بمعزل عن التوقيت السياسي الذي لا يبدو مناسباً، تعطي زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى تونس مؤشراً على تغيير كبير في محددات عمل الدبلوماسية الجزائرية خلال المرحلة السياسية المقبلة، وإعادة تمركز أولويات الجغرافيا بعد عقود تركز فيها الانشغال الدبلوماسي للجزائر بمنطقتي أوروبا وآسيا، وهو ما كان يصب في مصلحة دول غربية وفي مقدمتها فرنسا.
أنهى الرئيس الجزائري، مساء أمس الخميس، زيارة دولة قادته إلى تونس، هي الأولى على صعيد النوع والتصنيف (زيارة دولة كأرفع أنواع الزيارات) منذ 35 عاماً، والأولى على الصعيد الرسمي منذ 12 عاماً، تم خلالها التوقيع على 27 اتفاقية ومذكرة تفاهم تخص عدداً من القطاعات الاقتصادية والتجارية والثقافية وفي مجالات العمل وتنمية الحدود والتوأمة بين الولايات. ويُفهم من هذا الرقم الكبير للاتفاقيات رغبة في إعطاء البعد الاقتصادي للعلاقات بين تونس والجزائر أولوية مقارنة بالبعدين السياسي والأمني اللذين ظلا يهيمنان على العلاقات بين البلدين، خاصة في العقود الأخيرة، مع ظهور نشاط الجماعات المسلحة على الحدود بين البلدين.
ولا يزال من المبكر الحكم على المخرجات الاقتصادية لهذه الزيارة، باعتبار أن تفعيل هذه الاتفاقيات ووضعها موضع التنفيذ يحتاج إلى بعض الوقت بالأساس، أخذاً بعين الاعتبار الظروف المرتبكة التي تمر بها تونس، إضافة إلى قرار الجزائر إرجاء فتح الحدود البرية مع تونس، ما سيغلق الباب أمام إسعاف السياحة التونسية (2 مليون سائح جزائري يتدفقون على تونس سنوياً)، وعدم التطرق إلى مسألة مفصلية اقتصادياً تخص تفعيل منطقتي التبادل التجاري الحر بين البلدين، واللتين تم التوقيع على اتفاقية بشأنهما منذ عام 2008. لكن ذلك لا يغني عن الاعتقاد أن هناك تطوراً في الرغبة السياسية نحو وضع المحددات الاقتصادية على رأس الأولويات، وجعلها قاطرة لعلاقات توصف بالتاريخية بين البلدين.
على الصعيد الجزائري، تندرج زيارة الرئيس تبون إلى تونس ومخرجاتها ضمن سياق توجه إقليمي جديد بات يرتسم في الأفق بالنسبة للسلطة السياسية في الجزائر، يضع دول الطوق والجوار على رأس الاهتمامات المركزية للدبلوماسية الجزائرية، ويؤكد وجود تحول جدي لصانع القرار في الجزائر إزاء الخريطة والجغرافيا السياسية، ليس فقط على الصعيد السياسي ولكن بحضور قوي للعامل الاقتصادي، ويفسر ذلك بوضوح إعادة فتح الجزائر لسفارتها في ليبيا (مغلقة منذ عام 2014)، وإيفاد رئيس البرلمان السابق سليمان شنين كسفير مفوض إلى طرابلس، وإرسال وزير الخارجية رمطان لعمامرة قبل ذلك إلى طرابلس على مرتين، إضافة إلى تركيز جزائري لافت على مالي والسعي للإحاطة بالأوضاع في الجارة الجنوبية، وهو ما يفسر توالي وتبادل الزيارات بين كبار المسؤولين في البلدين خلال الأشهر الأخيرة، وبنفس القدر مع الجارة النيجر، وهي دول يتوقع أن تكون محطات مقبلة لزيارات الرئيس عبد المجيد تبون، إذ لم تحظَ مالي والنيجر وليبيا أيضاً بزيارات لرئيس جزائري منذ عقود.
تصحيح التوازنات
ويذهب عدد من الدبلوماسيين الجزائريين تحدث إليهم "العربي الجديد" إلى اعتبار أن تحول الاهتمام الدبلوماسي للجزائر نحو دول الجوار هو في الواقع تصحيح لخيارات كانت تبدو خاطئة بالنسبة للجزائر، وإعادة قراءة جيدة وفي توقيت حساس ومهم للخريطة الجيوسياسية والمحيط الجغرافي، خاصة وأن انشغال الجزائر عن دول الطوق التي تمثل عمقها الحيوي فتح الباب لتمركز دول ومحاور وبروز مشكلات ذات بعد سياسي وأمني أثرت بشكل مباشر على الجزائر، خاصة في ليبيا وتونس ومالي بالدرجة الأولى.
