شهدت مصر سلسلةً من الوقفات الاحتجاجية الداعمة لفلسطين عقب عملية "طوفان الأقصى"، في الجامعة الأميركية في القاهرة، وفي نقابتي الصحفيين والمحامين، وفي الإسكندرية ومدينة السادس من أكتوبر، وفي جزيرة الوراق والجامع الأزهر. كان العنوان الذي جمعها هو التضامن مع غزّة ضدّ العدوان الصهيوني. بضع مئاتٍ هنا، وبضع مئاتٍ هناك تعالت هتافاتهم ضدّ إسرائيل، ومع فلسطين، ولكن ما تعنيه تلك الاحتجاجات لمصر أكثر بكثيرٍ مما تعنيه لغزّة، فسرعان ما تفاعلت الأحداث سريعًا لتتحول الوقفات المحدودة إلى احتجاجاتٍ حاشدةٍ، توجت يوم الجمعة 20/10/2023، بعودة المظاهرات إلى ميدان التحرير، في مشهدٍ اختفى لسنواتٍ طويلةٍ.
هذه الاحتجاجات لا تقاس بحجمها أو تأثيرها في الأحداث الجارية في الأراضي الفلسطينية، ولا تقاس أيضًا باحتجاجاتٍ حاشدةٍ أخرى نظمت في دولٍ عربيةٍ وأوروبيةٍ، ولكن تكمن أهمّيتها في أنّها جاءت بعد فترة انقطاعٍ طويلةٍ للعمل الاحتجاجي في مصر. فسلم نقابة الصحفيين الذي اعتبر دائمًا ملاذًا للمحتجين لسنواتٍ طويلةٍ، لم يشهد تقريبًا منذ عام 2016 أيّة وقفةٍ احتجاجيةٍ، بل اختفت سلالم نقابة الصحفيين نفسها حرفيًا لسنواتٍ منذ عام 2019 وحتّى مطلع العام الجاري، تحت سقالات البناء، بزعم تجديد المبنى، وخلت النقابة من المحتجين، ومن الصحفيين على حدٍّ سواء.
غياب مظاهر العمل السياسي لم يكن من نصيب نقابة الصحفيين وحدها، فالمجتمع المصري شهد تلاشيًا شبه كاملٍ للمجال العامّ، وانحسارًا لكلّ أنواع ممارسة السياسة، حتّى إنّ اجتماع مجموعةٍ من الأحزاب السياسية في أحد الأندية الاجتماعية للإفطار في شهر رمضان كان يستدعي هجوم الأمن، ومجرد التنسيق بين الأحزاب لخوض الانتخابات التشريعية كان يتحوّل إلى هدفٍ من قبل الأمن، وتزج بسببه قياداتٌ حزبيةٌ في السجن لسنواتٍ.
في ظلّ مصادرةٍ شبه كاملةٍ للمجال العامّ في مصر في السنوات الماضية، لم تظهر ردود أفعالٍ متناسبةٌ مع الكثير من السياسات التي أثرت بحياة المصريين، وفي صدارتها السياسات الاقتصادية، التي أدت إلى تدهور الأوضاع المعيشية لقطاعاتٍ واسعةٍ من المصريين، نتيجة ارتفاع معدلات الأسعار غير المسبوق، وبعض هذه السياسات كان يستدعى في فتراتٍ أخرى ردود أفعالٍ سياسيةً وجماهيريةً كابحةً لتوجّهات السلطة السياسية.
الوعي الثوري؛ الذي تفجّر في مصر وقتها، كان يدرك بذات الوضوح أنّ جذور نظام الاستبداد والاستغلال في مصر تتشابك بقوّةٍ مع علاقاته بالمشروع الصهيوني
الاحتجاجات التي تصاعدت في مصر، في أعقاب عملية طوفان الأقصى وما تلاها من جرائم صهيونية ضدّ غزّة، تعد في المقام الأول دفقة دماءٍ في شرايين السياسة المسدودة في مصر، وعودة مظاهر الحياة السياسية للشارع المصري، بعد تغييبٍ استمر لسنواتٍ.
الحقيقة أنّ تلك ليست المرّة الأولى التي تمثّل فيها القضية الفلسطينية تلك القيمة للحياة السياسية في مصر. فعلى مدى عقودٍ كانت قضية الصراع العربي الصهيوني هي القضية الرئيسية للسياسة في مصر، بل إنّ القوى السياسية والأحزاب في مصر كانت تصنف على أساس موقفها من القضية.
كانت الحركة الطلابية الرافد الأساسي للحركة السياسية المصرية خلال سبعينيات القرن الماضي، وقد استعادت لياقتها؛ بعد انحسارٍ، على خلفية حرب يونيو/حزيران 1967، وتنظمت الحركة الطلابية، وأنشطتها المختلفة في ذلك الوقت حول المطالبة بحرب تحرير سيناء. هذه الفترة هي التي مدت الحياة السياسية والحزبية في مصر بأغلب قادتها، من الاتجاهات السياسية كافّة، يمينًا ويسارًا. وحتّى بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 استمرت الحركة الطلابية تحت شعاراتٍ مناهضةٍ للصلح مع إسرائيل، ورفض اتّفاقية كامب ديفيد، والتضامن مع المقاومة الفلسطينية، وبعد ذلك التضامن مع المقاومة اللبنانية بعد الاجتياح.
