والشعبوية. وقد عاشت بريطانيا خلال الشهر الماضي، أحداث شغب حركها اليمين المتطرف، وشهدت فرنسا فوزاً كاسحاً لحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في الانتخابات الأوروبية والتشريعية، وتواجه ألمانيا نمو قوة حزب "البديل"، الذي يهدد الائتلاف الحاكم في انتخابات العام المقبل.
هناك سبب مهم وراء تلاقي الثلاثي، الذي يشكل أكبر قوة سياسية واقتصادية وعسكرية في أوروبا، هو تخوف الأوروبيين من عودة ترامب إلى البيت الأبيض بعد الانتخابات الأميركية المقرّرة في 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، خصوصاً بعد تحذيراته المتكررة للشركاء الأوروبيين من أنهم سيتعين عليهم الدفاع عن أنفسهم، وأنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تستمر بالدفاع عنهم. كما يتخوف الأوروبيون من عدم التزام ترامب بالاستمرار بدعم أوكرانيا في الحرب ضد روسيا، لا سيما وأن الدول الثلاث تتحمل القسط الأكبر بعد الولايات المتحدة من التزامات دعم أوكرانيا، وخصوصاً ألمانيا ثاني أكبر مزودي أوكرانيا بالسلاح بعد الولايات المتحدة.
على العموم، هناك معارضة بريطانية صريحة لتوجه كير ستارمر الجديد من قبل الأطراف التي قادت عملية بريكست، ويلخص ذلك تعليق وزير الاقتصاد في حكومة الظل المحافظة كيفين هولينراك على زيارة رئيس الوزراء البريطاني برلين وباريس، بقوله: "لقد أمضى ستارمر حياته السياسية بأكملها في التخطيط لعكس خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لذلك لا يتطلب الأمر عبقرياً لمعرفة إلى أين تتجه حكومة حزب العمّال الجديدة".