فرنسا - أفريقيا: نفور متزايد يغذّيه "المؤثرون" الروس

26 نوفمبر 2022
ماكرون مع المغنية الفرنسية إيزولت أنغينه، جربة (لودوفيك ماران/فرانس برس)
+ الخط -

صبّ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال حضوره قمّة منظمة الدول الفرنكوفونية في جربة التونسية، والتي انعقدت في 19 و20 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، جام غضبه على روسيا، التي يتزايد نفوذها في أفريقيا، على حساب المستعمر الفرنسي السابق.

وحمّل ماكرون، موسكو، مسؤولية تغذية الشعور المناهض لفرنسا، في القارة السمراء، مع تنامي الدور الروسي، في عدد من دول القارة، لا سيما في منطقة الساحل الأفريقي (بوركينا فاسو، مالي، النيجر، تشاد وموريتانيا)، وحيث يعمل مرتزقة شركة "فاغنر" الروسية في أكثر من بلد أفريقي على دعم السلطة، وفق تقارير وثّقت النشاط العسكري الروسي غير الرسمي فيها.

واختصر ماكرون أسباب تنامي النفور الشعبي في عدد من المستعمرات الفرنسية السابقة في القارة، بالتدخل الروسي، وحتى من قبل جماعة "المؤثرين" من الناشطين الأفارقة، المناهضين للسياسة الفرنسية في أفريقيا، الذين بات يربطهم الفرنسيون بالكرملين. ويضاف هذا إلى "الطلاق" السياسي الذي انتهجته مالي مثلاً مع باريس، وإضعاف الانقلاب في بوركينا فاسو للنفوذ الفرنسي فيها.

وإذ كان النفوذ الفرنسي في أفريقيا، وبداية ما يُحكى عن أفوله، يحتاج إلى كلام كثير لشرحه، فإن اختصار ماكرون لأسباب الأزمة، لا يبدو كافياً، على الرغم من التغلغل الروسي المتزايد في القارة، الذي ينضم إلى التغلغل الصيني. ويؤرخ ذلك لمرحلة مختلفة من العلاقات الأفريقية – الدولية غير المختصرة على الفلك الغربي، ودخول النفوذ الفرنسي في أفريقيا حقبة التراجع.


الاستراتيجية الفرنسية الجديدة في أفريقيا، ستكون جاهزة في غضون 6 أشهر

وجاءت مناسبة عودة الإعلام الفرنسي للتركيز على تنامي الشعور المناهض لفرنسا في أفريقيا، متزامنة مع قمّة الفرنكوفونية الـ18 في جربة، والتي استعيد معها الحديث عن تراجع اللغة الفرنسية كأداة للقوة الناعمة لباريس.

وتحدث ماكرون نفسه عن أهمية العمل لـ"استعادة" هذه القوة التي أقرّ بتراجعها، لكنه اتهم روسيا بتغذية دعاية مناهضة لبلاده في أفريقيا لخدمة طموحها الذي وصفه بـ"المتوحش" في دول أفريقية عدة مضطربة، تراجع فيها تأثير فرنسا خلال السنوات الماضية.

ورداً على سؤال على هامش القمة، حول القول إن فرنسا استغلت نفوذها في القارة من أجل مصالحها الخاصة، قال ماكرون: "هذا المفهوم يغذيه آخرون، إنه مشروع سياسي. لست مغفلاً، العديد من المؤثرين، في بعض الأحيان يتحدثون في برامجكم، يتلقون أموالاً من روس... نعرفهم". وأضاف أن "عدداً من القوى التي تريد أن تنشر نفوذها في أفريقيا، تفعل ذلك للإضرار بفرنسا وبلغتها ولنثر بذور الشك، لكن وأهم من كل ذلك... السعي وراء مصالح بعينها".

ووصف ماكرون سلوك روسيا في أفريقيا بـ"المتوحش"، قائلاً "عليك فقط أن ترى ما يحدث في جمهورية أفريقيا الوسطى أو مناطق أخرى لتعرف أن المشروع الروسي قيد التنفيذ هناك، بتهميش فرنسا، هو مشروع متوحش". وفي كلمة أخرى خلال القمّة، انتقد ماكرون بشدّة "استغلال بعض القوى ليقظة المكبوت الاستعماري" لدى عدد من شعوب دول أفريقيا.

