- الرأي العام في الغرب يظهر دعمًا متزايدًا للفلسطينيين ويطالب بمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين عن جرائم حرب، مع تأييد خاص من الشباب لفرض عقوبات على إسرائيل.
- الضغوط الشعبية والحقوقية تحفز بعض الحكومات الغربية، مثل الدنمارك والسويد، لإعادة النظر في علاقاتها العسكرية مع إسرائيل، مما يؤدي إلى تجميد أو وقف التعاون العسكري.
تشعر بعض الحكومات الغربية بحرج استمرار تعاونها العسكري مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وسط اتهامات لبعضها بمشاركة الاحتلال في جرائم الحرب والإبادة التي يرتكبها بحق الفلسطينيين، ودعوات حقوقية وسياسية متزايدة من أجل وقف تزويد جيش الاحتلال بأسلحة غربية. يأتي ذلك وسط ظهور رأي عام غربي متغير في نحو خمس دول أوروبية، هي بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والسويد، حيث تؤيد نسبة كبيرة من سكّان هذه الدول وقف العلاقات العسكرية بالاحتلال بالكامل، وفي الاتجاهين، أي ليس فقط في مجال تصدير معدات عسكرية إليه، بل ووقف الاستيراد منه. وهو ما سجّله استطلاع رأي نشر الثلاثاء في 16 إبريل/نيسان الحالي.
تأييد شعبي لحظر توريد السلاح لإسرائيل
وتحول الرأي العام في دول غربية إلى عامل ضغط على حكوماتها. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى العديد من استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة ودول غربية، تعبّر فيها نسبة كبيرة من المستطلعة آراؤهم عن رفض دعم إسرائيل عسكرياً، ومنهم من يؤكدون أنهم يعتقدون بأن دولة الاحتلال ترتكب حرب إبادة في قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وتجدر الإشارة هنا إلى آخر ما نشر في هذا السياق، الثلاثاء، عن "معهد فلسطين للدبلوماسية العامة" (غير حكومي)، بشأن استطلاع للرأي أجرته شركة الاستطلاع الدولية "يوغوف" بطلب من المعهد لسبر آراء شوارع بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والسويد حول فلسطين وحظر تجارة الأسلحة مع إسرائيل. وأظهر الاستطلاع أن 65 في المائة من الإيطاليين و62 في المائة من البلجيكيين و50 في المائة من السويديين و51 في المائة من الفرنسيين و49 في المائة من الألمان يؤيدون ذلك الحظر.
تؤيد نسبة كبيرة من الغربيين قطع العلاقات العسكرية مع الاحتلال بالاتجاهين، أي الاستيراد والتصدير
واللافت في الاستطلاع أن نسبة كبيرة من المستطلعة آراؤهم "على دراية" بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة، ويعتقدون أن هذه الادعاءات صحيحة (إيطاليا 49 في المائة – السويد 46 في المائة، بلجيكا 43 في المائة – فرنسا 34 في المائة – ألمانيا 33 في المائة). ووجد الاستطلاع أن هناك فارقاً جيلياً في الآراء، بحيث أن جيل الشباب في هذه الدول، أو ما يعرف بـ"جيل زد" (بين 18 و24 عاماً)، أكثر إيقاناً بأن الفلسطينيين محرومون من حقوقهم، كما أن هذه الفئة العمرية تربط أكثر قضية فلسطين بمفهوم العدالة والمساواة والحرية. وفي المتوسط، ليس أقل من نصف سكّان هذه الدول يرون أنه يجب فرض عقوبات على إسرائيل، خصوصاً في ما يتعلق بتجارة الأسلحة، وضرورة محاكمة المسؤولين الإسرائيليين بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وسجّلت النسبة الأعلى في هذا السياق في إيطاليا (65 في المائة مع حظر السلاح و62 في المائة مع المحاكمة)، والأدنى في السويد (50 و49 في المائة)، بينما هي بحدود 51 في المائة في ألمانيا. وفي المتوسط، فإن نحو 45 في المائة منهم يرون أنه يجب على حكوماتهم أن تكون أكثر دعماً للفلسطينيين أو تتبنى موقفاً متوازناً (إيطاليا 52 في المائة وألمانيا 49 في المائة).
وفي المحصلة، فإنه في وقت تتزايد فيه الضغوط الشعبية والسياسية والحقوقية على بعض الحكومات الغربية من أجل اتخاذ موقف واضح يقطع عن تل أبيب ما يُرسل من أسلحة إليها ويستخدم ضد الفلسطينيين، يبدو أن تغيراً بات ملحوظاً لدى شوارع أوروبية أصبحت أكثر ميلاً لقطع كل العلاقات التجارية العسكرية مع تل أبيب.