مثّلت قضية الصراع العربي الصهيوني الرافد الرئيسي للحركة السياسية المصرية، ما جعلها دائمًا في مركز اهتمامها، ليس عقب حرب يونيو/حزيران فقط، فهناك من يذهب أبعد من ذلك، معتبرًا أن حرب 1948، وحصار القوات المصرية في الفالوجة كان الميلاد الحقيقي لفكرة تنظيم الضباط الأحرار، لدى مؤسسه جمال عبد الناصر، الذي كان في قلب حصار الفالوجة، وهو التنظيم نفسه الذي أطاح الملك والملكية، وأسس الجمهورية، التي كان أيضًا مركز اهتمامها مواجهة الاستعمار، والتي كانت أهمّ حروبها ضدّ إسرائيل.
العلاقة القديمة بين القضية الفلسطينية والحياة السياسية في مصر لم تتغير مع مرور العقود، فعام 2000 كان يعد أيضًا نقطة تحوّلٍ في الحياة السياسية المصرية، فالفترة التي سبقت انتفاضة الأقصى في سبتمبر/أيلول 2000؛ اتّسمت أيضًا بالركود السياسي؛ بدرجةٍ أقلّ من الفترة الحالية، وتراجعت مظاهر الاحتجاج، والممارسة السياسية عامّةً، لأسبابٍ لا يتسع المجال هنا لمناقشتها، حينها كانت صورة استشهاد الطفل محمد الدرة المحرك للحياة السياسية في مصر، فبمجرد انتشارها، وانتشار صور الانتفاضة الفلسطينية انطلقت احتجاجاتٌ عفويةٌ ومنظّمةٌ في أنحاء مصر كافّة، وتحوّلت الجامعات، والأحزاب، والنقابات من الركود إلى نشاط الدعم، والإغاثة، والاحتجاج أيضًا، حتّى إنّ مسيرات التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية شملت المدارس والأحياء.
الدماء التي ضختها انتفاضة الأقصى في شرايين الحياة السياسية المصرية عام 2000، هي نفسها الدماء التي استمرت في تحريك السياسة المصرية حتّى اندلاع ثورتها عام 2011. فالوجوه التي ظهرت في ثورة يناير كانت لهؤلاء الذين بدأت علاقتهم مع العمل السياسي في عام 2000.
الحركة السياسية التي انطلقت تضامنًا مع انتفاضة الأقصى عام 2000، وضمت إليها أجيالًا جديدةً نشطت في العمل السياسي، والعمل العامّ للمرّة الأولى، هي الحركة نفسها التي امتدت ضدّ غزو العراق عام 2003، وصعدت احتجاجاتها حتّى احتلّت ميدان التحرير، مع بدء الغزو، وواجهت قمع السلطة، وعلى خلفية القمع الذي تعرّضت له حركة مناهضة غزو العراق، انتقلت من دعم فلسطين والتضامن مع العراق إلى المطالبة بالإصلاح الديمقراطي في مصر، تلك الحركة التي استمرت بصيغٍ مختلفةٍ حتّى انطلاق ثورة يناير 2011.
ارتبطت المحطّات الرئيسية في السياسة المصرية منذ منتصف القرن العشرين دائمًا بالصراع العربي الصهيوني، وكان أثرها على الحياة السياسية المصرية أكثر وضوحًا حتّى من أثرها على القضية الفلسطينية.
على مدى عقودٍ كانت قضية الصراع العربي الصهيوني هي القضية الرئيسية للسياسة في مصر
هذا بعض ما تعنيه الاحتجاجات التي شهدتها مصر عقب عملية طوفان الأقصى، والتي مهما كان حجمها، فإنها تعني الكثير بالنسبة إلى السياسة في مصر، فالموت الذي شهدته الحياة السياسية في مصر لسنواتٍ، تحييه اليوم أصواتٌ مطالبةٌ بفتح معبر رفح، وإغاثة غزّة، ورفض المذابح الصهيونية، أصواتٌ ربّما لا زالت خافتةً، ولكنها قادرةٌ على قطع الصمت.
لقد شهد يوم 11 فبراير/شباط 2011 نجاح الثورة المصرية في إطاحة حسني مبارك، وقتها صاحبت احتفالات المصريين بالإطاحة بالديكتاتور احتفالاتٌ في غزّة، والضفّة بفقدان إسرائيل لـ (كنزها الاستراتيجي) في المنطقة، وبعد أسابيع كانت المظاهرات في القاهرة تقتحم سفارة إسرائيل، التي كان محظورًا أصلاً المرور في الشارع الذي تقع فيه، تعبيرًا عن رفض المصريين إقامة علاقاتٍ مع إسرائيل. بينما كان الوعي الفلسطيني بالمجتمع المصري يدرك بكلّ وضوحٍ أهمّية تحرر مصر من الاستبداد للقضية الفلسطينية، فإنّ الوعي الثوري؛ الذي تفجّر في مصر وقتها، كان يدرك بذات الوضوح أنّ جذور نظام الاستبداد والاستغلال في مصر تتشابك بقوّةٍ مع علاقاته بالمشروع الصهيوني.
واليوم عندما تشق الهتافات المناهضة لإسرائيل، والداعمة لفلسطين الصمت الذي خيم لسنواتٍ على سماء السياسة في مصر، فإنّ تلك الأصوات تؤكّد مجدّدًا تلك العلاقة بين الحياة السياسية في مصر والقضية الفلسطينية، التي يعني كلّ دعمٍ لها إحياءً للسياسة في مصر.