تتشكل الذاكرة الجمعيّة لشعبٍ ما بناءً على عوامل عدّةٍ، إذ عادة ما يكون الاتجاه العام للذاكرة الجمعية مريحًا ومرضيًا للشعب، وبعيدًا عن الموضوعية والنقد، من خلال إعادة إنتاج الماضي بطريقةٍ أكثر إنسانيةً، تظهر مساهمة الأسلاف في بناء الحضارة البشرية، متجاهلةً في الوقت ذاته الأفعال اللا إنسانية، والجرائم المرتكبة سواء بحقّ الشعب ذاته (الأسلاف)، أو بحقّ الشعوب الأخرى. المناهج التعليمية من أكثر أدوات الدولة نجاعةً لخلق الذاكرة الجمعية، وفي حال التعارض بين السياسي والحقيقي تعمد المناهج إلى تجنب الحقيقة أحيانًا، أو حتّى الكذب بغرض الوصول إلى الهدف السياسي، ما يبقي الحقيقة حبيسة الماضي، لا يصل إليها إلّا من يقصد البحث والتحليل في خبايا التاريخ.
على سبيل المثال؛ يتفاخر الأميركيون بمبادئ إعلان الاستقلال، متجاهلين الإبادة الجماعية للسكان الأصليين، والعنصرية تجاه كلٍّ من السكان الأصليين والأميركيين من أصولٍ إفريقيةٍ، المستمرّة إلى يومنا هذا. كما تتغنى الدول العربية ليس بالتاريخ الإسلامي فحسب، إنّما بما يسمى "عصر الجاهلية"، الذي يعمّم في يومنا هذا على الدول العربية كافّةً، رغم انحصاره في الماضي في شبه الجزيرة العربية، وأجزاءٍ من بلاد الشام والعراق، وفي الوقت ذاته تستبدل تسمية الفتوحات بالاحتلال. إن المثالين السابقين ينسحبان على جلّ دول العالم (فرنسا وبريطانيا والصين ومنغوليا و….) ولعل ألمانيا هي الاستثناء الوحيد، الذي بنى الذاكرة الجمعية على أساس الذنب، والاعتراف بالجرائم المرتكبة بحقّ الإنسانية، وهذا استثناءٌ يحسب للألمان، ولا يشوبه سوى شائبتي الانتقائية والإكراه.
إنّ الهويّة الوطنية الألمانية مبنيةٌ على الذنب الذي اقترف خلال الحقبة النازية بحقّ اليهود، فالألمان مسؤولون عن إبادة ستة ملايين يهودي بطرقٍ مختلفةٍ، لعل أبشعَها غرف الغاز والأفران. إنّ الاعتراف الألماني بهذا الذنب يعتبر خطوةً في الاتجاه الصحيح، إلّا أنّ تجاهل الجرائم الأخرى يؤثر على مصداقية هذه الخطوة، فرغم عدم إنكار ألمانيا مسؤوليتها عن جرائمها بحقّ البولنديين، وبدرجةٍ أقل بحقّ السوفييت (خلال عام واحد 1941- 1942 فقط، صفى الألمان قرابة ثلاثة ملايين أسيرٍ سوفيتيٍ)، إلّا أنّها لم تتخذ الخطوات اللازمة لجبر الضرر في هذه الحالات. كما لا نستطيع تجاهل الجرائم الألمانية في إفريقيا، وتحديدًا الإبادة الجماعية في ناميبيا بداية القرن العشرين، التي لم تعترف بها ألمانيا كإبادةٍ جماعيةٍ حتّى عام 2018، وإلى الآن ترفض أيّ سبيلٍ للتعويض ولجبر الضرر عنها.
