لم تقع تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن عن "محاسبة منتهكي حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم" برداً وسلاماً على مسامع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. فعلى الرغم من ارتباط هذه التصريحات بشكل أساسي بالاتصال الذي أجراه بايدن يوم الخميس الماضي مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، وحذّر فيه من اتخاذ "قرارات حاسمة" بعضها سيعلن اليوم الاثنين، إزاء قضية اغتيال جمال خاشقجي، إلا أن استهلال بايدن علاقته بالحليف الأبرز لبلاده في المنطقة بهذه الصورة يعكس تغييراً في قواعد اللعب، ربما يطاول علاقة واشنطن "الاستراتيجية" بمصر. ويأتي ذلك في وقت بات من الملحوظ فيه تماماً للنظام المصري أن بايدن يتحاشى حتى الآن التواصل المباشر مع السيسي، وهو ما لا يمكن تفسيره، بناءً على معطيات عديدة سابقة، إلا بأنه "صمت مقصود"، وسلبياته أكثر من إيجابياته.
بات من الملحوظ للنظام المصري أن بايدن يتحاشى حتى الآن التواصل المباشر مع السيسي
وقال بايدن في تصريحات عقب الكشف عن محتوى تقرير الاستخبارات الأميركية المتعلق بمقتل خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2018: "سنحاسبهم على انتهاكات حقوق الإنسان، وسنتأكد من أنهم، في الواقع، إذا كانوا يريدون التعامل معنا، فعليهم التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان. نحن نحاول القيام بذلك في جميع أنحاء العالم". وبالتزامن مع الاهتمام الأميركي بالقضية، نشر السيسي على حسابه الشخصي على "تويتر" تهنئة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان على "تمام الشفاء والعافية" من عملية جراحية أجراها الأخير. أما التعليق المصري الوحيد، فصدر من النائب والإعلامي مصطفى بكري، المعروف بقربه من الاستخبارات العامة المصرية والنظام السعودي، إذ نشر تغريدة على "تويتر"، حذّر فيها من تكرار هذا السيناريو ضدّ مصر.
وذكرت مصادر دبلوماسية في الخارجية المصرية أن "هناك حالة من القلق وعدم الارتياح تسيطر على القاهرة تجاه تحركات البيت الأبيض، لا سيما منذ اتصال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بنظيره المصري سامح شكري الأسبوع الماضي". وأضافت المصادر أنه "يمكن القول الآن إن هذا القلق يزداد، ولكن هناك ثقة بأن ثمّة فارقاً كبيراً بين الملاحظات التي تسّجلها الأجهزة الأميركية على سجل مصر في حقوق الإنسان، وأزمة خاشقجي، كما أن هناك فارقاً بين ما يمكن استهدافه من السعودية ذاتها، وما يمكن لواشنطن الضغط للحصول عليه من السيسي".
وأضافت المصادر أن النظام المصري مستقر على "عدم التعجل في تقديم تنازلات لإدارة بايدن في المرحلة الحالية، ولهذا كان السيسي حريصاً في الفترة الماضية الفاصلة بين فوز بايدن واتصال بلينكن على تكديس الأوراق التي يمكن له تقديمها على مراحل، لتبدو الأمور وكأنها طبيعية، في إطار إجراءات قانونية أو سياسية داخلية". ويأتي ذلك، وفق المصادر، "مع التسليم في الوقت نفسه بخصوصية الحالات التي تهم واشنطن بصفة خاصة، مثل المعتقلين والمحكوم عليهم حاملي الجنسية الأميركية، وأقارب الناشط السياسي الحقوقي محمد سلطان، ومعتقلي قضية خلية الأمل".
