يثير المرسوم الذي أصدره رئيس النظام السوري بشار الأسد، الأربعاء الماضي، بشأن تجريم التعذيب في سورية، ردود فعل مستهجنة وساخرة لدى عموم السوريين، وحتى في الأوساط الحقوقية الدولية، إذ تحتل سورية في ظل حكم آل الأسد مرتبة متقدمة في العالم لجهة تفشي التعذيب على نطاق واسع في سجونها، ما تسبب في وفاة آلاف المعتقلين.
ومن جهة أخرى، فإن هذا المرسوم يثير تساؤلات حول المغزى من إصداره، وهل هو على شاكلة انضمام نظام الأسد إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيمائية، مباشرة بعد استخدامه السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية عام 2013، لكن من دون أن يتوقف عن استخدام هذا السلاح لاحقاً؟
تناقض مع 55 ألف صورة تعذيب
ويبدو القانون منسجماً مع حقوق الإنسان والقوانين الدولية، لكنه يتناقض مع الوضع في سورية منذ عقود، وخاصة بعد انطلاق الثورة السورية قبل 11 عاماً.
إذ تشير المعلومات إلى وفاة آلاف المعتقلين تحت التعذيب في سجون ومعتقلات النظام، في ظل ظروف احتجاز غير إنسانية، كشفت جانباً منها صور التعذيب المسربة من مصور عسكري بات يعرف باسم "قيصر" ظلّ 13 عاماً يعمل داخل مؤسسات قوات النظام، قبل أن ينشق عنها عام 2013، ويكشف عن 55 ألف صورة لجثث معتقلين قضوا تحت التعذيب.
وتعرّف أقارب هؤلاء الضحايا على جثث ذويهم، وكانت تظهر عليها آثار تعذيب وحشية، كالصعق بالكهرباء، والضرب المبرح، والحرمان من الطعام، وتكسير العظام، وفقء الأعين، واقتلاع الأظافر.
توفي آلاف المعتقلين تحت التعذيب في سجون ومعتقلات النظام
ودفعت تلك الصور الولايات المتحدة إلى إصدار قانون عقوبات أطلق عليه اسم "قانون قيصر"، دخل حيز التنفيذ في 17 يونيو/حزيران 2020، وقضى بإنزال عقوبات على 39 شخصاً وكياناً مرتبطين بنظام الأسد، وبات بموجب تلك العقوبات أي شخص أو جهة في العالم تتعامل مع النظام السوري، معرضة للقيود على السفر أو العقوبات المالية.
تلميع عقود من انتهاكات حقوق الإنسان بموافقة النظام السوري
وفي تعليقها على مرسوم الأسد الجديد، قالت منظمة العفو الدولية، في بيان، إن هذا القانون يتجاهل عقداً من التعذيب وسوء المعاملة والإعدامات خارج نطاق القضاء التي نفذتها قوات النظام.
وقالت نائبة مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة، لين معلوف، إنه "بينما نرحب بأي خطوة تشريعية نحو الامتثال لاتفاقيات مناهضة التعذيب المعترف بها دولياً، فإن القانون الجديد يرمي فعلياً إلى تلميع عقود من ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان بموافقة الدولة".
وأضافت أن القانون "لا يوفر الإنصاف لضحايا التعذيب، ولا يشمل أي تدابير حماية للشهود أو الناجين من التعذيب، ولا يذكر ما إذا كان الناجون من التعذيب، أو في حالة وفاتهم، سيتلقون تعويضات". ولفتت إلى أنه "لم يذكر القانون أي إجراءات يمكن اتخاذها لمنع حدوث التعذيب في مراكز الاحتجاز والسجون في المستقبل".
ودعت منظمة العفو الدولية سلطات النظام السوري إلى "السماح بشكل عاجل للمراقبين المستقلين بالوصول إلى مراكز الاعتقال سيئة السمعة في البلاد، حيث يحدث التعذيب الذي يؤدي إلى الوفاة على نطاق واسع منذ سنوات، كخطوة أولى للإشارة إلى أي نية حقيقية للحد من هذه الممارسة من قبل النظام وأجهزته".
منظمة العفو الدولية: القانون لا يوفر الإنصاف لضحايا التعذيب، ولا يشمل أي تدابير حماية للشهود أو الناجين من التعذيب
وشددت المنظمة على "ضرورة ضمان أن مرتكبي التعذيب، أو المعاملة القاسية، أو اللاإنسانية، أو غير ذلك من أساليب سوء المعاملة، سيواجهون العدالة في محاكمات عادلة أمام محاكم مدنية عادية".
وسبق أن وثّقت منظمة العفو الدولية الظروف غير الإنسانية في سجون النظام السوري، مشيرةً إلى أن "الاختفاء القسري والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة منتشرة بشكل منهجي في سجون النظام، وأدت إلى حالات وفاة أثناء الاعتقال، فضلاً عن عمليات إعدام خارج نطاق القضاء، عقب محاكمات صورية، وهو ما يرقى إلى مرتبة الجرائم ضد الإنسانية".
قانون تجريم التعذيب الذي أصدره الأسد
وينص المرسوم الذي أصدره رئيس النظام الأربعاء الماضي على أن المقصود بالتعذيب هو "كل عمل أو امتناع عن عمل، ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسدياً كان أم عقلياً، يلحق بشخص ما قصداً للحصول منه أو من شخص آخر على معلومات أو اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو تخويفه أو إكراهه على القيام بعمل ما".
ويقضى المرسوم بإنزال عقوبة السجن لمدة تتراوح بين 3 سنوات والسجن المؤبد بدرجات متفاوتة، وتصل إلى الإعدام "إذا نجم عن التعذيب موت إنسان أم تم الاعتداء عليه بالاغتصاب أو الفحشاء أثناء التعذيب أو لغايته".
كما يشدد على "عدم أخذ الاعتراف إكراهاً وعبر تعذيب، ومنح تعويضات مناسبة بما يجبر الضرر المادي والمعنوي والخسائر التي لحقت بمن وقع عليهم التعذيب".
التعذيب سياسة ممنهجة لدى النظام السوري
وبحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، فإن نظام الأسد مسؤول عن مقتل أكثر من 14 ألف سوري تحت التعذيب بين مارس/ آذار 2011 و2021.
وقال مدير الشبكة، فضل عبد الغني، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "مجلس الشعب الذي ناقش بنود هذا المرسوم، لا يمثل الشعب السوري، إذ إن ثلث أعضائه منتسبون إلى قوات أمن أو أجهزة أمنية متورطة بانتهاكات حقوقية. كما أن التعذيب سياسة ممنهجة لدى النظام منذ 2011 على الأقل، وفق العديد من المنظمات الدولية".
وأضاف عبد الغني أن "النظام لم يحاسِب سابقاً أياً من مرتكبي الجرائم والانتهاكات، بل لديه قوانين تحمي هؤلاء المرتكبين، وتقضي بالحصول على موافقة رئيس أي عنصر متهم بارتكاب انتهاكات قبل محاسبته. وبطبيعة الحال لن تتم هذه الموافقة لأن رئيسه هو من أمره بارتكاب تلك الانتهاكات".
وأوضح أن "العبرة ليست في القوانين، لكن في التطبيق، إذ إن هناك الكثير من القوانين الجيدة نظرياً، لكن النظام لا يتقيّد بها على الرغم من أنه هو من وضعها. ومن هنا، يصحّ القول إن أكبر منتهك للدستور السوري وللقوانين السورية هو النظام نفسه".
فضل عبد الغني: النظام لم يحاسِب سابقاً أياً من مرتكبي الجرائم والانتهاكات، بل لديه قوانين تحمي هؤلاء المرتكبين
سخرية وانتقادات لقانون تجريم التعذيب
كذلك، سخر العديد من المعارضين والناشطين السوريين من مرسوم الأسد. واعتبر المعتقل السياسي السابق، محمد برو، أن "إصدار قانون التجريم يورط قوات النظام، ويؤكد أن ممارسة التعذيب كانت قانونية".
فيما رأى المحلل العسكري العقيد محمد عيد الأحمد، في منشور عبر فيسبوك أن "الهدف من المرسوم، يتمثل في تهديد الضحايا الذين يفكرون بتقديم شكاوى ضد معذبيهم من جهة، وتهديد للشبيحة بسوط القانون في حال العصيان على النظام من جهة أخرى".
بدورها، لاحظت الحقوقية السورية، وعد القاضي، أن "قانون تجريم التعذيب لم يذكر أنه بأثر رجعي، وسورية وقعت منذ عام 2005 على اتفاقية مناهضة التعذيب، وبالتالي هذا القانون هو حكماً بأثر رجعي، وما هو إلا تفعيل للاتفاقية".
لكن القاضي أشارت في منشور عبر "فيسبوك" إلى أن "القانون خالٍ تماماً من أي آلية قانونية تضمن تنفيذه، وهو ما يفرغه من قيمته"، متسائلةً "هل نظام الأسد مستعد للسماح بدخول فرق دولية للاطلاع على السجون والاستماع لشهادات المعتقلين تنفيذاً للاتفاقية المذكورة؟ وهل هو مستعد لوضع آلية عملية وشفافة لضمان تطبيق هذا القانون؟".
من جهته، لفت رئيس "نقابة المحامين الأحرار" السورية، سليمان القرفان، في تعليق له على صفحته على فيسبوك على صدور القانون، إلى أن هذا الأخير "لم ينص على إلغاء المادة 16 من المرسوم التشريعي رقم 14 لعام 1969 المتضمن إحداث إدارة أمن الدولة والتي ما زالت سارية المفعول".
وأوضح أن هذه المادة تنص على أنه "لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة إليهم أو في معرض قيامهم بها، إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير".
القانون خالٍ تماماً من أي آلية قانونية تضمن تنفيذه
ورأى قرفان أن بقاء هذه المادة وغيرها من المواد المشابهة "يجعل هذا المرسوم حبراً على ورق لا قيمة قانونية أو عملية له على أرض الواقع".
واعتبر أن "الهدف من القانون تجميل صورة السلطة الحاكمة المستبدة، إضافة إلى عرقلة جهود بعض الدول كهولندا وألمانيا التي بدأت بمحاسبة مرتكبي جرائم التعذيب في سورية، استناداً للولاية القضائية، إذ إنه لانعقاد الاختصاص في تلك الدول، يجب ألا يكون المتضرر قد أقام دعواه أمام المحاكم الوطنية أو أي محكمة أخرى".
وتابع "وبالتالي، سيصطدم بعض من يفكر باللجوء لتلك الدول للمحاكمة استناداً للولاية القضائية العالمية، بحاجز أن التعذيب قد بات مجرماً في القانون السوري، ويتوجب عليه اللجوء إليه لمعاقبة مرتكبي التعذيب قبل مطالبة تلك الدول بالنظر بتلك الجرائم".