انتقلت فنلندا، اليوم الجمعة، من حكم يسار الوسط، برئاسة الشابة سانا مارين، إلى أحضان معسكر اليمين واليمين القومي المتشدد مع رئيس الحكومة الجديد بيتيري أوربو، من حزب التجمع المحافظ الذي حقق في الانتخابات التشريعية، في إبريل/نيسان الماضي، تقدماً طفيفاً على الاجتماعي الديمقراطي، إثر حصوله على 20.8 في المائة من الأصوات مقابل 19.9 في المائة لحزب مارين.
قضية الانتقال من حكم ائتلاف يساري إلى محافظ قد تبدو أكثر من عادية في سياق الديمقراطية الشمالية - الاسكندنافية، لكنها في النموذج الفنلندي تختلف قليلاً عن السويدية والدنماركية، حيث أُبقي اليمين المتطرف خارج التشكيلات الحكومية منذ 1995، فحزب اليمين القومي المتشدد "الفنلنديون الحقيقيون" حقق تقدماً بنسبة كبيرة وحل ثانياً بحصوله على 20.1 في المائة من الأصوات، ما فرض واقعاً سياسياً مختلفاً تماماً عن السابق.
ودخلت هلسنكي لنحو سبعة أسابيع في نقاشات حول آلية الحكم والائتلافات التي يمكن أن تشكل مخرجاً لمأزق التقدم الذي حققه اليمين المتشدد، المعادي بصورة رئيسة لسياسات الهجرة، والمدافع عن قضايا أخرى تتعلق بالبلد ومستقبله بما يشبه بقية المعسكر القومي الأوروبي المتشدد.
ومع التوصل إلى اتفاق تشكيل الحكومة الجديدة، بحسب ما أعلن أوربو في مؤتمر صحافي مساء أمس الخميس، يبدو واضحاً أن هلسنكي ستكون في عهدة أوربو وائتلاف يضمه مع حزب "الشعب الصغير" (عن الأقلية السويدية) و"الديمقراطي المسيحي"، إضافة إلى القوميين المتشددين "الفنلنديون الحقيقيون"، وقال أوربو بحضور زعماء الأحزاب الثلاثة: "أنا فخور بالبرنامج الجيّد وبنتيجة المفاوضات".
وتشغل الأحزاب الأربعة 108 من أصل 200 مقعد في البرلمان، وعادةً ما تستمرّ المحادثات لتشكيل ائتلاف حكومي شهراً، لكنّها كانت أطول هذه المرّة بسبب الاختلافات، خصوصاً في ما يتعلّق بسياسة المناخ والهجرة، وقال رئيس الوزراء المكلّف، بحسب فرانس برس: "كانت لدينا خلافات حول عدد من النقاط، وأنا متأكّد من أنّه لا يزال هناك بعض منها، لكنّ ما يوحّدنا هو أننا نريد إحلال النظام في فنلندا".
الائتلاف الذي سيحكم فنلندا يشكل انعطافة مثيرة للجدل بعد أن استطاع أوربو الجمع بين المكونات الحزبية اليمينية، في سابقة لم تذهب إليها السويد والدنمارك رغم تحقيق اليمين المتشدد فيهما نسبة لا بأس بها من الأصوات في سنوات ماضية (أغلبها بحدود 20 في المائة).
ودخول اليمين المتطرف إلى الحكم في فنلندا يعني تغلب الأحزاب، وخصوصاً المتباينة بشأن قضايا الهجرة، على تناقضها السياسي، حيث يريد "الفنلنديون الحقيقيون" تبني سياسات هجرة صارمة، بينما في المقابل يريد حزب "الشعب" (أقرب إلى الوسط) زيادة معدلات الهجرة إلى فنلندا لسد نقص اليد العاملة التي يعاني منها البلد، كما يختلف اليمين المتشدد في قضايا المناخ والتحول الأخضر وسياسات الاتحاد الأوروبي عن الأطراف الأخرى المشكلة اليوم للائتلاف الحاكم.
