انطلق اليوم الإثنين، في ليبيا مسار المصالحة الوطنية، وفق خريطة الحلّ الأممي للأزمة في هذا البلد، وذلك من خلال عقد خمسة ملتقيات، تستمر حتى نهاية يونيو/حزيران الحالي، وتشارك فيها فعاليات ليبية من مختلف الشرائح والأطياف، للعمل على بناء "مفوضية المصالحة الوطنية".
وأعلن المجلس الرئاسي في ليبيا، مطلع شهر إبريل/نيسان الماضي، عن تأسيس المفوضية الوطنية للمصالحة، لكنه عاد فأعلن، ليل أمس الأحد، عن إطلاق ملتقيات للمصالحة الوطنية، ابتداء من اليوم الإثنين. هذه الملتقيات، تستمر شهراً، على أن "يقدم خلالها المواطنون آراءهم حول هيكلة مفوضية المصالحة وإنجاز عملية المصالحة"، وفقاً لمؤتمر صحافي للمتحدثة باسم المجلس الرئاسي، نجوى وهيبة.
وأوضحت وهيبة أن "هذا الحراك سيجتمع فيه الليبيون من الأطياف والمكونات الاجتماعية كافة، لكي يقرروا ويقدموا آراءهم في ما يخص هيكلة المفوضية"، لافتة إلى أن عملية المصالحة الوطنية ستبدأ على أساس نتائج هذه الملتقيات.
تستمر هذه الملتقيات شهراً، على أن يقدم خلالها المواطنون آراءهم حول هيكلة مفوضية المصالحة وإنجاز عملية المصالحة
وقالت المتحدثة باسم المجلس الرئاسي إن "المجلس قرّر هيكلة المفوضية بطريقة أفقية، عوضاً عن الترشيح والتعيين المباشر"، مشيرة إلى أن الحراك سيشارك فيه فاعلون ضمن ملتقيات في عدد من المسارات.
وكان نائب رئيس المجلس الرئاسي، عبد الله اللافي، قد أشار إلى قرار المجلس تشكيل المفوضية من رئيس وستة أعضاء، خلال تصريحات صحافية صدرت عنه في مطلع مايو/أيار الماضي.
وقدّم مقرر "الاتحاد العام لمجلس المصالحة الأهلية"، فرج الفيتوري، المزيد من الشرح حول عمل الملتقيات، موضحاً أنها تضم: ملتقى القانونيين، ملتقى الشباب والنساء، ملتقى علماء الدين، ملتقى المجالس البلدية، وملتقى المجتمع المدني والأكاديميين.
وأضاف الفيتوري، وهو مقرر الاتحاد الذي عمل ضمن اللجان الفنية والاستشارية التي شكّلها المجلس الرئاسي لإطلاق أعمال مفوضية المصالحة، أن "ملتقى القانونيين هو أول الملتقيات المنطلقة اليوم، ويضّم خبراء قانونيين للمشاركة في وضع تصور قانوني لتأطير المفوضية ولتحصين نتائجها، ولذا فأولوية انعقاده قبل المتلقيات الأخرى ضروري". ولفت إلى أن الملتقيات الأخرى ستنعقد بعده، بعضها بالتوالي، وبعضها بالتوازي.
وبحسب الفيتوري، فإن الملتقيات الخمسة "ستفرز في نهاية أعمالها نخبها، لعقد مؤتمر شامل لصياغة كلّ المقترحات وإحالتها للمجلس الرئاسي، ليشكل على أساسها هيكلية المفوضية والتي من خلال ستبدأ أعمال المصالحة"، لافتا إلى أن من بين المقترحات "اقتراح أسماء شخصيات لعضوية المفوضية".
وحول مهمة المجلس الرئاسي، قال الفيتوري إن "دوره سيكون إشرافياً فقط، بتوفير الدعم اللوجستي وتسهيل عملية عقد اللقاءات"، مضيفاً أن المجلس "وضع في السابق تصوراً لهيكلة المفوضية، لكنه أدرك أهمية انخراط كافة القوى والشرائح الوطنية في مشروع المصالحة، ولذلك فقد أطلق المسار الحالي لإشراك أكبر قدر ممكن من الليبيين".
وعانت ليبيا منذ 10 سنوات من أزمات وحروب متوالية، أدّت إلى انقسام سياسي حاد دام ست سنوات، ونتج عنها إرث ثقيل من الشروخ الاجتماعية والانتهاكات المختلفة لحقوق المدنيين.
