في العادة، عند هذه المسافة المتبقية للانتخابات النصفية الأميركية، تكون وجهة المعركة قد تبلورت ومعادلتها ارتسمت، ويكون تعديل كفتي ميزانها قد فات أوانه. المفاجآت فيها تبقى عموماً في حدود تقليص الفوارق وليس تغييرها، بحيث يمكن أن تضعف الغلبة فيها، لكن ليس بالمقدار الذي ينقلها إلى خانة الهزيمة. خلاصة أرقام الاستطلاعات التي نادراً ما تخطئ في مثل هذا الوقت، تقول إن الحزب الجمهوري يتقدم بـ2.2 نقطة على الحزب الديمقراطي.
ترجمة هذه الأرقام في مجلس النواب تعني فوز الأول بأكثرية تزيد على 30 مقعداً، بحيث يحتل 233 مقعداً مقابل 202 للديمقراطي (تركيبة المجلس الحالية 220 ديمقراطيا، 212 جمهوريا و3 شغور). وفي مجلس الشيوخ تكون الترجمة منع الحزب الديمقراطي من حصد الأكثرية (أي أكثر من 50 مقعداً) من دون استبعاد مفاجأة تعطي الحزب الجمهوري الغالبية، ولو بصوت واحد، وإن كان ذلك غير مرجح.
وعليه، في أحسن الأحوال، تكون إدارة الرئيس جو بايدن قد خسرت أحد المجلسين، بما يضمن عرقلة المتبقي من أجندتها ورئاستها بصورة قد تؤثر سلباً على وضع الحزب الديمقراطي في انتخابات 2024 الرئاسية، بل قد تهدد بعض إنجازات بايدن.
الأرقام كانت لصالح بايدن وحزبه لغاية حوالي منتصف سبتمبر/ أيلول الماضي. مشاريع القوانين الصحية والضريبية والمناخية التي مررتها إدارته في الكونغرس خلال الصيف أعطت رئاسته شحنة زخم رفعت من رصيده (إلى فوق 42 بالمائة)، وانعكست بصورة إيجابية على وضع مرشحي حزبه. لكن الرياح الانتخابية بدأت تنفخ في الاتجاه المعاكس، مع الفورة التي شهدتها أسعار الطاقة بعد قرار أوبك بخفض الإنتاج.
وزاد الطين بلة أن معدلات التضخم لم تتزحزح، على الرغم من الإجراءات القاسية التي اتخذها الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) برفعه أسعار الفائدة 3 مرات، وبما بات يهدد بإدخال الاقتصاد في حالة ركود. هذا الانقلاب في المزاج الانتخابي أربك الإدارة وحزبها في التعامل معه.
ولاستدراك الهبوط، سارع خندق الرئيس إلى الاستعانة بأوراق ضعفت أولويتها في حسابات الناخب، مثل موضوع الإجهاض الذي سبق وأثار ردة فعل سلبية ضد الجمهوريين، بعد أن جرّدته المحكمة العليا المحسوبة أكثريتها عليهم من ضمانته الدستورية في مطلع الصيف الماضي. لكن محاولة إحياء النقمة على الجمهوريين من هذا الباب بقيت بلا جدوى.
الناخب الأميركي يقترع عموماً "عبر جيبه"، خصوصاً في الظرف الحالي، حيث يبدو أن الغالبية، خصوصاً من المستقلين، حسمت خياراتها في ضوء الوضع الاقتصادي وحالة التضخم. وقد عمل الحزب الجمهوري وبنجاح على تأجيج النقمة السياسية في هذا الخصوص، على ساكن البيت الأبيض، لمحاسبته عبر صندوق الاقتراع.
كما عمل اليمين المتشدد على تضخيم فزاعة "الاستبدال" التي تقوم على نظرية المؤامرة الرامية إلى تحويل أميركا إلى مجتمع "أقليات من الملوّنين والغرباء"، بمن فيهم اليهود، وذلك من خلال خطاب يثير تخويف العنصريين البيض واستنفارهم إلى أقصى الحدود عشية الانتخابات، وربما تحضيرهم لأي منازعات تنجم عن الانتخابات، واحتساب الأصوات، وبالتالي تقرير النتائج.
هذه الأجواء أهمل الحزب الديمقراطي توظيفها لتوجيه الناخب نحو الاقتراع لمرشحيه. وكان ذلك متاحاً في ضوء تنامي المخاوف على الديمقراطية الأميركية، حيث بات 71 بالمائة من الأميركيين يرون أنها دخلت دائرة "الخطر". غياب التصويب والتركيز على هذا التهديد أفقد "الديمقراطي" فرصة للتأثير على خيارات الناخب. فـ"الديمقراطي" فشل في تسويق سياساته التي أدت إلى انخفاض البطالة إلى معدل تاريخي (3.5 بالمائة)، كما في شرح موضوع التضخم كظاهرة عالمية نتجت عن كوفيد وفاقمتها حرب أوكرانيا.
هذا القصور أفسح المجال للحزب الجمهوري لتحويل الانتخابات إلى استفتاء حول رئاسة بايدن، بدلاً من أن تكون منافسة بين السياسات والطروحات. خصوم الرئيس حققوا تقدمهم من خلال التخويف من توجهات الديمقراطيين، وتصنيف سياساتهم في خانة "الاشتراكية"، وحتى "الشيوعية التي تتربص بممتلكات وأموال الأميركيين"، وما شابه ذلك من أساليب التأليب التي حفلت بها منابر التواصل الاجتماعي المناوئة للبيت الأبيض وحزبه.
قوة "الديمقراطي" أنه متقدم في الطروحات، وإن كان بعضها مبالغا فيه في الوقت الحاضر. مشكلته أنه فاشل لا يتقن الإخراج، بعكس "الجمهوري" المتفوق في التسويق ولو السلبي. ورقته الأخرى أنه في هذه الانتخابات قد يتفوق على "الديمقراطي" في نسبة الإقبال المتوقع لمؤيديه على الاقتراع، والتي تبقى أحد المفاتيح الأساسية للفوز في الانتخابات.