عندما تفشل الأنظمة العربية في طرح مشروع سياسي مقنع، وتحقيق المنجز الاقتصادي والاجتماعي والإيفاء بتطلعات شعوبها، أو تشعر بأن رصيدها من الثقة بصدد أن ينتهي، تلجأ إلى استدعاء لحظات الأزمة وتدابير "القهر الناعم" وتدوير الدراما السياسية.
وتهدف الأنظمة من وراء هذا الأمر لشد الجماهير والوعي الجمعي إلى الخلف، وإبقائها رهن ظروف التوتر واستزراع القلق، ووضع الشعوب بين خيار الفوضى أو القبول بسياساتها القهرية، وهو وضع أشبه بتخيير مريض بين الطاعون والكوليرا.
يقدم مسلسل "الاختيار" المصري، طريقة جديدة في إدارة الحكم وتسيير الجماهير في الدول العربية. ليس فقط من خلال إعادة التشكيل السياسي للأحداث، وتوجيهها بالشكل الذي يريده نظام عبد الفتاح السيسي، ولكن في مزيد من مركزة "العسكر" والجيش في العقل المصري والعربي، ثم الاستدعاء، غير المبرر، "للأحقاد" السياسية، التي في ديمومتها ضمان لاستمرار النظام ومبررات قبضته الأمنية وسياساته.
في الواقع، لم يكن" الاختيار" موجهاً للجيل الذي حضر هذه الأحداث، فقد عاش هذا الأخير كل تفاصيلها، وكان نفسه جزءا من تلك الأحداث، بغض النظر عن بعض "التفاصيل الأمنية" التي قد تخفى لاعتبارات تخص طبيعتها. لكنه موجه في الحقيقة بالأساس لجيل ولد في خضم تلك الأزمة، ولم يكن له القدر الكافي من الوعي بسبب السن، بينما صار اليوم، بعد ما يقارب العشر سنوات من تلك الأحداث، شباباً.
وبالنسبة للنظام المصري، فإن هؤلاء هم من يجب أن يُعاد تركيب الأحداث لأجل تشكيل وعيهم، على أساس اختيارات السلطة، وإبقائهم رهن عاملين، الكراهية لمكون سياسي أو مجتمعي، وفي الوقت نفسه الرهبة من قوة النظام. لأنه وبقدر ما تتحالف هذه القناعات بقدر ما يضمن النظام أن جيلاً كاملاً سيعيش على مقولاته ليس إلا.
تقرأ الأنظمة من نفس الكتاب. ففي كثير من المحطات والمنعطفات السياسية، حاولت السلطة في الجزائر استغلال بعض تفاصيل الأزمة الأمنية لتخويف الجزائريين، وتهديدهم بالفوضى في حال رفضهم للنظام القائم، أو الاستجابة لدعوات الخروج الى الشارع.
وكان هذا الحال عشية اندلاع تظاهرات الحراك الشعبي، وفي خضمه حتى. فقد كانت وسائل الإعلام الرسمية تعيد بث فيديوهات عن الأزمة الأمنية في تسعينيات القرن الماضي، مشفوعة بحديث باذخ عن قيمة الأمن والاستقرار، والذي يعني بمفهوم السلطة الاستمرار بنفس السياسات، بغض النظر عن مخلفاتها السلبية.
لكن السلطة السياسية في الجزائر- بخلاف النظام المصري- لم تذهب بعيداً في هذه السياقات، ولم تحاول بالكامل إعادة إنتاج أحداث تسعينيات القرن الماضي بما يخدم سرديتها السياسية، رغم أنها تملك القدرة لفعل ذلك بشكل أو بآخر، على اعتبار أن ذلك قد يؤدي إلى توليد الأحقاد، وهذا الأمر لا يضمن بقاء النظام إذا كان ذلك سيهدد السلم الأهلي.
ولذلك وُجد في قانون المصالحة في العام 2005، ما يفيد بمنع إثارة جراح المأساة الوطنية، ليس فقط لإعفاء جيل، لم يعش صدمة العنف السياسي والإرهاب، من العيش في مدركات الأزمة، ولكن إعفاء البلد بالأساس من معوقات للتطلع إلى المستقبل ما بعد الأزمة.
لا فرق حين يتعلق الأمر بالسلطة أن يحرص النظام في الجزائر، كما في مصر، على عوامل البقاء في الحكم، ومنع التغيير السياسي وتعطيل الانتقال الديمقراطي.
لكن بالقياس تكون المعالجة الجزائرية لمناخات الأزمة أكثر عقلانية، وتتسامى عن الإفراط في النرجسية العسكرية. لعل فارقاً تاريخياً يفسر ذلك، أن النظام في الجزائر لم يكن مفرداً منذ ثورة التحرير، بخلاف النظام المصري الذي يعيش تحت ظل رجل واحد إلى أن يأتي من يليه.