بينما تتبنى المدارس الألمانية السردية الإسرائيلية بالمطلق، وتسمح بالزيارات من قبل المؤسسات والمنظّمات الصهيونية، تمنع وتحارب السردية الفلسطينية
الإكراه؛ هو الشائبة الثانية التي تفسر الانتقائية الألمانية للذنب المؤسس للهويّة الوطنية، هنا يبدو واضحًا دور النظام السياسي في فرض الهويّة الوطنية، والذاكرة الجمعية، لا سيّما عند ملاحظة الاختلاف الواضح بين الألمانيتين (الشرقية والغربية)، إذ وجدت الأخيرة نفسها مجبرةً؛ بعد أن وقعت تحت النفوذ الأميركي، على دعم إسرائيل، ودفع تعويضاتٍ ضخمةً، ما يعادل 80 مليار يورو (29 مليار لضحايا الهولوكوست الموجودين في دولة الاحتلال، والباقي لجهاز دولة الاحتلال)، إضافةً إلى مختلف أنماط الدعم الأخرى ؛التي لا يتسع هذا المقال لسردها، وظهر الإجبار في تصريح المستشار كونراد اديناور؛ أوّل مستشارٍ لألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، إذ قال "ليس من حقّ وقدرة الألمان اتخاذ أيّ موقفٍ بشأن اللاجئين الفلسطينيين"، وذلك بسبب ديون الولايات المتّحدة والتبعية لها، فأميركا هي المسؤولة عن هندسة سياسة ألمانيا الغربية تجاه إسرائيل. لتبرير الخضوع للابتزاز الأميركي، والدعم غير المشروط والمتعارض مع المبادئ الألمانية رفع موقف ألمانيا من إسرائيل إلى مستوى مبدأ وجوديٍ، ومصلحةٍ وطنيةٍ يحصنه ضدّ المبادئ الأساسية الأخرى، سواء المنصوص عليها في القانون الألماني (جميع البشر متساوون، حرية التعبير، حظر بيع الأسلحة لأماكن النزاعات)، أو المنصوص عليها ضمن قواعد القانون الدولي، فحين ترتكب إسرائيل جرائم حربٍ وإبادةٍ مخالفةً القانون الدولي نجد ألمانيا نفسها عرضةً لخطر المساءلة القانونية الدولية، في حال مساءلة مرتكب الجرائم الأساسي. مختصر القول عندما يتعرّض وجود دولةٍ لخطرٍ معين فإن الأولويّة للوجود، ولو تعارضت مع باقي المبادئ الوطنية أو الدولية. ولكن هل حقًا أمن إسرائيل هو جوهر وجود الدولة الألمانية؟
دور المناهج التعليمية في ألمانيا
رغم اختلاف السياسات التعليمية الألمانية باختلاف ولاياتها، إلّا أن هذه السياسات تتشابه وتتقاطع في نقاطٍ عديدةٍ، أهمّها موضوع مكافحة معاداة السامية، وهو موضوعٌ مهمٌ مثل موضوع مكافحة العنصرية، ومكافحة الإسلاموفوبيا، إلّا أنّ اهتمام النظام التعليمي الألماني ينصب على مكافحة معاداة السامية، ويهمش مكافحة باقي أشكال التمييز والعنصرية.
لم تخلق المناهج الدراسية الألمانية سرديةً خاصّةً بمعاداة السامية، بل اعتمدت منذ البداية على السردية الصهيونية، وزاد هذا الاعتماد تدريجيًا حتّى وصلت في السنوات الأخيرة إلى حدّ التبنّي المطلق لها. إذ لم يعد الأمر محصورًا بالاعتراف بالذنب، بل تعداه إلى تنشئة الأجيال على محبة إسرائيل، من خلال الترويج لهم عن جمال دولة إسرائيل، وضرورة زيارتها، وصولاً الى برامج التبادل التعليمي.
في السنوات الأخيرة؛ ازداد انحراف خطط التعليم لمكافحة معاداة السامية عن غايته النبيلة، إذ لم يعد الأمر محصورًا في محاولة طمس السردية الفلسطينية، بل تعداها إلى إسكات كلّ الأصوات المنتقدة لإسرائيل والصهيونية، ومن ضمنها الصوت اليهودي نفسه، الذي تُتجنب الإشارة إلى يهوديته، أو يشار إليها بخجلٍ.
سابقًا؛ حاول التوجّه الألماني حصر اليهود بضحايا المحرقة، والناجين منها، أما اليوم فقد تغيير هذان التوجّه والتعريف، عبر استبدال الصهيوني باليهودي بطريقةٍ ضمنيةٍ. حيث تحوّلت فكرة محاربة انكار الهولوكوست؛ التي لم يعد ينكرها إلّا قلةٌ قليلةٌ؛ إلى محاربة إنكار دولة إسرائيل، المسؤولة عن النكبة، والمأساة الفلسطينية.