ومنذ عام 2012، أطلقت سلطات البلاد السياسية وفعاليات اجتماعية العديد من المحاولات لعقد لقاءات للمصالحة، كما تأسست مجالس وروابط أهلية دعت أيضاً للمصالحة. لكن تفجر الأوضاع الأمنية بدءاً من الحرب التي أطلقها اللواء المتقاعد خليفة حفتر في بنغازي (شرق ليبيا) في 2014، وتوسعت لتشمل أغلب أجزاء البلاد انتهاء بحصار العاصمة طرابلس، عرقلت تلك الجهود وأنتجت ملفات ثقيلة، على رأسها الملفات الجنائية.
الترهوني: استحقاق المصالحة تقف أمامه عقبة كبيرة تتمثل في الحقوق المدنية والجنائية
وتعليقاً على ذلك، اعتبر الحقوقي الليبي عبد المنعم الترهوني، أن استحقاق المصالحة تقف أمامه عقبة كبيرة تتمثل في الحقوق المدنية والجنائية، لافتاً إلى أن الملتقيات الخمسة خلت تماماً من إشارة إلى وجود القادة الأمنيين. وتساءل الترهوني في حديث لـ"العربي الجديد"، عن "مدى قدرة المجلس الرئاسي على إنجاز مصالحة وطنية، فيما السلاح لا يزال موجوداً على الأرض، وخطوط التماس قريبة بين أطراف الصراع ذاتها". وقال أيضاً: "ماذا عن مقابر ترهونة الجماعية؟ هل ستكتفي مفوضية المصالحة بردمها على أصحابها وتدعو أهل المفقودين لنسيانهم؟".
ورأى الترهوني أن الإعلان هو "مجرد فقاعة إعلامية"، مضيفاً أن "المتورط الأول (في الحرب) كان يستعرض قوته (أول من أمس السبت) ويهدد ويتوعد"، في إشارة إلى العرض العسكري الذي نظّمته مليشيات حفتر في مطار بنينا العسكري، شرقي ليبيا. وتساءل الحقوقي الليبي مجدداً: "كيف سيستطيع المجلس الرئاسي جبر ضرر ضحايا حروب (حفتر)"، لافتاً إلى أن أكبر مدن ليبيا، العاصمة طرابلس وبنغازي، هما من أكثر مدن البلاد التي تعجّ المسلحين".
ورأى الترهوني أن الأساس القانوني لأي مصالحة، يجب أن يقوم على أساس جبر الضرر، مؤكداً أن عوامل الفوضى والعودة للاحتراب واتساع الخرق الاجتماعي لا تزال قائمة. وقال إن "هناك أطرافاً سياسية أيضاً لا تزال في المشهد، وستخشى من تشكل تيار وطني جرّاء المصالحة، سيجبرها على تمرير الميزانية للحكومة والإيفاء باستحقاق الانتخابات، ولذا فإنها ستعمل على عرقلة هذا المسار". وختم بقوله إن "هناك سؤالا مهما، يتمحور حول من سيختار المشاركين في الملتقيات الخمسة، وما هي الآليات"، متحدثاً عن "الكثير من الغموض" الذي يكتنف عمل هذه الملتقيات.
في المقابل، رأى الباحث الليبي في الشأن السياسي، خليفة الحداد، أن المتغير الدولي قد يشكل عاملاً قوياً لإنجاز المصالحة، موضحاً أن "الإرادة الدولية تقف حائلاً دون عودة الاحتراب والانقسام، ولذا ففرض الليبيين لأنفسهم من خلال هذا المسار أمر ممكن جداً".
وأعرب الحداد، في حديث لـ"العربي الجديد"، عن تفاؤله، بالإشارة إلى تشكيل عدد من الحراكات الأهلية في الجنوب للمطالبة بتحسين الخدمات، وأخرى للمصالحة بإنجاز الانتخابات، ما رأى فيه "مؤشرات على إمكانية تكون حراك أهلي آخر، يدفع بالمسار الحالي إلى إنجاز مصالحة حقيقية تشكل عاملاً ضاغطاً على الحكام والطبقة السياسية لنقل البلاد إلى مرحلة أفضل". لكنه حذّر في الوقت ذاته من توجيه مسار المصالحة لصالح مصالح أطراف خارجية، لا تزال في حالة تنافس في الملف الليبي.
وأكد الحداد أن مراحل المصالحة والحوار حولها، لن تكون بعيدة عن ملفات شائكة في ليبيا، كتوغل المرتزقة والتردي الأمني وانتشار السلاح، وما نتج عن كل ذلك من تردي الاقتصاد وفقر المواطن، مطالباً بضرورة انخراط منظمات المجتمع المدني والحراكات الأهلية في هذا مسار لضمان عدم تسييسه واستغلاله من أي طرف.