ففي بعض دول الشمال الأوروبي، كالدنمارك والسويد، ترتفع المطالبة النقابية والحقوقية بضرورة ليس فقط تجميد تزويد إسرائيل بالسلاح والذخائر، بل بوقف العلاقات التجارية العسكرية معها. فإذا كانت كوبنهاغن قد اختارت للهروب من استحقاق دعوى قضائية بحقها، بسبب تمرير بعض المعدات الضرورية لطائرات أف 35 لجيش الاحتلال، تجميد آليات التصدير السهلة سابقاً، فإن الأصوات الشعبية تستمر في الارتفاع لدعوة حكومة ائتلاف يمين ويسار الوسط لوقف كل أشكال التجارة العسكرية مع مصانع تل أبيب.
الأمر لا يختلف في استوكهولم، حيث تزايدت أخيراً الدعوات لوقف تام للتعاون مع شركات ومصانع إسرائيلية تعاقد معها الجيش السويدي، مثل إلبيت سيتستمز. وفي هذا الصدد، دعا الدبلوماسي السويدي والسفير السابق لدى الأمم المتحدة بيير شوري (من الحزب الاجتماعي الديمقراطي السويدي) إلى ضرورة وقف تجارة السلاح مع إسرائيل، منتقداً استمرار استوكهولم في التعاقد مع مصانع وشركات سلاح إسرائيلية. وطالب شوري، بحسب ما نقل التلفزيون السويدي (أس في تي)، الاثنين الماضي، بضرورة تقديم الحكومة تقريراً يوضح نوع التجارة، وبأن يتم استدعاء ممثلي الدفاع السويدي من تل أبيب. وتساءل: "لماذا لدى الحكومة السويدية ملحق دفاعي هناك؟ نحن نعلم أن الأمر يتعلق بتجارة الأسلحة المتبادلة، ولكن حان الوقت لإعادته إلى الوطن".
في الاتجاه نفسه، يطالب حزب اليسار السويدي فينسترا بقطع جميع الاتصالات العسكرية مع إسرائيل. وقالت زعيمة الحزب نوشي داغوستار: "من الجنون أن السويد لديها تعاون عسكري مع إسرائيل"، وفقاً لما نقلت عنها أخيراً وكالة الأنباء السويدية "تي تي".
وكان الجيش السويدي قد وقّع في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي صفقة بقيمة مليار و700 مليون كرونه سويدية (نحو 170 مليون دولار)، مع شركة إلبيت سيستمز الإسرائيلية، وذلك لرقمنة نظام الاتصالات الدفاعي السويدي على مدى السنوات العشر المقبلة. بالإضافة إلى أن الشركة السويدية مالمو إيمبوينت تنتج جهاز ليزر لمصنع أسلحة إسرائيلي.
ومنذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر الماضي، واصلت الإدارة الأميركية تمرير أكثر من 100 اتفاقية عسكرية مع تل أبيب، مزودة جيش الاحتلال بعشرات الآلاف من القذائف والصواريخ والطائرات من دون طيار وغيرها من المعدات والعتاد الحربي لخدمة عدوانه على القطاع الفلسطيني. وفي 20 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أحصى الإعلام الإسرائيلي وصول 230 طائرة شحن و20 سفينة من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، محملة بالأسلحة والمعدات الحربية وذلك منذ السابع من أكتوبر الماضي. وبحسب تقرير نشر في موقع مجلس العلاقات الخارجية، وهو معهد بحثي أميركي، في 11 إبريل الحالي، فإنه منذ السابع من أكتوبر الماضي، أجرت إدارة الرئيس جو بايدن أكثر من مائة عملية تحويل مساعدات أميركية إلى إسرائيل، رغم أن اثنتين منها فقط، بقيمة 250 مليون دولار، حظيت بمراجعة الكونغرس وتمّ نشرها. وتتبع واشنطن في ذلك، بحسب المعهد، "مبدأ التفوق النوعي العسكري لإسرائيل"، الذي أصبح قانوناً أميركياً في عام 2008.
ليست الأصوات الداعية لوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل مقتصرة على النخب
لكن، في سياق غربي شعبي أوسع، تبدو الأمور على غير ما ظهرت عليه خلال الأيام الأولى من العدوان على غزة، حيث ظلّت واشنطن والدول الغربية تشدّد على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، ويأتي ذلك خصوصاً بعدما شاهد العالم بأسره مدى وحشية ودموية القصف الإسرائيلي المتعمد الذي طاول المدنيين والبنية التحتية في غزة. وبناء عليه، أصبح من الصعب على بعض الحكومات الغربية الاستمرار في تمرير تعاونها العسكري مع الاحتلال من دون مواجهة غضب النشطاء ومنظمات حقوقية ووسائل إعلام وصحافة تفضح ذلك التعاون الذي يستخدم لارتكاب جرائم حرب. وجعل ذلك بعض حكومات الغرب، بما في ذلك في واشنطن، تلمّح مع ازدياد الضغط إلى إمكانية استخدام توريدات الأسلحة كنوع من الضغط على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وبصورة خاصة ربما لوقف خططه لاجتياح رفح، جنوب القطاع، ومن أجل توسيع عمليات إدخال المساعدات إلى غزة، بحسب ما تسعى واشنطن إلى تسويقه.