وباتت الدولة الألمانية بكلّ مؤسساتها؛ بما فيها المناهج التعليمية المدرسية أو الجامعية، تعتمد تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" لمعاداة السامية، الذي يضم 11 نقطةً، بينها سبع نقاطٍ متعلقة بموقف الفرد من إسرائيل، وقد أدّى ذلك إلى الخلط بين انتقاد إسرائيل وبين مظاهر معاداة السامية. حذرت من هذا التعريف منظّماتٍ عديدةٍ، نذكر منهم منظّمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، ومنظّماتٍ فلسطينيةٍ، مثل مؤسسة الحقّ والميزان، ومنظّماتٍ إسرائيليةٍ، مثل بتسيلم وكسر الصمت، وجماعاتٍ يهوديةٍ عالميةٍ، مثل الصوت اليهودي، ما شكل الدافع لوضع/ لإطلاق إعلان القدس بشأن معاداة السامية، ورغم عدم انصافه للقضية الفلسطينية إلّا أنّه لم يلق آذانًا صاغيةً في إسرائيل وألمانيا وغيرهما من الدول.
ألمانيا هي الاستثناء الوحيد، الذي بنى الذاكرة الجمعية على أساس الذنب، والاعتراف بالجرائم المرتكبة بحقّ الإنسانية، وهذا استثناءٌ يحسب للألمان، ولا يشوبه سوى شائبتي الانتقائية والإكراه
في السنوات الأخيرة أنشأت ألمانيا مكتبًا فيدراليًا لمكافحة معاداة السامية، ومن ثم حذت الولايات حذو الحكومة الفيدرالية. وقد حرص مفوضو هذه المكاتب على الحصول على تقييمٍ جيدٍ، سواء من السفارة الإسرائيلية، أو من المجلس المركزي لليهود في ألمانيا. ولا يخفى على أحدٍّ تدخل كلّ هذه الجهات المذكورة بالحياة المدرسية، وفرض إملاءاتهم على وزارات التعليم في الولايات.
في عام 2021 أعُدت توصيةٌ مشتركةٌ للمجلس المركزي لليهود في ألمانيا، ولجنة الدولة الفيدرالية لمفوضي معاداة السامية، ومؤتمر وزراء التعليم والشؤون الثقافية بشأن التعامل مع معاداة السامية في المدارس. إذ صرّح الدكتور جوزيف شوستر، رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا: "تلعب المدارس دورًا رئيسيًا في مكافحة معاداة السامية. لذلك، فإنّ متطلّباتنا وتوقعاتنا للمعلمين عاليةٌ. لكننا لا نريد أن نتركهم وشأنهم. يسعدني جدًا أنّه يمكننا أن نقدّم لهم مبادئ توجيهيةٍ مع هذه التوصيات، التي تم تطويرها تطويرًا مشتركًا. يجب أن يستعد المعلمون ضدّ معاداة السامية، ويحتاجون إلى الكثير من الخبرة من أجل أن يكونوا قادرين على اتخاذ إجراءاتٍ ضدّ كراهية اليهود بين الطلاب. يجب استثمار هذا بالفعل في تدريب المعلمين في الجامعات. لا يزال هناك طريقٌ طويلٌ لنقطعه. لكننا اتخذنا اليوم خطوةً حاسمةً إلى الأمام".
بينما تتبنى المدارس الألمانية السردية الإسرائيلية بالمطلق، وتسمح بالزيارات من قبل المؤسسات والمنظّمات الصهيونية، تمنع وتحارب السردية الفلسطينية، حتّى وصل الأمر بها إلى السماح بالاعتداء على الطلاب الفلسطينيين، ومعاقبة المعتدى عليه، في حال حاول الدفاع عن نفسه.
هذا الانحراف والتداخل أنتجَ حالةً تمييزيةً ضدّ الطلاب الداعمين للسردية الفلسطينية عامّةً، تأخذ طابعاً عنصريًا ضدّ الطلاب الفلسطينيين، رغم ذلك نجدهم يدافعون عن سرديتهم، محوّلين الساحات والشوارع إلى منصاتٍ لخطاباتهم، بعد أن حُرّمت عليهم المنابر الطلابية كافّةً، لا بل بات تأثيرهم يزداد وضوحًا وتأثيرًا بالرأي العام الألماني، مع ازدياد الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في غزّة من جهةٍ، وازدياد القمع الذي يمارسه النظام الحاكم في ألمانيا من جهةٍ أخرى.
لقد بدأت ألمانيا بالخطوة الصحيحة في اتجاه بناء الهويّة الوطنية، والذاكرة الجمعية الألمانية، إلّا أنّ خطوتها الثانية قد أسقطت أيّ مصداقيةٍ كانت قد حملتها خطوتها الأولى، وللأسف يبدو الوصف الأفضل لهذا الواقع هو "قبو البصل، للكاتب الألماني الحائز على جائزة نوبل للآداب غونتر غراس.