مرة جديدة تتعرض جهود دولية وإقليمية ساعية لحل الأزمة السياسية في السودان لضربة تقلل فرص نجاحها، خصوصاً أنها لا تلبي مطالب الشارع والقوى الرافضة انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بإنهاء هذا الانقلاب وكل ما ترتب عليه.
ودعت آلية ثلاثية مكوّنة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة التنمية الحكومية "إيغاد" (منظمة أفريقية شبه إقليمية)، أخيراً، إلى اجتماعات تحضيرية تبدأ غداً الثلاثاء، وتستمر حتى الثاني عشر من الشهر الحالي، على أن تنتهي العملية السياسية برمتها بحوار مباشر بين الأطراف السودانية المختلفة بهدف حل الأزمة السياسية في السودان.
غير أن هذه الجهود تعرضت لضربة قوية بعد إعلان تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" مقاطعته هذه الاجتماعات التحضيرية.
وتهدف الاجتماعات إلى تهيئة المناخ لإجراء حوار بين الأطراف السياسية لإنهاء الأزمة السياسية التي أعقبت انقلاب 25 أكتوبر. أزمة تركت فراغاً دستورياً بغياب مجلس الوزراء طوال أكثر من 6 أشهر، وأحدثت في الوقت ذاته توترات أمنية واسعة في العاصمة الخرطوم ومدن سودانية أخرى، وعمّقت الانقسام الداخلي بين السودانيين، وأعادت البلاد إلى عزلة دولية وإقليمية. وأدت قبل كل ذلك إلى مصرع 95 شخصاً خلال الاحتجاجات الشعبية المناهضة الانقلاب.
وكانت بعثة الأمم المتحدة قد دشنت بدايةً مشاورات غير مباشرة بين الأطراف، بدأتها في الثامن من يناير/كانون الثاني الماضي عقب استقالة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في الثاني من الشهر نفسه.
وشملت تلك المشاورات جميع الأحزاب السياسية عدا حزب "المؤتمر الوطني" (حزب الرئيس المعزول عمر البشير)، كما شملت قيادات للقبائل ورموزاً لجماعات دينية.
في حال إصرار الآلية الثلاثية على عقد الاجتماعات التحضيرية، فلن يجلس إلى الطاولة إلا القوى الداعمة الانقلاب
بعدها، قررت البعثة الأممية، بعد أن انضم الاتحاد الأفريقي و"إيغاد" إلى الجهود، التفكير في المرحلة الثانية، وذلك بعقد اجتماعات تحضيرية تبدأ غداً الثلاثاء، وتنتهي بحوار مباشر بين الأطراف.
ولم تبيّن الآلية الثلاثية، في دعوتها التي سلمتها قبل أسابيع للأطراف السياسية، أجندة الاجتماعات التحضيرية وطبيعة المشاركين فيها، ما خلق ارتباكاً، حتى وسط الراغبين في المشاركة.
مقاطعة تحالف "الحرية والتغيير" للاجتماعات
ورحب تحالف "الحرية والتغيير"، الشريك الرئيس في الحكم قبل انقلاب 25 أكتوبر الماضي، في البداية، بالجهود الدولية، واشترط للمشاركة فيها أن يكون هدفها الأساسي هو إنهاء الانقلاب العسكري وما ترتب عليه من قرارات.
كما اقترح إشراك الاتحاد الأوروبي ودول الترويكا، التي تضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج، ضمن قائمة الوسطاء. كذلك اشترط إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ورفع حالة الطوارئ، ووقف العنف ضد المتظاهرين السلميين. ومع ذلك، واصل التحالف اتصالاته واجتماعاته بالآلية الثلاثية، مؤكداً دعمه أي جهود لحل الأزمة سياسياً.
لكن مع إعلان الآلية الثلاثية موعد الاجتماعات التحضيرية، شعر تحالف "الحرية والتغيير" بعدم تحقيق شروطه، وبضبابية الرؤية بشأن العملية برمتها، وقرر في النهاية، في اليومين الماضيين، رفض المشاركة في الاجتماعات، ذلك لأن الخطوة، وحسب تقديره، لا تحقق هدف إنهاء الانقلاب، ولا تسترد مسار الانتقال المدني الديمقراطي عبر سلطة مدنية كاملة تعبر عن مطالب الشارع السوداني.
وقال بيان صدر عن حزب "المؤتمر السوداني"، أحد أحزاب "الحرية والتغيير"، إن "الاجتماعات التحضيرية تخطئ في تعريف طبيعة الأزمة وتحديد أطرافها وقضاياها، وتشرعن حجج الانقلاب التي يريد من خلالها إخفاء دوافعه وطبيعة تركيبته". وأعاد البيان التأكيد على "عدم جدوى أي عملية سياسية مع استمرار ممارسات السلطة الانقلابية، المتمثلة في استمرار قتل المتظاهرين السلميين والاعتقالات والعمل بقوانين الطوارئ".
