كشفت الثورات والانتفاضات الفلسطينيّة التي سبقت وجود ما يسمّى بـ "دولة إسرائيل"، خلال مرحلة الاستعمار البريطاني، حقيقة "الزعامات" التي ادّعت تمثيل الشعب الفلسطيني في تلك المرحلة، حيث فشل من كان يفترض أنّهم "ممثلو" الشعب في قيادة هذه الثورات ضمن استراتيجيّة تحرير جذريّة، تحول دون تنفيذ المشروع الصهيوني في الأراضي المحتلّة. السبب ببساطة يعود إلى الطبيعة الطبقيّة لتلك "النخبة" التي ادّعت "الزعامة"، والتي غلّبت "الواقعيّة السياسيّة" على حساب العقائديّة الثوريّة، وبالتالي قزّمت أهدافها إلى بناء سلطة في ظلّ الانتداب. فما أشبه اليوم بالأمس!
في كافّة المحطّات الثوريّة، التي واجه خلالها الشعب الفلسطيني أعتى قوّة إمبرياليّة في ذلك الوقت، اتّخذت "الزعامات الوجاهيّة" مواقف انحدرت إلى ما دون التخاذل، بدءاً بانتفاضة موسم النبي موسى في العام 1920، وانتفاضة يافا في العام 1921، وثورة البراق في العام 1929، والتي امتدّت إلى عمليّات "الكف الأخضر" المسلّحة في ذات العام، وانتفاضة تشرين عام 1933، وثورة القسّام الراديكاليّة عام 1935، وانتهاء بالثورة الفلسطينيّة الكبرى (1936-1939)، والتي تبنّت خلالها بعض "القيادات" العربيّة، بل والفلسطينيّة، أكثر المواقف رجعيّة.
المصالح الطبقيّة لتلك "النخبة" التي كانت تدّعي تمثيل الشعب الفلسطيني لم تتوافق بأي حال مع الطرح الثوري الراديكالي الذي عبّرت عنه جماهير الشعب خلال ثوراته وانتفاضاته. النتيجة الطبيعيّة لهذا التناقض تمثّلت في انسلاخ "الزعامات" عن الشارع الفلسطيني، الذي كانت طبقة الفلاّحين تشكّل غالبيّته العظمى (ما بين 70- 80%)، والتي كانت واعية لحقيقة أن التناقض التناحري لا يقتصر على الهجرة الصهيونيّة إلى أرض فلسطين، بل يشمل وجود المحتلّ البريطاني، الذي كانت ترى فيه "الزعامات" صديقا وفيّا راعيا لمصالحها!
في ظلال الإقطاع
في تلك المرحلة، كانت "النخبة" المهيمنة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة تتشكّل من ملّاك الأراضي، و"وجهاء" العائلات التي استندت إلى الأعراف في تثبيت "زعامتها"، والبرجوازيّة الناشئة التي كانت لاتزال تترعرع في كنف الإقطاع. كما كانت ظلال العهد العثماني لاتزال ثقيلة على الواقع الاجتماعي الفلسطيني، حيث سيطر عدد قليل من العائلات على مساحات شاسعة من الأراضي، مقابل تزايد أعداد المزارعين العاملين بالأجر، حيث أخذت شريحة صغار الملاّكين بالتلاشي، بسبب تدهور الأوضاع الاقتصاديّة في القطاع الزراعي. أمّا بالنسبة لـ "الوجهاء" فقد كرّس الاستعمار البريطاني نفوذهم ودورهم كوسيط بينه وبين الجماهير الكادحة، التي رأت في الثورات طريقها الوحيد للخلاص.
وكان تشابك العلاقات وتداخل المصالح بين شريحة ملّاك الأراضي، والبرجوازيّة الناشئة في عهد "الانتداب"، سببا حال دون تطوّرها آنذاك إلى طبقة متبلورة تمتلك سمات البرجوازيّة الوطنيّة، وبالتالي هيمن "الوجهاء" على المشهد السياسي، الذي اتّسم بصراع على سلطة "موعودة"، بين العائلات التي نصّبتها الأعراف، كعائلة الحسيني، والخالدي، والنشاشيبي. حتّى الأحزاب السياسيّة التي تشكّلت لاحقا، كانت مفصّلة لتلائم مقاس "الوجهاء"، كحزب الدفاع الوطني، الذي تأسس في العام 1934، والحزب العربي الفلسطيني، الذي تأسس سنة 1935.
حاولت البرجوازيّة الصغيرة شقّ طريقها عبر حزب الاستقلال، الذي تبنّى طرحا وصفه البعض بـ "الثوري" مقارنة بطرح الحزبين السائدين، إلاّ أن عدم تجذّره بين جماهير الفلاحين من جهة، واتّساع نفوذ "الزعامات الوجاهيّة" من جهة أخرى، كانا سببين حاسمين في الإبقاء على تأثيره ضمن الحدود الدنيا. نتيجة لهذا الواقع الطبقي، كانت الجماهير الكادحة هي طليعة ووقود ثوراتها في آن. أما "القيادة الوجاهيّة" المفترضة لهذه الجماهير، فقد تبنّت مقاربة مختلفة تماما، يمكن وصفها بـ "نضال" المذكّرات الاحتجاجيّة، والرسائل السلميّة!
"وجهاء" ولكن!
التهافت على نيل رضا المندوب السامي، جعل دور "الوجهاء" يتأرجح ما بين محاولات استغلال انتفاضات الشعب الفلسطيني لتعزيز مكانتهم في أعين المحتلّ و"زعامات" الرجعيّة العربيّة آنذاك، وبين الاستماتة في محاولات إخماد هذه الانتفاضات، والتشبّث بالطرق السلميّة، طمعا في قيام الانتداب بإنشاء "سلطة" عربيّة تحقّق مصالحهم الطبقيّة. الصراع بالنسبة لهذه الشريحة كان يقتصر على محاولة الحدّ من هجرة اليهود إلى فلسطين المحتلّة، أمّا فيما يتعلّق بالاحتلال البريطاني، فالأمر كان بالنسبة لها طبيعيّا للغاية! هذه ما تبيّنه بوضوح قرارات المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث، والتي تلخّصت في شجب السياسة الصهيونيّة ووعد بلفور، ورفض مبدأ الهجرة اليهوديّة، وإقامة حكومة تمثيليّة وطنيّة، دون أن يرد فيها إطلاقا ما قد يشير إلى مقاومة الاستعمار!
هذا الموقف المهادن، الذي لا يرى في وجود الاستعمار البريطاني مشكلة تستوجب الكفاح المسلّح، بقي مهيمنا على منطق "الوجهاء" حتّى بعد اندلاع الثورة الفلسطينيّة الكبرى عام 1936، خاصّة أن بريطانيا كانت قد وعدت اللجنة العربيّة بتأسيس "دولة". المصيبة لم تقف عند حدود التخاذل، بل تفاقمت إلى شن ثورة مضادّة، كان أبرز جلاوزتها ما يسمّى بـ "فصائل السلام"!
ومن المواقف المتخاذلة الأخرى التي اتّخذتها هذه الشريحة ما صدر عن اللجنة العربيّة العليا من استنكار لعمليّة اغتيال الحاكم البريطاني للواء الجليل عام 1937. ولكن هذا الموقف لم يحل دون قيام "الصديق" البريطاني بعزل المفتي من رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، والأوقاف. على أيّة حال، اندلاع الثورة الفلسطينيّة الكبرى كان ترجمة لرفض الشعب الفلسطيني لعباءة "الوجهاء" ومقاربتهم السلميّة، إلاّ أنّهم بشقيهم من "مجلسيين" و"معارضة" تمكّنوا من خطف الأضواء القياديّة، قبل أن يلعبوا بورقة "وساطة" الزعامات العربيّة، لوقف الإضراب الكبير.
حتّى قبل اندلاع الثورة الفلسطينيّة الكبرى، كانت مواقف الوجهاء مناقضة تماما لأي طرح ثوري راديكاليّ، فخلال ثورة البراق عام 1929، أصدروا بيانا في شهر آب/أغسطس من ذلك العام لدعوة الجماهير إلى "حسم الفتنة"! واقتصر "نضالهم" على إرسال مذكّرة إلى وزير المستعمرات البريطاني!
عقيدة الفداء
أمّا بالنسبة للشعب الفلسطيني، فإن الوعي بضرورة الكفاح المسلّح كان جليّا في النضالات الثوريّة التي بدأت منذ العام 1919، الذي شهد تأسيس جمعيّة "الفدائيّة"، مرورا بثورة القسّاميّين، وكذلك عمليّات الكفّ الأخضر، وصولا إلى الثورة الفلسطينيّة الكبرى التي تجسّدت في العصيان المدني، لتعبّر عن أرقى أشكال الوعي الثوري، والتي خذلتها "الزعامات" الرجعيّة.