وبعيداً عن مواقف بايدن التي تبدو محاولة لذرّ الرماد في عيون منتقديه، ولإظهار نفسه في عامه الانتخابي أنه غير راض عن مخططات نتنياهو، فإن عدداً متزايداً من السياسيين والناخبين الأميركيين في الحزب الديمقراطي يطالبون باستخدام النفوذ الأميركي، بما في ذلك نوعية السلاح ونطاق استخدامه، من أجل وقف الحرب. ونقلت صحيفة "واشنطن بوست"، في السادس من مارس/ آذار الماضي، عن النائب الديمقراطي في الكونغرس الأميركي، العضو في لجنة الاستخبارات والشؤون الخارجية في مجلس النواب جواكين كاسترو، قوله: "أنت تسأل الكثير من الأميركيين عن عمليات نقل الأسلحة إلى إسرائيل في الوقت الحالي، فينظرون إليك وكأنك مجنون، ويقولون لك: لماذا بحق السماء نرسل المزيد من القنابل إلى هناك؟".
متغيرات الشارع وتبديل المعادلة
وتكشف السجالات الحقوقية والسياسية في عدد من الدول الغربية أن الأصوات الداعية لوقف التعاون التسليحي مع إسرائيل ليست مقتصرة على النخب، بل تتوسع لتطاول شوارع أوروبية كثيرة، على ضوء التقارير المتعلقة بأعداد الضحايا الفلسطينيين ومشاهد التدمير التي ارتكبها جنود الاحتلال عن قصد، ونشر وسائل إعلام محلية قصصاً وحكايات إنسانية تتعلق بالاستهداف المتعمد للأطفال والنساء.
فحتى بين ناخبي الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، يبدو أن الأمور تتبدل، حيث يحقق الفلسطينيون مزيداً من التعاطف في صفوفهم. وهذا الأمر ليس بمؤشر بعيد عن بقية المؤشرات الغربية التي تفرض نوعاً من التغيير. فدخول منظمات حقوقية على خط رفع دعاوى ضد حكومات في أوروبا، مثل الحكومة الهولندية التي أجبرتها المحاكم على وقف تصدير قطع غيار إلى إسرائيل لمقاتلات "إف 35"، وكذلك وقف بلجيكا تصدير الذخائر والمتفجرات إلى دولة الاحتلال، هذه الأمور باتت تقلق حكومات أخرى، مثل الحكومة الدنماركية التي ذهبت إلى إدخال تعقيدات على توريدات قطع حسّاسة لـ"إف 35" من مصنع تيرما، بينما هرعت الحكومة الإيطالية للتأكيد على أنها أوقفت جميع الصادرات العسكرية إلى إسرائيل كما فعلت إسبانيا، لكن تحقيقات للإعلام الإيطالي أكدت العكس وأن حكومة جورجيا ميلوني تواصل إرسال شحنات أسلحة لإسرائيل.
وثمّة مؤشرات إلى أن مستوى جرائم الحرب الإسرائيلية الموصوفة بحسب منظمات حقوقية دولية، ونظر محكمة العدل الدولية بشكوى جنوب أفريقيا بارتكاب إسرائيل جرائم إبادة، بات يحرج حكومات دول تخشى أن تشمل بهذه الجرائم. فمع أن اليابان علّقت تعاونها مع التصنيع العسكري الإسرائيلي، كما أعلنت أستراليا وكندا، فإن ألمانيا لم يتراجع مستشارها أولاف شولتز ووزيرة خارجيتها أنالينا بيربوك عن الدفاع عن بلدهما لجهة مواصلته دعم الاحتلال الإسرائيلي، بل وتوعدت برلين النشطاء في الشارع بمعاقبتهم وملاحقتهم بتهمة "معاداة السامية". صحيح أن الولايات المتحدة تتحمل القسط الأكبر من تصدير السلاح إلى إسرائيل، وبواقع نحو 67 في المائة، إلا أن نصيب برلين لا يقل عن 20 إلى 30 في المائة، إلى جانب بريطانيا وفرنسا، وهو ما يضع هذه الدول تحت ضغط الرأي العام المتغير فيها.
في المجمل، تبقى النتائج المرجوة من الضغوط الشعبية على الحكومات الداعمة للاحتلال مرتبطة باستمرار الاحتلال بجرائم الحرب والإبادة، واتساع رقعة الناشطين المطالبين حكوماتهم بمواقف صارمة، من دون إغفال أن ترجمة التعاطف مع القضية الفلسطينية على شكل ضغوط لتغيير سياسات الدول التي تلتف وتواصل علاقاتها العسكرية وتمد الاحتلال بما يحتاجه من ذخائر، أمور تسندها التقارير الحقوقية الدولية، سواء الصادرة عن الأمم المتحدة أو عن المنظمات غير الحكومية، مثل منظمة العفو الدولية (أمنستي)، وغيرها من منظمات غير حكومية حول العالم.