ويمثل رفض تحالف "الحرية والتغيير" المشاركة في هذه الاجتماعات ضربة قوية للجهود الدولية والإقليمية الرامية لحلحلة الأزمة السياسية، خصوصاً أن هناك أطرافاً أخرى في الصف المعارض لانقلاب البرهان، أعلنت مسبقاً، ومن حيث المبدأ، رفضها جهود بعثة الأمم المتحدة، ورفضها حتى مجرد الجلوس والاستماع لرئيس البعثة الألماني فولكر بيرتس.
وتمسكت تلك القوى بشعار "لا تفاوض، لا مشاركة، لا شرعية"، وذهبت أبعد من ذلك بتوجيه انتقادات لاذعة لموقف البعثة الأممية من الانقلاب، واتهمتها بالتراخي معه، وذكّرتها بتفويضها الممنوح لها من مجلس الأمن الدولي بحماية الانتقال الديمقراطي.
من أبرز تلك الأطراف الممانعة والرافضة للحوار، لجان المقاومة السودانية، التي تقود الحراك الثوري حالياً ضد الانقلاب، ومعها الحزب الشيوعي السوداني وتجمّع المهنيين السودانيين.
وبالتالي، في حال إصرار الآلية الثلاثية على عقد الاجتماعات التحضيرية في موعدها غداً الثلاثاء، فلن يجلس إلى الطاولة إلا القوى السياسية التي دعمت الانقلاب العسكري من يومه الأول، أو تلك التي شاركت في التخطيط والتمهيد له، مثل "قوى الحرية والتغيير، ميثاق التوافق الوطني" (المنشقة عن التحالف الأساسي)، أو القوى القريبة من هذا الانقلاب، وهو مشهد سيبقي الوضع الحالي كما هو.
شهاب إبراهيم: الآلية تريد أن تغرق البلاد بحوار لا طائل منه
في السياق، قال القيادي في قوى "الحرية والتغيير" شهاب إبراهيم، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "الوضع سيبقى كما هو عليه إذا تمسكت وأصرت الآلية الثلاثية على نهجها الحالي، فلا يعقل بأي حال من الأحوال الدعوة إلى اجتماعات في ظلّ مناخ تواصل فيه آلة القمع الانقلابية انتهاكاتها بالقتل وبإبقاء الثوار في السجون والمعتقلات وبفرض حالة الطوارئ".
وأوضح إبراهيم أن أحد أهم أسباب رفضهم الانضمام للاجتماعات التحضيرية هو "حصر أطراف الاجتماع بين المدنيين والعسكريين، وهو توصيف خاطئ، لأن الأزمة أطرافها مؤيدو الانقلاب والرافضون له، والآلية تريد أن تغرق البلاد بحوار لا طائل منه".
خطة بديلة لتحالف "الحرية والتغيير" لحل الأزمة السودانية
وكشف إبراهيم عن خطة سياسية بديلة يعمل تحالف "الحرية والتغيير" على إعدادها، على أن تُسلّم للآلية الثلاثية، وهي في طور النقاش. لكنه أشار إلى أن ملمحها العام هو "إنهاء الانقلاب واستعادة التحول المدني ووضع إطار لإبعاد الجيش عن التأثير في العملية السياسية".
ولفت إلى أن الخطة "تضع 3 آليات لتحقيق أهدافها، هي العمل الجماهيري المستمر، والضغط الدولي، والحل السياسي".
وأكد إبراهيم أن قوى "الحرية والتغيير" "لن تتخلى بالمطلق عن العمل الجماهيري حتى وإن لم تحقق هدفها في الوقت الحالي، ذلك لأن نفس العمل الجماهيري هو الذي أسقط النظام البائد، وعليه سنمضي فيه حتى نهايته".
محاولة لشرعنة انقلاب البرهان
وبعيداً عن "الحرية والتغيير"، رأى المتحدث باسم الحزب الشيوعي السوداني كمال كرار، في الاجتماعات التحضيرية "محاولة لشرعنة الانقلاب وفرض تسوية سياسية معه تقوم على الشراكة بينه وبين المدنيين"، معتبراً ذلك "إعادة إنتاج للأزمة".
وأضاف كرار، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "مثل تلك المحاولات لديها هدف أبعد بكثير مما هو ظاهر، وهو قطع الطريق أمام الثورة السودانية، مثل ما حدث بعد فض اعتصام القيادة العامة (في يونيو/حزيران 2019)، وخلال توقيع اتفاق البرهان وحمدوك (في نوفمبر/تشرين الثاني 2021)".
