فقاعة النّخبة والسّلطة السّياسيّة

28 مارس 2021
الشباب العراقيون ضحية محاصصات الدولة والفساد (كرار عيسى/الأناضول)
+ الخط -

يسود العالم إحساسٌ بانفصال البنى الفوقيّة، من نخب سياسيّة ومؤسّسات السّلطة ومنظومة الدّولة إجمالًا، عن واقع المجتمع؛ نلمسه في انشغالها بأمور كثيرًا ما تكون بعيدة عن تمثيل وإدارة شؤون المجتمع ومصالحه، كانشغالها في صراعات الهيمنة والنّفوذ. كما يظهر في عجزها الواضح عن فهم المجتمع وحركته وتشخيص مشاكله، وبالتّالي عن إيجاد الحلول لها، ما يؤدّي إلى العديد من الأزمات كالتي نراها اليوم في كلّ مكانٍ تقريبًا.

رغم أنّ ظاهرة الانفصال هذه تنتشر في العالم، إلّا أنّها أكثر وضوحًا في الدّول الأقل ديمقراطيّة كمنطقتنا التي تمر بتغيّرات جذريّة بدأت منذ عقد. حيث يتعامل النّاس مع السّياسة كأنّها مجال منعزل عن حياتهم اليوميّة وظروف معيشتهم، كما أنّه من الواضح أنّ هناك أزمة تمثيل سياسيّ وانهيار شامل تقريبًا للثّقة بين النّاس والنّخب، ما يجعلهم ينظرون في أقوالهم وقراراتهم ونواياهم بعين يملأها الشّك. يمكن ملاحظة هذه الأزمة في الكثير من الأمثلة، منها تونس التي تعاني من شلل في العمليّة الديمقراطيّة بعد الثّورة، حيث فقد المجتمع هناك ثقته بكلّ الأحزاب السّياسيّة وصوّت لقيس سعيّد، وهو شخصيّة مستقلّة بعيدة عن الوسط السّياسي. من الأمثلة أيضًا، ضعف مشاركة الأردنيّين في الانتخابات النّيابيّة، بالرّغم من حاجتهم إلى تغيير حقيقيّ في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة الصّعبة؛ كذلك انتفاضة اللبنانيّين على كلّ الطّبقة السّياسيّة، وفشل المعارضة السّوريّة في التّعبير عن الشّارع... كما نجده في فلسطين، فقد وصلت المؤسّسات والنّخب السّياسيّة إلى حالة بائسة من تراجع وفساد وتنافس على سلطة مفصّلة لخدمة الاحتلال دون أرضٍ وسيادة، ما أدخل هذه القيادات في حالة من الاغتراب عن هموم الشّعب وأغرقها في الأوهام. لم يعد الفلسطينيّون والفلسطينيّات يثقون في من يدّعون تمثيلهم، وخصوصًا فلسطينيّي الشّتات الذين لا إطار يمثّلهم ويعبّر عنهم. هي إذن أزمة حقيقيّة، لكن ما هي أسبابها ونتائجها؟

من الواضح لمن يراقب ويتأمّل العالم، أنّ أسباب الأزمة تعود لخللٍ متأصّلٍ في المنظومة الاجتماعيّة السّائدة، وجوهر هذا الخلل يكمن في هرميّة المنظومة، التي تجعل منها كيانًا جامدًا وثقيل الحركة، يخشى التّغيير الذي قد يهزّ أركانه. لذلك، شاغل السّلطة الأساسي هو فرض "الاستقرار"، أي شلّ حركة المجتمع ومقاومة التّغيير. وبما أنّ التّغيير هو قانونٌ ثابت يحكم الكون، نرى تناقض المنظومة الهرميّة مع أحد أهمّ قوانين الطّبيعة: الحركة والتّغيّر الدّائم في كلّ شيء. بالإضافة لذلك، توفّر هذه الهرميّة مكتسباتٍ وامتيازات لمن يعتلي سلّمها، وتخضع فيها القرارات العامة لآراء فرد أو مجموعة صغيرة، جاعلةً منها بيئةً خصبة للفساد والاستبداد. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا الخلل هو ما يفسّر حاجة السّلطة لامتلاك أدوات القمع وممارستها له، إذ لا يمكن لكيانٍ معطّل أن يكون ويهيمن دون إكراه.

لا شكّ بأن الانتفاضات في منطقتنا أتت نتيجةَ ضيق الأوضاع الحياتيّة والحقوقيّة إلى حدّ لم يعد يُطاق. لكن ما كان للشّعب أن ينتفض لو أنه لمس إمكانيّة إحداث تغييرٍ ما من داخل النّظم، أي اعتمادًا على إصلاحات النّخب السّياسيّة، أو لو كانت الأحزاب السّياسيّة قادرة على تحقيق هذا التّغيير؛ انعدام الثّقة هذا دفع شعوب المنطقة إلى التّمرّد على النّظام السّياسي متجاوزةً الأحزاب والنّخب. كما أنّ لأزمة الثّقة والتّمثيل هذه نتائج أخرى، كصعود الشّعبويّة في العالم، والتي هي بجوهرها رفض الشّارع للمنظومة السّياسيّة ونخبها وتعبيرٌ عن تمرّده عليها. لا بدّ أيضًا من ملاحظة تنامي دور المجتمع المدني، الذي هو بحقيقته تنظيم مجتمعيّ يقوم بدور الدّولة المُفترض نظريًّا في الاهتمام بشؤون المجتمع. أي أنّ المجتمع يحلُّ محلَّ الدّولة التي تعجز عن القيام بمهامها، فيسحب من مؤسّساتها مبرّر وجودها وبالتّالي شرعيّتها. إنّ ظهور وتنامي دور المجتمع المدني هو أحد مظاهر التحوّل الجذري في منظومتنا الاجتماعيّة، وهذا موضوع آخر لا مجال له هنا.

أزمة السّلطة والنّخبة السّياسيّة عميقة، ونحن الآن في وضع كارثي لا يمكن له أن يستمرّ من دون خسائر هائلة. الخروج من هذه الأزمة يفرض علينا القيام بمراجعة شاملة لمفهوم وممارسة السّلطة والقيادة، وكل البُنى والعلاقات الاجتماعيّة. دون ذلك، وفي ظل التّحوّلات التي تمرّ في منطقتنا، فإنّنا سنَعْلَق في دوّامةِ هدمٍ وإعادة إنتاج للمشكلات نفسها. الجيل الشّاب في فلسطين والمنطقة يواجه تحدّيا حقيقيا في صراعه مع المافيات الحاكمة، ولا طريق أمامه سوى إعادة تنظيم نضاله وبناء مشروعه التّحرّري، بعيدًا عن النّخب السّياسيّة المريضة التي تقهقرت وانعزلت في فقاعاتها.

المساهمون