استمع إلى الملخص
- **حملة القمع والملاحقة:** الفلسطينيون في إسرائيل تعرضوا لحملة قمع بسبب معارضتهم للعدوان على غزة، مما أبرز هشاشة مواطنتهم وخضوعها للأمن والإجماع الصهيوني.
- **مواقف القوى السياسية الفلسطينية في إسرائيل:** الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية عارضا الحرب، بينما سعت القائمة العربية الموحدة لنيل الرضى الإسرائيلي، ورأى التجمع الوطني الديمقراطي أن الحرب تُنتج مرحلة سياسية جديدة.
سبّبت حرب الإبادة الجماعية، التي تشنّها إسرائيل على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إثر "طوفان الأقصى"، جملةً من التطوّرات المرتبطة بالسياق الخاص بمجتمع فلسطيني أراضي 1948، منها:
أولاً، إعادة القضية الفلسطينية عموماً، ومسألة الاحتلال في أراضي 1967 خصوصاً، إلى صدارة الأجندة على الصعيد الإسرائيلي، فضلاً عن الساحتين الإقليمية والدولية.
ثانياً، تجدّد طرح الأسئلة بشأن مواطَنة الفلسطينيين في إسرائيل، من ناحية المضمون والمعاني، لا من ناحية المظهر والقشور فقط.
ثالثاً، في ارتباطٍ مباشرٍ مع البندين السابقين، إعادة شحذ الرؤية التي تنطلق من أنّ مسألة الفلسطينيين في الداخل هي جزءٌ من القضية الفلسطينية، والتي بدا أنّها تراجعت، وتواترت محاولات تهميشها في الأعوام الأخيرة، بدافع الاهتمام أكثر بالقضايا اليومية المعيشية، ونتيجة وجود قوىً سياسيةٍ في صفوف فلسطينيي الداخل تعمل على كبح هذه الرؤية.
قراءة التجمُّع الوطني الديمقراطي وحدها للمشهد الناجم عن الحرب على غزّة، مّن شخّصت الدلالات المركزية
وربّما يتعين أن نشير، مثلما سبق لنا أن أشرنا مراتٍ صعب حصرها، إلى جوهر هذه الرؤية، كما حددها المفكّر عزمي بشارة منذ سنواتٍ طويلةٍ، وذلك في كتابه المرجعي "العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل"، الذي أكّد فيه، من بين أمور أخرى، أنّ العرب الفلسطينيين في إسرائيل هم سكّان البلاد الأصلانيون، كما أنّهم جزءٌ من الأمّة العربية التي تعيش حالة صراعٍ مع إسرائيل، وجزءٌ من الشعب الفلسطيني الذي تعرّض إلى عملية سطوٍ مسلّحٍ على أرضه، شملت هدم مشروعه الوطني. وشدد على أنّ قضيتهم نشأت تاريخياً بصفتها جزءاً من القضية الفلسطينية، فلولا نشوء قضية اللاجئين لما نشأت مسألة "أقليةٍ عربيةٍ في الداخل". أمّا الممارسات الإسرائيلية التي تتضمّن مصادرة أراضي العرب في الداخل، ومحاصرتهم، وتجميعهم ديموغرافياً، بموازاة العمل على إعادة تشكيل هويتهم الثقافية، بما يتناسب مع نهج احتوائهم بصفتهم أقلّياتٍ متنافرةً متنازلةً عن المساواة الكاملة، وعن الشخصية العربية الكاملة في دولةٍ يهوديةٍ، فهذه كلّها ليست مجرّد مركّباتٍ في سياسة تمييزٍ عنصريٍ، بل جزءٌ من سياسة تمثّل استمراراً تاريخياً لقضية فلسطين، وتضع لنفسها، أيضا، أهدافاً تاريخيةً. وهي ما زالت تجري وتنفّذ بعقليةٍ كولونياليةٍ استيطانيةٍ، وتتخذ شكلاً كولونيالياً أيضاً.
في ضوء هذه التطوّرات كلّها، وما يمكن أن تنطوي عليه من تدعيم اللحمة بين الفلسطينيين كافّة، تعرض الفلسطينيون في إسرائيل، على خلفية معارضة جرائم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، لحملة ملاحقةٍ وقمعٍ شعواء. نتجت هذه الحملة عن جهودٍ منسقةٍ وواسعة النطاق بين الوزارات الحكومية، والمؤسسات الإسرائيلية الرسمية، والجماعات اليمينية المتطرفة، مستهدفةً كلّ المعبّرين عن دعمهم، أو حتّى مجرّد تضامنهم مع فلسطينيي غزّة. أيضاً؛ علاوةً على التحريض والترهيب تجاه المجتمع الفلسطيني، شنّت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حملة ملاحقةٍ واسعةً داخل هذا المجتمع، لمنع أيّ تعاطفٍ، أو دعمٍ لغزّة، حتّى لو كانت تغريداتٌ في وسائل التواصل الاجتماعي ضدّ قتل الأبرياء، وضدّ الدمار. كما اعتقلت الشرطة العشرات منهم بحجة نشر تغريداتٍ داعمةٍ، أو متعاطفةٍ مع غزّة. توضح الأدوات المستخدمة مع المواطنين الفلسطينيين في الداخل وقت الحرب أنّ المؤسسة الإسرائيلية تتعامل معهم على أنّهم أعداءٌ محتملون، كما بينت الحرب الحالية هشاشة المواطنة الممنوحة للفلسطينيين في إسرائيل وخوائها، وخضوعها التامّ للدوافع والحاجات الأمنية، ولحاجات الإجماع الصهيوني وشروطه.