وجود الاستعمار البريطاني المحض، وتدفّق الهجرة اليهوديّة إلى أرض فلسطين لتنفيذ "وعد" بلفور، وتفاقم الأوضاع الاقتصاديّة التي تعاني منها طبقة الغالبيّة الممثّلة بالفلاّحين، فجّرت أولى انتفاضات الشعب الفلسطيني في العام 1920، والتي رغم عفويّتها، اتّسمت بعنف ثوريّ أربك الاحتلال، ثمّ ما لبثت أن اندلعت انتفاضة يافا بعد سنة، ردّا على دعوات الصحف الصهيونيّة للفلسطينيّين إلى الرحيل عن أراضيهم. كان الوعي الشعبي بطبيعة المؤامرة التي تحاك ضدّ فلسطين، أكبر من إمكانيّة احتوائه بمجرّد مناورات دبلوماسيّة، وكان الكفاح هو الردّ الوحيد الذي أرادته الجماهير، والتي عبّرت في انتفاضة تشرين عام 1933 عن وعيها فيما يتعلّق بطبيعة الصراع، وبأن الاستعمار البريطاني، الذي تعتبره "النخبة" حليفا لها، هو رأس الأفعى.
على عكس منطق الارتهان للمصالح الفرديّة، الذي كان يهيمن على "الوجهاء" و"الزعامات"، كان الوعي الجمعي الفلسطيني مدركا لحتميّة وحدة المصير، ولطبيعة الصراع مع الإمبرياليّة والصهيونيّة. كما اتّسمت الثورات الفلسطينيّة بطابعها العروبي منذ البداية، مجسّدة رفض أجندة سايكس_ بيكو، وسان_ ريمو، وكذلك أطماع الرجعيّة في إنشاء سلطة محليّة إقليميّة، على غرار دول الجوار التي كانت ومازالت شبه مستعمرة.
من هنا نشأت عقيدة الفداء لدى الأوساط الشعبيّة الكادحة، التي تشكّل الغالبيّة العظمى من الشعب الفلسطيني، حيث لا يجد للفرد أيّة مصلحة ذاتيّة منفصلة عن المصلحة الشعبيّة العليا، والمتمثّلة بضرورة إنهاء الاستعمار، والقضاء على المشروع الصهيوني. في هذا الإطار، لم يكن غريبا أن يحمل أول تشكيل ثوري مسلّح اسم جمعيّة "الفدائيّة"، التي كانت تعمل في يافا، والقدس، ودمشق، وعمان. بالنسبة للجماهير الشعبيّة، فإن النضال كان أوسع من أن يقتصر على ساحة إقليميّة، وأكبر من طموحات "الزعامات" في إنشاء سلطة محليّة في كنف الاستعمار، وقد تجلّى هذا بأبهى صوره في ثورة القسّاميين.
وعندما فرضت ثورة الأعوام 1936- 1939 نفسها على المشهد السياسي، تكالبت الرجعيّة المحليّة ونظيرتها العربيّة لإخمادها، بشكل أبرز التناقض الحاد بين المصالح الشعبيّة للجماهير الفلسطينيّة والعربيّة –التي شاركت في مختلف محطّات الثورة الفلسطينيّة المستمرّة- وبين طبيعة "القيادات" التي يفترض أن تمثل هذه الجماهير. هذا التناقض منذ عهد الاستعمار البريطاني وصل إلى درجة جعلت من وصفه بمجرّد "تناقض ثانوي" تشويهاً للحقائق.
البرجوازيّة التي نشأت في أحضان الإقطاع خلال فترة الاستعمار البريطاني، وعجزت عن تشكيل قيادة ثوريّة تحقّق مصالح الجماهير، تطوّرت اليوم إلى كمبرادور يرى أيضا مصالحه في إقامة سلطة تحت ظلّ الاحتلال، ويردّد ذات المفردات المتعلّقة بالـ "نضال" السلمي، ومذكّرات الإحتجاج، ولا يدّخر جهدا في قمع وإنهاء أيّة حالة ثوريّة تهدّد مصالحه الطبقيّة، وكأن التاريخ يجترّ نفسه بصورة أكثر قتامة!