والملحوظ في هذا الشأن أن ثلاثة أشهر تقريباً مرّت على زيارة السيسي إلى باريس، وتسليمه هناك ثلاث قوائم تضم أسماء 40 معتقلاً مطلوباً الإفراج عنهم، منهم معتقلو "خلية الأمل"، وذلك بواسطة نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون وأعضاء في مجلسي النواب والشيوخ. لكن بعدما روّجت شخصيات بارزة من دائرة الرئيس المصري في الأوساط الإعلامية والحقوقية بقرب الإفراج عن عدد معتبر من هؤلاء المعتقلين قبيل ذكرى ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، عاد النظام أدراجه بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض وتجاهله الأوضاع في مصر. وهنا تكمن حساسية المواجهة بين القاهرة وواشنطن، فعلى الرغم من المطالبات الأوروبية المستمرة للإفراج عن المعتقلين وتحسين أوضاع حقوق الإنسان، إلا أن اقتصارها على الشفاهية، وعدم تطويرها إلى أي مستوى يؤزم العلاقة الاستثمارية والعسكرية والاستراتيجية المنتعشة بين دول الاتحاد الأوروبي والقاهرة، يجعل السيسي يضع نصب عينيه فقط طبيعة التحرك الأميركي المقبل.
وخلال زيارة السيسي إلى باريس في شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كانت المشكلة الأبرز هي قضية "خلية الأمل" التي تضم رامي شعث، الناشط ضد الصهيونية والمتزوج من مواطنة فرنسية، ونجل السياسي الفلسطيني الكبير نبيل شعث. وعلى الرغم من الإلحاح الفرنسي المتكرر خلال عام تقريباً، حرص السيسي وسامح شكري على عدم إعطاء أي تعهدات بقرب إطلاق سراح شعث.
وبحسب المصادر السياسية والدبلوماسية، فهناك اعتبارات عدة تحكم وضع رامي شعث، منها صعوبة الإفراج عنه وحده دون باقي معتقلي قضية "خلية الأمل" الذين كانوا يخططون للمشاركة في انتخابات مجلس النواب المصري، كما أن نشاط شعث في مناهضة الصهيونية والتطبيع يمثل عامل إزعاج للأجهزة المصرية. وفي إطار التقارب السياسي الحالي بين السيسي والحكومة الإسرائيلية، فربما سيكون الإفراج عن شعث رسالة سلبية غير مناسبة، كما أن هناك تحفظات من الأمن الوطني تحديداً على خروج جميع المتهمين في هذه القضية، نظراً للضجة التي أثيرت حولها عند اصطناعها، علماً أن جميع المتهمين بها مدرجون على قائمة الإرهابيين، أي ممنوع سفرهم وتصرفهم في أموالهم.
والواقع يقول أيضاً إن مصر تجاهلت بشكل صريح وغير مسبوق البيان الصادر عن البرلمان الأوروبي في ديسمبر/ كانون الأول الماضي (التصويت لصالح انتقاد وضع حقوق الإنسان المتدهور في مصر والمطالبة بمراجعة للعلاقات). وحمل هذا التجاهل رسالة واضحة بعدم الاكتراث، لدرجة عدم التعليق عليه بشكل جاد من قبل وزير الخارجية سامح شكري، الأمر الذي يعكس ثقة السيسي - حتى الآن - بضعف الضغوط الأوروبية، واقتصار قلقه على ساكن البيت الأبيض الجديد.
وتلقى نظام السيسي نصائح من بعض النواب والسياسيين من جماعات الضغط الأميركية التي تكثف مصر التعاون معها، وكذلك من المتعاملين مع شركة "براونستين هيات فاربر شريك" (للعلاقات العامة والضغط السياسي)، بضرورة الاستعداد لاتخاذ إجراءات تعكس رغبة النظام في تحسين أوضاع حقوق الإنسان خلال الفترة المقبلة، بما في ذلك بحث إمكانية الإفراج عن معتقلين ومحكومين من حاملي الجنسية الأميركية. لكن التقديرات الاستخباراتية والأمنية، مشفوعة بـ"رؤية السيسي نفسه"، تتجه إلى عدم المسارعة في ذلك، مع إمكانية إخلاء سبيل "عدد محدود جداً" من المعتقلين "المشاهير"، بحسب مصدر أمني. وقال المصدر لـ"العربي الجديد" إنه من المستبعد حالياً أن يخرج عدد كبير من المعتقلين بشكل جماعي، ولكن نموذج إخلاء سبيل الأكاديمي والكاتب السياسي حازم حسني، المتحدث الرسمي السابق باسم حملة ترشح سامي عنان لرئاسة الجمهورية، "قابل للتكرار".