فوارق تسترعي الانتباه
تنشط بين الفلسطينيين في إسرائيل ثلاث قوىً سياسيةٍ رئيسيةٍ هي: الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والقائمة العربية الموحدة – الحزب السياسي للجناح الجنوبي من الحركة الإسلامية، والتجمع الوطني الديمقراطي.
وفقاً لمتابعةٍ دقيقةٍ أجراها مدى الكرمل، المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، تمثّلت أبرز مواقف الحزب الشيوعي والجبهة من استمرار حرب الإبادة في: معارضة الحرب؛ رفض واستنكار قتل المدنيين من الجانبَيْن الفلسطيني والإسرائيلي؛ المطالَبة بإطلاق سراح الأسرى والمخطوفين ضمن صفقة تبادلٍ؛ التصدّي للفاشية؛ التصدّي لسياسة الإخراس والملاحَقة للفلسطينيين في الداخل؛ تحميل حكومة اليمين، حكومة بنيامين نتنياهو السادسة، مسؤولية الأحداث من دون التطرُّق إلى الإجماع الإسرائيلي القائم والداعم للسياسات الحكومية بما يشمل أحزاب المعارضة، التشديد على أهمّية وتعزيز العمل والنضال اليهودي العربي.
تعرض الفلسطينيون في إسرائيل، على خلفية معارضة جرائم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، لحملة ملاحقةٍ وقمعٍ شعواء
في واقع الأمر، هذه المواقف لم تخرق الإطارَ المعهود والتقليدي لسياسات الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة، بل أكّدت برامج الحزب التاريخية، من دون التعامل مع التغيرات العميقة التي جاء بها "طوفان الأقصى"، والحرب على غزّة. من هذه التغيرات إعادة تعريف الإجماع الصهيوني، وأهداف الدولة، ومواقف أحزاب المعارَضة ودَوْرها، وتجنيد المجتمع الإسرائيلي ودعمهم بغالبيته لحرب الإبادة في غزّة، وتفريغ المواطَنة الممنوحة للمواطنين الفلسطينيين من مضمونها السياسي والقانوني.
أما القائمة العربية الموحَّدة؛ فاستمرت بعد 7 أكتوبر في نهجها السابق، الساعي لنيْل الرضى والاستحسان من المجتمع الإسرائيلي، وأحزابه السياسية، والرأي العامّ الإسرائيلي (تجدر الإشارة إلى مشاركة القائمة العربية الموحَّدة سابقاً في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي برئاسة نفتالي بينت، رئيس حزب "يمينا" اليميني، ويائير لبيد، رئيس حزب "يوجد مستقبل"، الوسطي، والذي تأتّى عنه إقامة حكومة أطلقت على نفسها اسم "حكومة التغيير" والتي استمرت ولايتها من 13 يونيو/حزيران 2021 إلى 29 ديسمبر/كانون الأول 2022). إذ أطلقت القائمة مواقف مقبولةً على الإجماع الإسرائيلي حول "طوفان الأقصى"، وحمّلت حركةَ حماس مسؤولية قتل مدنيين إسرائيليين. كذلك عارضت القائمة الحرب، ودعت إلى حلٍّ سلميٍ، وطالبت المجتمع العربي بالتحلّي بالمسؤولية المطلوبة في هذه الظروف الطارئة، كي لا توفّر ذرائع للمتطرّفين في إسرائيل للانتقام من المجتمع العربي، من دون أن تتطرّق إلى سياسات المؤسسة الأمنية تجاه المجتمع العربي، بل يمكن القول إنّها استوعبتها وتعاملت معها بتفهُّمٍ.
قراءة التجمُّع الوطني الديمقراطي وحدها للمشهد الناجم عن الحرب على غزّة، مّن شخّصت الدلالات المركزية التالية: نحن حيال حرب إبادةٍ ضدّ الشعب الفلسطيني في غزّة، تُنتِج مرحلةً سياسيةً جديدةً في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية. كما أنّ "طوفان الأقصى" والحرب على غزّة هما بمثابة فشلٍ للاستراتيجية الإسرائيلية إزاء القضية الفلسطينية، على الأقلّ في العَقدَيْن الأخيرَيْن. كما رأى التجمّع بخصوص الفلسطينيين في الداخل، أنّ سياسة كَمّ الأفواه، وملاحَقة المجتمع العربي الفلسطيني، وموجة التحريض، ستحمل إسقاطاتٍ على مكانة هؤلاء الفلسطينيين، وعلى مضامين المواطَنة الممنوحة لهم. كما أنّ الحرب ستؤدّي إلى مراجَعة الأسئلة الجوهرية المتعلّقة بمكانة المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وفي قضية الاحتلال.
وَفقاً للتجمُّع، يبقى الأمر الأهمّ أنّ الحرب على غزّة أثبتت مرّةً أخرى استحالةَ فصل قضايا المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل المعيشية والمدنية عن القضية الوطنية والقومية، وعن مسألة إنهاء الاحتلال في أراضي 1967.