وعكس امتناع الناخبين عن منح سانا مارين الأغلبية قلق الشارع الفنلندي على الأوضاع الاقتصادية وسياسات، يرون، مع الأحزاب المحافظة والليبرالية، أنها أدت إلى "تآكل دولة الرفاهية وصرف أموال على مشاريع غير مجدية".
وركزت مارين، 37 عاماً، خلال سنين حكم يسار الوسط بدعم من أحزاب أخرى، على تعزيز دولة الرفاهية والنهوض ببلدها من العثرات التي أصابتها خلال جائحة كورونا، ولكن التضخم وارتفاع الأسعار ونشوء أزمة الطاقة مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا جعل الناخب يميل إلى تغيير نهج الحكم.
واستطاع أوربو، 53 عاماً، إقناع الشارع وبقية الأحزاب بجدوى مشاريعه التي تعِد، من بين أشياء أخرى، بانتهاج سياسات تعافٍ أفضل، وبأنه سيعيد السيطرة على ديون فنلندا المتزايدة، وبالطبع تبقى جملة "الحفاظ على دولة الرفاهية" مفتاحاً سحرياً لأي من المعسكرات الحزبية نتيجة ترسخها تاريخياً في وجدان وخيارات الناخبين.
بالطبع، لن تكون المهمة سهلة أمام الائتلاف المحافظ، وخصوصاً مع دخول اليمين المتطرف في الحكم، حيث ستتطلب ميزانيات عامة كبيرة، إلى جانب أن اليسار ويسار الوسط تعهدا بلعب دور "معارضة قوية" في انتظار الانتخابات القادمة في 2027.
على مستوى السياسات الخارجية والأوروبية، يبدو أن أوربو، على الأقل وفق تحليلات متخصصين في الصحف المحلية في هلسنكي ومنها "هوفستادبلاديت"، سيضبط بوصلته في نفس الاتجاهات التي اختارتها سانا مارين سابقاً، بل أكثر من ذلك، تعهد الرجل أنه سيجعل فنلندا أكثر تأثيراً في السياسات الأوروبية والدولية، وعبر عن سعادته لعضوية بلده في حلف شمال الأطلسي.
ومن المتوقع أن تحافظ هلسنكي على السياسات المتشددة حيال موسكو، وهي التي تغيرت جذرياً من "بلد صديق" لموسكو طيلة العقود الماضية، إلى بلد مجاور لروسيا يضم على أراضيه قوات من الناتو ويساهم بقوة في عسكرة حدوده معها على امتداد أكثر من 1340 كيلومتراً.
على كل، وبالرغم من أن المفاوضات الشاقة أنتجت الحكومة الائتلافية، إلا أنه لا شيء مضموناً لمستقبلها السياسي، وخصوصاً إذا لم ينزل حزب "الفنلنديون الحقيقيون" عن الأشجار العالية في خطاباتهم، التي تمس بصورة مباشرة الدعوة إلى خروج فنلندا من الاتحاد الأوروبي. وسيتعين على أوربو ضبط خطابهم وعدم التمادي في طرح مواقف بشأن سياسات الهجرة، تضع البلد في صدام مع بروكسل، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.
من الواضح أن تعاون الأحزاب على تشكيل حكم ائتلافي جاء على أساس تنازلات، لكن علاقة هلسنكي المتعاظمة مع الناتو والاتحاد الأوروبي تبدو اليوم مسألة مهمة لمستقبل البلد، لا يستطيع الائتلاف اليميني القفز عنها، ولعل إعلان أوربو أنه سيزور البيت الأبيض قريباً هو محاولة لتبديد المخاوف الغربية من نفوذ قوى سياسية فنلندية على علاقة وثيقة، منذ الحرب العالمية الثانية، مع موسكو.