النظام المصري مستقر على عدم التعجل في تقديم تنازلات لإدارة بايدن في المرحلة الحالية
وكان حسني قد اعتقل في إطار حملة اعتقالات واسعة استهدفت عدداً من الشخصيات السياسية بدأت منذ ما قبل تظاهرات 20 سبتمبر/ أيلول 2019 وحتى أسبوعين بعدها، ثم اتهم في قضية أخرى رقمها 855 لسنة 2020 تضم عدداً كبيراً من المتهمين لا تجمعهم أي روابط تنظيمية أو تنسيقية، وتوجه إليهم اتهامات متنوعة بعضوية جماعة إرهابية محظورة، واستخدام حسابات مواقع التواصل الاجتماعي لنشر الإشاعات الهادفة للإخلال بالسلم والأمن العام.
وسبق أن قالت مصادر مصرية لـ"العربي الجديد" إن بعض الشخصيات في دائرة السيسي كانت تعتبر أن إخلاء سبيل نحو 600 من المتهمين المحبوسين (غير المشاهير) على ذمّة قضايا تظاهرات مختلفة، أبرزها القضيتان 1338 و1413 لسنة 2019 حصر أمن دولة عليا بشأن أحداث تظاهرات سبتمبر/ أيلول 2019، في الفترة بين نوفمبر/ تشرين الثاني ويناير/ كانون الثاني الماضيين، هي بادرة كافية لفتح نقاش مباشر، بدلاً من الاعتماد على الوسطاء، وذلك استجابة لنصائح تلقتها مصر من وسطاء ديمقراطيين أميركيين خلال الاتصالات التي أجرتها القاهرة عبر قنوات مختلفة للتقرب من حملة بايدن قبيل فوزه. وتزامن ذلك مع موجة من الاتصالات الأوروبية الرسمية للإعراب عن القلق بسبب ارتفاع عدد المواطنين المعتقلين على خلفية الحراك الشعبي في سبتمبر/ أيلول 2020، سواء خلال مشاركتهم في التظاهرات أو في إطار الحملات الأمنية للتخويف والحدّ من اتساع الحراك، والتي دعت النظام للمسارعة في الإفراج عن عدد من النشطاء السياسيين والحقوقيين ممن تمّ اعتقالهم قبيل وعقب أحداث سبتمبر 2019.
وكانت مصر قد انتهجت خطاباً انفتاحياً مشوباً بالتشكك في الوقت نفسه، منذ فوز بايدن بالرئاسة الأميركية، إذ بادر السيسي إلى تهنئة الأخير، وتحدّث وزير الخارجية سامح شكري بصورة إيجابية عنه خلال مؤتمرين صحافيين سابقين، على عكس حديثه النقدي دائماً لملاحظات العواصم الأوروبية على أوضاع حقوق الإنسان في مصر. وقال شكري في يناير الماضي خلال لقاء مع وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا والأردن، إنه "على الإدارة الأميركية الجديدة تحت رئاسة جو بايدن أن تعتمد في تجميع معلوماتها عن مصر على عموم الشعب المصري ومختلف فئاته"، وليس فقط على من وصفهم بـ"الفئات التي لا تمثل الشعب، وتروج لأكاذيب لتحقيق أهدافها البعيدة عن حقوق الإنسان"، مضيفاً أن "مصر تشارك الإدارة الأميركية الجديدة الحرص على أوضاع حقوق الإنسان".
وكان بايدن قد انتقد في ما مضى أوضاع المعتقلين في مصر، فوجّه إدانة لوفاة المواطن الأميركي من أصل مصري مصطفى قاسم في سجنه المصري مطلع العام الماضي، وانتقد تخاذل إدارة دونالد ترامب في التعامل مع تلك القضية. وعاد بايدن في تغريدة شهيرة في يوليو/تموز الماضي لشنّ هجوم مزدوج على ترامب والسيسي، فحمّل الأول مسؤولية اعتقال الشاب محمد عماشة لمدة 468 يوماً في السجون المصرية قبل الإفراج عنه بضغط أميركي، ومن جهة ثانية هدّد بالتعامل بشكل مختلف مع السيسي حال فوزه بالرئاسة، بقوله إنه "لا مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل".