قفص اتهام فرنسي

19 مارس 2021
من تظاهرة دعماً لفلسطين في باريس (ناصر السهلي)
+ الخط -

ليست هذه المرة الأولى التي تُلاحق فيها السبعينية الفرنسية-اليهودية (مواليد عام النكبة الفلسطينية في 1948)، أوليفيا زيمور، أمام محاكم فرنسا بسبب معاداتها الصهيونية. فهي وجه معروف في حركة المقاطعة، وفي فضح تحول الاحتلال إلى "الأبرتهايد". ملاحقتها هذه المرة تتعلق باتهامها شركة الدواء الإسرائيلية "تيفا" بمعاونة الاحتلال على تطبيق سياسات الفصل العنصري.

وهذه ليست ملاحقة فريدة، فقد سبقتها أخرى، لعل أبرزها للكاتب الراحل روجيه غارودي، لكنها الأكثر وضوحاً لحالة الخوف، على الساحتين الأوروبية والأميركية، من تراكم افتضاح ما تخفيه أقنعة "الديمقراطية الوحيدة في المنطقة"، ومن استدعاء نموذج مقاطعة نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي سابقاً.

وإذا كان بعض العرب ذهبوا أخيراً للتحالف مع الصهيونية، واستسلموا أمام شطب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3379، الذي ساوى في العام 1975 بين الصهيونية والعنصرية، بُعيد أوهام "السلام" منذ 1991، فإن معسكراً أوروبياً يتوسع، وفيه يهود رافضون للصهيونية، ويفضح أساطيرها ومذابحها، وأصبح أكثر جرأة وتحدياً لابتزاز عاطفي وسياسي استمر لعقود طويلة، وكلف الفلسطينيين والعرب أثماناً هائلة.

الآن، في سياق أوروبي أوسع، يبدو أن تهمة "معاداة السامية" باتت من السخافة بمكان لتطاول من يُفترض أنهم "ساميون"، وإن أُسقط العرب في الغرب من خانتها. وتعكس بشكل غير مسبوق مأزقاً أشمل مع مسائل حرية التعبير والتفكير والرأي. فرئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، يبدو أكثر انشغالاً باختراعه عن "الانفصالية الإسلامية"، كغيره في معسكري يمين ويسار الوسط الأوروبي، سعياً لتلمس خطاب التطرف القومي، وانتهاج شعبوية لا ضمان لنتائجها بالأصل.

فرفع لواء مكافحة "معاداة السامية" يفضح العقل الباطني لمعسكر سياسي وثقافي انتهازي أوروبي، وإن بتحالفات مشبوهة بين أقصى اليمين القومي المتعصب ومعسكر التطرف الإسرائيلي. فليست محاولة تكميم الأفواه في باريس فحسب، بل هي ممتدة من كوبنهاغن إلى برلين وفيينا وروما. وفي الأولى، حيث تلاحق اتهامات "معاداة السامية" حركة المقاطعة، لا يتردد وزير العدل في كوبنهاغن نيك هيكروب، الأربعاء الماضي، في الدفاع عن تصاعد الخطاب العنصري في بلده بوجه المسلمين، باعتباره "خطاباً يخفف من اللجوء إلى العنف"، فيما يعتبر أي مساس بالصهيونية "عنصرية ومعاداة للسامية"، وبتحريض من سفارة تل أبيب واللوبيات.

عموماً فإن محاولات تجريم حرية التفكير والرأي محفوفة بكثير من المخاطر في أوروبا، وأولها وأهمها الوقوع في مطبات فرض رقابة ذاتية وازدواجية المعايير، التي في نهاية المطاف تخلق مزيداً من أجواء تشكيك واستقطاب وتصنيف تتناقض ومبادئ الحريات العامة.
ولعل ارتفاع أصوات اليمين القومي المتطرف في أوروبا، بناء على تنميط وأحكام مسبقة، ونكاية بمواطنين من أصول مسلمة، دفاعاً عن الاحتلال، وباعتبار مسائل "معاداة السامية" سلاحها لإحراج الأقليات ونشطاء أحزاب وحركات يسارية وحقوقية، يؤشر إلى ما هو أعمق من مأزق ماكرون مع حرية التعبير ومخترعي تصنيف "اليسارية الإسلامية".

وتزامناً مع ذلك تُبرز الاصطفافات خلال السنوات الماضية كماً هائلاً من نفاق وانتهازية الحركة الصهيونية، وجماعاتها الممتدة من إسكندينافيا شمالاً إلى حوض المتوسط. فعلى الرغم من تساقط أقطاب التطرف القومي في فخاخ خطاب معاداة اليهود، وهو ما حدث في السويد وألمانيا، تمعن من ناحية في بناء تحالفات مع معسكره، والبناء على أن ثقافة أوروبا "مسيحية-يهودية"، كما يسوق اليمين المتطرف في فعالياته المناهضة للمسلمين، بل ويرفع علم دولة الاحتلال في فعاليات عدة. وفي الناحية الأخرى تلعب لعبتها المفضلة في بكائية استدرار العطف والتضامن الأعمى مع الاحتلال. ويُرفع "كرت الهولوكوست" حتى بوجه شخصيات يهودية، في خلط متقصد لاعتبار أي انتقاد للاحتلال بمثابة "عنصرية ومعاداة للسامية".

وفي مجمل مخاطر تلك التحولات اليمينية المتعصبة، وفي ظل أجواء عربية محزنة في الانكفاء، بل والمساهمة في تشويه الصورة، يظل استهداف مواطني الأقليات المسلمين دون سقف قانوني يحاسب على التحريض عليهم، واستعادة أجواء ثلاثينيات أوروبا، كما يحذر من فاشيتها مفكرون وحقوقيون وأحزاب اليسار. فقضية أوليفيا زيمور ليست سوى قطعة في أحجية أوسع لحالة تستهدف الأصوات المختلفة على المستويات الأكاديمية والثقافية والسياسية على ضفتي الأطلسي، وأيضاً وسط تغيب عربي فاعل.