ويعود الحرج الإسرائيلي بشكل خاص إلى إدراك صناع القرار في تل أبيب أن اتفاق التهدئة الجديد نسف عملياً الأسس التي ضبطت قواعد الاشتباك مع المقاومة منذ انتهاء حرب 2014، وربما رغبة من حكام الاحتلال بعدم تقديم أي فوز معنوي للمقاومة حتى لجهة القدرة على رفض شروط إسرائيل بنزع السلاح الموجود بيد فصائل المقاومة في القطاع المحاصر.
ومنذ انتهاء حرب 2014، تمكنت إسرائيل من فرض معادلة ردع واضحة المعالم تقوم على تكريس ما تصفه بـ"حقها" في ضرب أهداف المقاومة بشكل غير متناسب رداً على أي عمل عسكري ينطلق من قطاع غزة بغض النظر عن تأثيراته، مع العلم أن الفترة التي أعقبت هذه الحرب تعد الأكثر هدوءاً بالنسبة لمنطقة جنوب إسرائيل منذ اندلاع الانتفاضة الأولى نهاية عام 1987. وكان أهم ما حققته إسرائيل أنها أضفت "شرعية" على إقدامها على جباية ثمن تحديداً من حركة حماس رداً على أي عمل عسكري، تقوم به المجموعات والحركات الفلسطينية الأخرى، بزعم أن الحركة تمثل العنوان السلطوي في القطاع وبالتالي تتحمل هي المسؤولية عما يجري هناك وكل ما ينطلق من هناك.
ومن خلال التشبث بما تصفه بـ"حقها" في استهداف "حماس"، أوجدت إسرائيل مسوغاً لتنفيذ استراتيجية "المواجهة بين الحروب"، الهادفة إلى قضم قدرات الحركة العسكرية من أجل إضعافها وتحسين مكانة تل أبيب في أية مواجهة مستقبلية معها. من هنا، فإن قبول إسرائيل باتفاق التهدئة الجديد، ولو ضمنياً، بدليل هدوء الوضع وتوقف القصف أمس الأربعاء، بعد أن أوضحت حركتا حماس والجهاد الإسلامي، القوتان العسكريتان الأساسيتان في القطاع، أنه، من الآن فصاعداً أي عدوان إسرائيلي على القطاع سيرد عليه بالمثل، يعني تسليماً إسرائيلياً بالواقع الجديد ونجاحاً فلسطينياً في فرض قواعد اشتباك جديدة.
وتدل الانتقادات غير المسبوقة التي توجهها نخب اليمين في تل أبيب لحكومة بنيامين نتنياهو في أعقاب اتفاق التهدئة على إدراك هذه النخب أن هذا الاتفاق يجسّد تسليم إسرائيل بتغيير قواعد الاشتباك، التي كانت مريحة تماماً لتل أبيب. وكان لافتاً أن الكثير من هذه النخب قد عبّرت عن استهجانها لنجاح إسرائيل في فرض قواعد اشتباك مريحة لها في مواجهة إيران وحزب الله في سورية، بينما تفشل على نحو كبير في تحقيق هذا الهدف عندما يتعلق الأمر بالمقاومة في غزة، التي توصف بأنها "الحلقة الأضعف" من بين أعداء إسرائيل. وعلى الرغم مما تقدم، فإن حرص إسرائيل على احتواء التصعيد الأخير والقبول باتفاق تهدئة، ولو ضمنياً من دون الاعتراف بذلك رسمياً، لم يكن مفاجئاً، إذ إن هناك الكثير من العوامل التي تدفع تل أبيب للزهد في تصعيد يمكن أن يفضي إلى مواجهة شاملة.