كمال كرار: الاجتماعات التحضيرية محاولة لفرض تسوية سياسية مع الانقلاب
واعتبر أن "كل ذلك يأتي ضمن مؤامرات تريد مصادرة صوت الشارع ولجان المقاومة وقواها الحية الرافعة شعار لا تفاوض لا مشاركة لا شرعية"، مبيناً أن "كل حزب اتخذ قرار عدم المشاركة في الاجتماعات التحضيرية عليه أن يمضي بإيجابية أكبر بالانضمام إلى الشارع لإسقاط الانقلاب وهزمه".
وحول عدم نجاعة العمل الجماهيري الحالي، كما يقول البعض، قال كرار إن "ذلك التوصيف التخذيلي قيل أثناء الحراك الثوري ضد نظام البشير، وهو توصيف يراد به إجهاض الثورة التي ستنجح في نهاية المطاف بالتظاهرات والإضرابات والعصيان المدني، كما نجحت من قبل في إسقاط البشير و(الرئيس الأسبق جعفر) نميري و(الرئيس الأسبق إبراهيم) عبود".
موقف داعمي الانقلاب من اجتماعات الآلية الثلاثية
على الجانب الآخر، أعلنت "قوى الحرية والتغيير، ميثاق التوافق الوطني"، وهو تحالف داعم للانقلاب، استعداداها لتلبية أي دعوة من الآلية الثلاثية للمشاركة في الأعمال التحضيرية، شرط أن تُدعى كافة الأطراف من دون إقصاء أي جهة، عدا حزب "المؤتمر الوطني المحظور". وأكدت "دعمها أي جهد يقود لتقريب المسافات وترتيب وضع جديد يقود لإكمال الفترة الانتقالية وصولاً إلى انتخابات عامة".
وقد أوضح العضو القيادي في "الميثاق الوطني" الهادي عجب الدور، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "رؤية الآلية الثلاثية غير واضحة المعالم من حيث الأطراف المشاركة"، مشيراً إلى أنهم "سيتحفظون على دعوة أطراف اجتمعت بها الآلية الثلاثية في وقت سابق، مثل لجان المقاومة والأجسام النسوية، وهي أجسام غير معرّفة، وهناك أجسام موزاية لها". كما شدد على "أهمية حصر مهام الآلية الثلاثية في تسهيل الحوار، لا أن تكون وسيطاً".
من جهتها، أكدت "الجبهة الثورية"، الشريك في الحكم الحالي، أخيراً، أنها ستشارك في الاجتماعات التحضيرية، بعد أن اجتمعت مع الآلية الثلاثية، للتباحث حول كيفية انطلاق الحوار، وفقاً لما نادت به الجبهة في مبادرة قدمتها في وقت سابق لحل الأزمة، على أن يكون الحوار في مجمله سودانياً-سودانياً، منطلقاته سودانية وقيادته سودانية، فيما يكون دور الآلية الثلاثية تسهيلياً للحوار.
وقال المتحدث الرسمي باسم "الجبهة الثورية" أسامة سعيد، لـ"العربي الجديد"، إنه "بالتزامن مع الجهود الدولية، تتحرك مبادرة الجبهة الثورية، ولا سيما في ما يتعلق بالحوار، وفق مرحلتين؛ مرحلة أولية أطرافها الموقّعون على الوثيقة الدستورية والمشكلون الحكومة السابقة من أجل التوافق على اختيار رئيس وزراء وتشكيل الحكومة والاتفاق على برنامجها. أما الحوار في مرحلته الثانية، فسيكون مع كل القوى السياسية، عدا المؤتمر الوطني، للتباحث حول مؤتمر يخص قضايا الحكم والدستور والانتخابات".
أي نتائج ستتوصل إليها هذه الاجتماعات، ستلبي وجهة نظر العسكر ولن يقبل بها الشارع
فرص معدومة لنجاح اجتماعات الآلية الثلاثية
ومع هذا التعقيد، رأى رئيس تحرير صحيفة "الجريدة" أشرف عبد العزيز، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "لا أمل في نجاح الاجتماعات التحضيرية في ظل المقاطعة من قوى الحرية والتغيير، الفاعل الأساسي في العملية السياسية"، مشيراً إلى أن "أي نتائج ستتوصل إليها هذه الاجتماعات، ستلبي وجهة نظر العسكر ولن يقبل بها الشارع المصرّ على لاءاته الثلاث".
وتوقع عبد العزيز "استمرار الضغوط على المكون العسكري لتسليم السلطة للمدنيين وعودة الجيش إلى الثكنات، لأن تلك مطالب الشارع والقوى السياسية الحية بما فيها الحرية والتغيير، التي أبلغت الآلية الثلاثية بأنها لن تشارك في عملية سياسية لا تنهي الانقلاب العسكري".