ويتوزع النفور من السياسة الفرنسية في أفريقيا، بين المستويين الشعبي والسياسي. ففي مالي، حظرت السلطات العسكرية الحاكمة أخيراً أنشطة المنظمات الحكومية التي تمولّها فرنسا أو تدعمها، وذلك بعد أيام قليلة من إعلان الخارجية الفرنسية وقف باريس مساعداتها التنموية لمالي، بعد 3 أشهر على استكمال سحب قواتها (بإطار عملية برخان) من هذا البلد.

وفي تشاد، تتزايد التظاهرات المناهضة لفرنسا في هذا البلد الذي يعدّ من الأكثر فقراً والأقل نمواً في العالم. وحصل الأمر ذاته في بوركينا فاسو، وهي إلى جانب تشاد البلدان المتضرران بشدّة من خطر الإرهاب المتنقل في منطقة الساحل، وحيث لم يتمكن التواجد العسكري الفرنسي على مدى أعوام من كبحه.

وبالإضافة إلى "العسكرة" المتزايدة لطبيعة العلاقة الفرنسية – الأفريقية، جاء انتشار فيروس كورونا، ليكشف لشعوب هذه الدول الأفريقية هشاشة أنظمتها الحاكمة، التي بنت كنخب سياسية واقتصادية، علاقات استثنائية وخاصة مع فرنسا، التي حوّلت مهمتها بعد الاستعمار إلى "مهمة حضارية"، فيما ظلّت طبيعة هذه العلاقات وحجم المكاسب التي تجنيها فرنسا منها، بعيدة عن المكاشفة مع الشعوب.

وأدّى انتشار الفيروس وتكثيف الجماعات المتطرفة المسلحة لأنشطتها، ثم محاصرة الانقلابات لعدد من دول القارة، إلى تزايد الفقر والبطالة في المنطقة، لا سيما في المستعمرات الفرنسية السابقة في غرب وشمال أفريقيا وجنوب الصحراء.

ويرِشحّ متابعون، بأن تكون النيجر، الغنية باليورانيوم، التالية التي قد توجه صفعة إلى باريس، إذا ما أخذت بالاعتبار طريقة خروجها من مالي إثر انقلاب العسكر فيه، نظراً لحجم الاحتجاجات المتزايدة فيها رفضاً للوجود العسكري الفرنسي. وغالباً ما تترافق هذه الاحتجاجات مع رفع الأعلام الروسية، أو إطلاق شعارات هجومية تجاه فرنسا، أو رشق مقرات السفارات الفرنسية أو قنصلياتها بالحجارة.

ويأتي ذلك علماً أنه بحلول نهاية العام الحالي، سيكون آخر الجنود الفرنسيين الذين جاؤوا ضمن مهمة سنغاريس قد غادروا جمهورية أفريقيا الوسطى، التي عدّتها فرنسا متواطئة مع الحملة المناهضة لها. وكانت عملية سنغاريس قد بدأت في ديسمبر/كانون الأول 2013 وانتهت رسمياً في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2016، لدعم السلطات الحاكمة برئاسة فرانسوا بوزيزيه في جمهورية أفريقيا الوسطى، بمواجهة المتمردين من حركة "سيليكا" المسلمة. بدأت العملية الفرنسية بألفي جندي، وواجهت مع انتهاء مهمتها اتهامات بانتهاكات جنسية واغتصاب أطفال.

وكانت روسيا قد أرسلت في 2018 مدربين عسكريين إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، ثم قوات شبه عسكرية، بناء على طلب بانغي. وبداية الشهر الحالي، سُحب لقب "عميد الجسم الدبلوماسي" من هذه الدولة الذي يمنح عادة للسفير الفرنسي (يشغل المنصب حالياً جان مارك غروسغوران)، وهو ما رأت فيه صحيفة "ليبراسيون" في تقرير لها نشر الأربعاء الماضي، "خطوة رمزية لكنها تدل على تغيّر حقبة".

وفي الواقع، فإن فرنسا بحثت بشدّة، مع بداية الألفية الثالثة، عن تعزيز روابطها مع مستعمراتها السابقة بطرق "ثقافية"، بعد عقود على حقبة ما بعد الاستعمار التي واصلت فيها تعزيز قبضتها على القارة الأفريقية، عبر بناء "خلايا" في الإليزيه، للعمل مع النخبة الفاسدة في دول القارة.

إلا أن البعد العسكري ظلّ طاغياً على هذا التواجد، لا سيما مع تنامي الحركات المتطرفة الإسلامية التي دفعت فرنسا إلى تعزيز نفوذها العسكري والتدخل بمهمات عسكرية في دول القارة.