فالتفرغ لمواجهة شاملة مع المقاومة في غزة يتناقض مع سلم الأولويات الذي يحكم السياسات الإسرائيلية، إذ إن تل أبيب منغمسة حالياً في تنفيذ استراتيجية واضحة المعالم ضد إيران، بالتعاون مع الولايات المتحدة، تهدف من ناحية إلى القضاء على الوجود العسكري الإيراني في سورية؛ إلى جانب العمل على توفير بيئة دولية وإقليمية تسمح باحتواء المشروع النووي لطهران بشكل يتجاوز "الثقوب" التي تراها كل من تل أبيب وواشنطن في الاتفاق النووي.
من ناحية ثانية، فإنه على الرغم من أن موازين القوى تميل لصالح إسرائيل بشكل جارف، فإن صناع القرار في تل أبيب يدركون أن آليات الردع التي يوفرها التفوق النوعي لا يمكن أن تنجح في منع المقاومة في غزة من الرد ومحاولة تغيير قواعد الاشتباك، لأنه لا يوجد لقطاع غزة ما يخسره في هذه المواجهة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية.
بل على العكس تماماً، فأوساط التقدير الاستراتيجي في تل أبيب ظلت تحذر من أن المقاومة يمكن أن تبادر لإشعال مواجهة فقط من أجل إيجاد بيئة جديدة تسمح بإحداث تحول على الواقع الاقتصادي والإنساني. ثم إن نتنياهو وفريقه ربما لا يرغبون بالتفريط بحالة "التضامن" الدولي مع دولة الاحتلال، والذي ترجم بتنديد دول أوروبية وحتى الأمم المتحدة، ممثلة بالمنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف، بالصواريخ التي أطلقت من قطاع غزة باتجاه مستوطنات جنوبي الأراضي المحتلة في ما يعرف بـ"غلاف غزة". كما أن نتنياهو ربما يفضل، عشية جولة أوروبية يجريها في الأيام المقبلة إلى عواصم القرار في القارة العجوز، أن تبقى الأوضاع هادئة في الجبهة الجنوبية، بينما يتواجد وزير أمنه أفيغدور ليبرمان في موسكو للتفاوض على تبني روسيا شروط إسرائيل في إبعاد القوات الإيرانية وحلفائها عن الجولان المحتل في جنوب سورية.
ومن الواضح أن سلوك المقاومة في غزة يتناقض مع سلوك كل من إيران وحزب الله، اللذين يستجيبان لاستراتيجية الردع التي تمارسها إسرائيل لاعتبارات تتعلق بالواقع العسكري والسياسي لكل منهما. ومن الواضح أيضاً أن أهم سبب وراء حرص تل أبيب على تجنب مواجهة شاملة، حقيقة أنها تخشى أن تضطر في أعقابها إلى إعادة احتلال القطاع، مع كل ما يترتب عليه الأمر من دفع أثمان أمنية واقتصادية وسياسية باهظة جداً في ظل عدم وجود طرف ثالث يمكن أن يتولى زمام الأمور هناك في أعقاب إسقاط حكم "حماس".
من هنا، فإن جولة التصعيد الأخيرة يمكن أن تسهم في توفير بيئة تسمح بإنجاح الجهود الإقليمية التي بدأت بالفعل والتي هدفت للتوصل لاتفاق هدنة، يضمن، من ناحية، منع انفجار مواجهة شاملة، ومن ناحية ثانية يفضي إلى إحداث تحول جذري على الواقع الاقتصادي والإنساني في القطاع.
ويرجح أن تسمح نتيجة التصعيد بتحسين بيئة حراك العودة وتعيد الزخم له، على اعتبار أن سلطات الاحتلال ستتردد كثيراً قبل أن تستغل الحراك في تبرير شن ضربات ضد أهداف للمقاومة، كما كانت تفعل حتى قبل جولة التصعيد الأخيرة.
ولعل ما يعزز تجسيد هذا السيناريو حقيقة أن هناك إجماعاً داخل الحلبة السياسية الإسرائيلية بكل أطيافها الحزبية، على ضرورة تغيير الواقع الاقتصادي والإنساني في القطاع، على اعتبار أن هذا يخدم المصالح الاستراتيجية لتل أبيب.