ويصف عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الجزائري عبد السلام باشاغا، في تصريح لـ"العربي الجديد"، عودة اهتمام الجزائر بدول الجوار بأنها "استعادة التوازن اللازم في علاقات الجزائر الخارجية بعد فترة من التركيز على الخريطة البعيدة، خاصة في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وكذا لغايات وقائية من أزمات في دول الجوار، بعضها تسبب في وضعيات سياسية محرجة بالنسبة للجزائر".
وفي السياق، يبرز الاندفاع الجزائري الجديد نحو موريتانيا، بعد سنوات من إهمال العلاقات مع هذا البلد الحيوي، لدرجة عدم وجود منفذ بري بين البلدين إلى غاية نهاية 2018، إذ وضعت السلطة الجزائرية نواكشوط في قلب اهتماماتها السياسية والاقتصادية بالدرجة الأولى، عبر فتح منافذ حدودية جديدة وتسيير قوافل تجارية إلى المدن الموريتانية ومنها إلى دول غرب أفريقيا، وربط علاقات تعاون مع الحكومة الموريتانية. وينتظر أن يزور الرئيس محمد ولد الغزواني الجزائر في وقت لاحق، فيما كانت الجزائر قد أوفدت، وللمرة الأولى، وفداً من أربعة وزراء (الخارجية المالية التجارة والصحة)، دفعة واحدة، إلى موريتانيا، كما أخذت على عاتقها إسناد نواكشوط في تسيير وإدارة الأزمة الوبائية.
ويفسر محللون عودة الجزائر إلى دبلوماسية الجوار الآمن بعوامل اقتصادية وأمنية بالدرجة الأولى، فحاجة الاقتصاد الجزائري إلى أسواق محلية تبدو ملحة، خاصة وأن هذه الأسواق، كموريتانيا وليبيا ومالي والنيجر، في المتناول، بحكم قرب الحدود والاتفاقيات السابقة الموقعة بين الدول المغاربية وبين الجزائر ودول الساحل من جهة، ومن جهة ثانية لكون الحركية الاقتصادية من شأنها أن تنعش المناطق الحدودية وتوفر حالة من توطين الفعل الاقتصادي كبديل مقاوم للتهريب والتجارة الموازية والجريمة والإرهاب. ويدخل في السياق العامل الأمني، فحضور الجزائر بوصفها مركزية تحظى باستقرار نوعي سيكون بمثابة إسناد لهذه الدول يمنعها من وضعيات الانهيار، على غرار ما حدث في ليبيا، ويقلص من الضغوط الأجنبية، ويكبح استدراج دول الجوار إلى سياسات الاصطفاف والمحاور وخيار التطبيع، ويوفر في المقابل مجالاً للتعاون والتنسيق الأمني الذي يقي الجزائر من مشكلات وقلاقل أمنية على الحدود أو بالقرب منها.
توجه مفروض
ويرى الباحث المتخصص في العلاقات السياسية وأستاذ العلوم السياسية في جامعة شلف غربي الجزائر، عربي بومدين، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الدوافع الكامنة وراء هذه الانعطافة الجزائرية تتعلق "بالتنافس الإقليمي في المنطقة المغاربية مع المغرب، ومحاولة الجزائر الحفاظ على الريادة الإقليمية في الفضاء المغاربي، ويتعزز هذا الطرح بصفة جلية مع التطبيع المغربي - الإسرائيلي، إضافة إلى دوافع سياسية تتجلى في تسويق المقاربة الجزائرية القائمة على الركيزة الأخلاقية في العلاقات الدولية، ويتعلق الأمر بالحفاظ على المكانة والسمعة الدولية المنبثقة عن المبادئ الراسخة للسياسة الخارجية الجزائرية، في حين أن البعد الأمني يظل أحد الأولويات المهمة خاصة في العمق الأفريقي، إذ تحاول الجزائر توظيف البعد السياسي والتنموي في سياق الدبلوماسية الوقائية لتجنب الأعباء الأمنية، والتهديدات من قبيل الجريمة المنظمة، والجماعات الارهابية، وتجارة السلاح، والهجرة غير الشرعية".
ويشير إلى أن "البعد الاقتصادي لم يكن يحظى بأولوية صانع القرار في الجزائر بالمقارنة مع قوى إقليمية أخرى، أين نجد الحضور الاقتصادي مدخلاً للقوة الناعمة، حيث تعد الدبلوماسية الاقتصادية إحدى الأدوات المهمة في تحقيق المصلحة الوطنية للدولة. وعلى الرغم من أن المقاربة الجزائرية إقليمياً ترتكز على البعد التنموي، فإن الحضور الاقتصادي ضعيف في العمق المغاربي، وخصوصاً الأفريقي".