اندلعت حرب غزّة الراهنة، إثر تنفيذ المقاومة الفلسطينية هجومها المباغت على قوات الاحتلال ومستوطني "غلاف غزّة" في 2023/10/7. وعلى الرغم من أولويّة السياق الفلسطيني الإسرائيلي في تفسير احتدام هذه الجولة من الصراع، فإنّها سرعان ما تحوّلت من سياقها الداخلي، إلى معركةٍ ذات بُعدٍ دوليٍ واضحٍ، على نحو ما كشفه مؤشران متداخلان؛ أحدهما التدخل الكثيف من "التحالف الدولي/ الغربي ضدّ حرية فلسطين"، بزعامة الولايات المتّحدة، التي باتت تقود عمليًّا هذه المعركة، وتحاول التحكّم في تداعياتها الإقليمية والدولية، في مقابل إحجام الصين وروسيا وتركيا وإيران ومجمل الدول العربية، عن تحدّي سياسات واشنطن وتلّ أبيب، في الملف الفلسطيني تحديدًا، الذي لا يزال يعاني مستوىٍ من الهيمنة الأميركية- الإسرائيلية، منذ مؤتمر مدريد للسلام أواخر أكتوبر/تشرين الأول 1991.
أما المؤشر الآخر فيتعلق بسياسة الرئيس الأميركي جو بايدن، وتبنّيه "السردية الإسرائيلية" دون تحفّظاتٍ، بالتوازي مع تكثيف سياسات "شيطنة الفلسطينيين"، خصوصًا حركة حماس، مع محاولة استدعاء سردية "مكافحة الإرهاب" من جديدٍ، ووضعها في صدارة الأجندات الدولية والإقليمية؛ إذ أصبح هدف التخلّص من حكم حركة حماس في قطاع غزّة على سُلّم أولويّات واشنطن، التي وجّهت رسائل واضحةً لإيران وحزب الله بضرورة عدم التدخل في الحرب، تجنبًا لتعميق المأزق الإسرائيلي، بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
على الرغم من ارتقاء العامل التحرري الذاتي الفلسطيني؛ في "طوفان الأقصى"، إلى مستوىً متميزٍ جدًا، (مقارنةً بتاريخ كلّ المواجهات السابقة في الصراع العربي الإسرائيلي)، فإن هشاشة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، وضعف تماسكه، وغياب إرادته الحاسمة، قد قلّصت من قدرة الفاعلين الإقليميين على الضغط في اتجاه تغيير السياسات الأميركية- الإسرائيلية تجاه حرب غزّة، وتجاه قضية فلسطين عمومًا.
آثرت هذه الدول الإقليمية عدم تحدّي الموقف الأميركي في هذه المرحلة، على اختلاف دوافع طهران وأنقرة والرياض
وتبدو المفارقة هنا في نجاح المقاومة الفلسطينية في تأكيد تحوّل إسرائيل وسياساتها الإجرامية إلى "عبءٍ استراتيجيٍ" على حليفها الأميركي، ما وضع السياسات الأميركية والإسرائيلية في مأزقٍ متجددٍ، في وقتٍ غلب على القوى الإقليمية كافّةً؛ بما فيها إيران وتركيا، عدم الجاهزية والتردد الواضح في إسناد العامل الفلسطيني، في مواجتهه الشرسة مع العامليْن الإسرائيلي والدولي، في هذه "المرحلة الانتقالية"، التي يمر بها النظامان العالمي والإقليمي، والتي تشابكت متغيّراتها الاستراتيجية، خصوصًا بعد الحرب الروسية على أوكرانيا 2022- 2023.
وقد تجلّت مفارقة النجاح الفلسطيني والفشل الإقليمي في إخفاق القمة العربية الإسلامية في الرياض 2023/11/11، في تنفيذ بنود بيانها الختامي، خصوصًا البند الثالث "كسر الحصار على غزّة، وفرض إدخال قوافل مساعداتٍ إنسانيةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ ودوليةٍ؛ تشمل الغذاء والدواء والوقود، إلى القطاع فورًا، ودعوة المنظّمات الدولية إلى المشاركة في هذه العملية، وتأكيد ضرورة دخول هذه المنظّمات إلى القطاع، وحماية طواقمها وتمكينها من القيام بدورها الكامل، ودعم وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)".
والمؤكّد في السياق ذاته؛ أنّ تنفيذ البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية يقتضي تجاوز التصعيد الخطابي، والاكتفاء بتوجيه رسائل "الحدّ الأدنى" من الاعتراض اللفظي، إلى بلورة استراتيجيةٍ حقيقيةٍ لتوجيه الفعل السياسي للدول العربية والإسلامية، ودعم قضية فلسطين.
على الرغم من تطوّر الخطابات الإيرانية والتركية والسعودية تدريجيًّا؛ على وقع تطوّرات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، فقد آثرت هذه الدول الإقليمية عدم تحدّي الموقف الأميركي في هذه المرحلة، على اختلاف دوافع طهران وأنقرة والرياض، ما قد يعني أنّ أثر العامل الإقليمي لن يكون الأكثر تأثيرًا في نتيجة حرب غزّة الراهنة وتداعياتها، التي ستتحدد بمقدار صمود المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية.
ربّما يمكن القول إنّ هذه الحرب الضروس لم تخلق آليةً إقليميةً تستطيع التعامل مع السؤال المصيري المتعلق بـ "وقف الحرب على غزّة"، على الرغم من امتلاك الدول العربية والإسلامية العديد من أوراق الضغط المؤثرة. رغم صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2712 (2023/11/15) الذي يدعو إلى إقامة هُدنٍ وممراتٍ إنسانيةٍ عاجلةٍ ممتدّةٍ في جميع أنحاء قطاع غزّة، والإفراج الفوري؛ دون شروطٍ، عن كلّ الرهائن، فإنّ السلوك الأميركي استمر بدعم إسرائيل في تعنتها بعدم تنفيذ هذا القرار.
يبقى القول إنّه رغم ما كشفته هذه الحرب من تحوّلٍ في السياسة الأميركية تجاه إقليم الشرق الأوسط، على نحوٍ ينطوي على تهديدٍ جوهريٍ لمصالح مصر وتركيا وإيران خصوصًا، فإنّ المواقف الرسمية لمجمل الدول العربية والإسلامية لم تنجح في الارتقاء إلى مستوى هذا التحدّي الأميركي- الإسرائيلي، لا سيّما ما يتعلق بالموقف الرسمي المصري، الذي لا يزال يراوح بين سياساتٍ "تكتيكيةٍ"، هدفها الأسمى هو الحفاظ على اتّفاقيات كامب ديفيد، بكلّ تداعياتها السلبية على قضية فلسطين، التي اختزلت في أبعادها الإنسانية والإغاثية، في إطارٍ لا يتجاوز "الحكم الذاتي"، وتجريدها من أبعادها السياسية والتحررية المهمة، التي أكدتها عملية "طوفان الأقصى"، وأعادت وضع قضية فلسطين على الأجندتين العالمية والإقليمية.