ومع وصول ماكرون إلى السلطة، أعلن عن انتهاء ما يسمى بـ"أفريقيا الفرنسية"، لكن استراتيجيته الهادفة إلى جذب الشباب الأفريقي أعادت التذكير بـ"المهمة الحضارية" للاستعمار الفرنسي، لا سيما أن "تودّده" ترافق مع سياسات فرنسية بدت بدورها عدائية واستعلائية تجاه أفريقيا، خصوصاً مع تقليص التأشيرات الممنوحة للطلاب. 

وفي حديث لها مع صحيفة "لوموند الفرنسية"، اعتبرت السكرتيرة العامة للمنظمة الدولية للفرنكوفونية، الرواندية لويز موشيكيوابا، قبل أيام، أن الشعور المعادي في فرنسا، أصبح أكثر فأكثر ظاهراً في أفريقيا، وهو "علامة على تقدم الزمن". ورأت أن "الشباب الأفريقي لم يعد يريد أن يتمّ ربطه ببلد واحد".

ولفتت إلى أنه "في الدول الفرنكوفونية في الماضي، كان الموظف المتوسط يتمّ دراسته في فرنسا وقريب منها ثقافياً، أما اليوم فإن ما يتمّ التعبير عنه على المستوى السياسي، هو التأكيد على هوية عالمية للشباب الفرنكوفوني، وهناك أيضاً شعور بعدم الرضا قد يكون مردّه إلى أن بعض القادة (الأفارقة) ممن لا يزالون مركّزين على القوة الاستعمارية السابقة".

لكن موشيكيوابا رأت أن "هذا التمرد لا يتعلق فقط بفرنسا، بل يعبّر عن نفسه خصوصاً عندما لا نريد أن ننتمي إلى قوة واحدة". وقالت موشيكيوابا إنه "ربما هذا الشعور، قد تمّت تغذيته من قوى خارجية، لكنه يأتي خصوصاً من الأفريقيين أنفسهم". وبرأيها، فإن "الروس المتواجدين في بعض الدول الفرنكوفونية مرتبطين خصوصاً بالمسؤولين السياسيين، وليس لديهم فعلاً تواصل مع الشعب".

وكان الرئيس الفرنسي قد أعلن في بداية نوفمبر الحالي، أن الاستراتيجية الفرنسية الجديدة في أفريقيا، ستكون جاهزة في غضون 6 أشهر بعد مشاورات باريس مع شركائها في القارة.

وشكّك متابعون بأن فرنسا قد تخرج نهائياً من أفريقيا بل إن "تدوير زوايا" سيحصل، لإعادة رسم استراتيجية مختلفة للبقاء في القارة، التي أكد الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول أن "سياسة فرنسا فيها وسياسة فرنسا العالمية مرتبطتان"، رغم إطلاقه قطار إنهاء الاستعمار.


يعمل ناشطون موالون لروسيا على مواقع التواصل لحقن الشارع الأفريقي ضد فرنسا

وذكرت صحيفة "لوفيغارو" يوم الأربعاء الماضي، أن الحديث عن إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية في أفريقيا "لم يعد محرّماً"، وأنه أصبح جدّياً لأسباب تتعلق بالميزانية، لكن أيضاً بسبب الخشية من أن تصبح هذه القواعد أهدافاً إذا ما ازداد الشعور المعادي للتواجد الفرنسي.

وقالت الصحيفة إن الحديث جارٍ عن استبدال هذه القواعد بـ"شراكات" بناء على "تمنيات" من الدول المضيفة، على أن يكون ذلك على شكل تدريبات أو مرافقة في مهمات عسكرية.

لكن "ليبراسيون" تحدثت عن عاملين لتنامي النفور الأفريقي من فرنسا، من دون إنكار العامل الفرنسي. وأشارت إلى الدور الروسي، والناشطين الأفارقة الموالين لروسيا الذين "يحقنون في الشارع (الأفريقي ضدّ فرنسا)، من مقرات إقاماتهم المريحة في أوروبا، من مسافة معقولة لنفخ الشعور المعادي لفرنسا دون تحمل عواقبه".

وقدّمت الصحيفة مثالاً، ناتالي يومب التي نفيت من ساحل العاج إلى سويسرا، والملقبة بـ"سيّدة سوتشي". لكن الصحيفة تحدثت أيضاً، عن "ثقة بالنفس زائدة عن حدّها لدى السلطات الفرنسية، في ما يتعلق بالسياسة الخارجية في أفريقيا، مترافقة مع غياب الرؤية"، ما أدى إلى هذا التراجع.
(العربي الجديد)

المساهمون