جاءت موجة العمليات الفدائية الفلسطينية الأخيرة، ردًّا على سياسات التصعيد الإسرائيلي الممنهج في الضفة الغربية والقدس، التي تزامنت مع نشاط الدبلوماسية الإسرائيلية في توظيف الانعكاسات الدولية والإقليمية للأزمة الأوكرانية، في تفعيل "استراتيجية التطبيع الإقليمي" (مع مصر والإمارات والبحرين والمغرب وتركيا).
وعلى الرغم من هذه السياقات الدولية والإقليمية والعربية، المواتية، في ظاهرها، لسياسات التصعيد الإسرائيلية، فقد جاءت العمليات الفدائية، لتؤكد صعوبة تهميش قضية فلسطين، وفشل أطروحات "الحل الإقليمي"، سيما في صيغة "صفقة القرن".
ولا شك أن تنفيذ شباب فلسطينيين (أغلبهم ولدوا بعد اتفاق أوسلو 1993) عملياتٍ جريئة في العمق الإسرائيلي، تحمل مؤشراتٍ واضحة على دور متصاعد للجيل الشاب في استعادة زمام المبادرة، والرغبة في تحدي سياسات الاحتلال، باستخدام ما تيسّر من أدوات الطعن والدهس والهجوم وإطلاق النار على الجنود والشرطة والمستوطنين الإسرائيليين.
وليس مصادفةً أن تنفيذ الأسير المحرَّر، محمد أبو القيعان، عملية دهس وطعن، في بئر السبع بالنقب 22 مارس/آذار الماضي، (تسببت في مقتل 4 إسرائيليين)، قد جاءت بعد ثلاثة تطورات مفصلية؛ أولها تظاهر مئات المواطنين العرب بالنقب (هبّة النقب) في يناير/كانون الثاني 2022؛ احتجاجًا على تجريف أراضيهم، وزراعتها بالأشجار، توطئةً لمصادرتها، من قِبل الصندوق القومي اليهودي "كاكال"، الذي ينشط في الاستيلاء على الأملاك الفلسطينية. وثانيها مصادقة رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، على الخطة الخمسية الخاصة بالنقب، بادعاء "تنمية المجتمع البدوي"، بميزانية تقدر بحوالي 5 مليارات شيكل، وتشمل إقامة مدينتيْن يهوديتين جديدتين في النقب، واحدة للحريديم وأخرى للعلمانيين. وثالثها قمّة شرم الشيخ التي جمعت رئيس الوزراء الإسرائيلي، بينت، مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد (22 مارس/آذار).
ويبدو لافتًا قدرة عمليات المقاومة على إعادة رسم "خريطة الاحتجاج/الغضب المتنقل" بين النقب والقدس ومدن الضفة الغربية وتل أبيب، على نحو يُظهر وحدة الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال، فضلًا عن نجاح العمليات في إبراز صلابة الإرادة السياسية وتصميم الشباب على إرغام الحكومة الإسرائيلية على التراجع عن إجراءاتها التصعيدية، ضمن ما سمّي حملة "كاسر الأمواج" في الضفة الغربية.
والملاحظ في هذا السياق، استمرار مدينة القدس (خصوصًا المسجد الأقصى)، بؤرةً ملتهبة في صراع الفلسطينيين مع الاحتلال، على الرغم من بروز مركزية جنين، في المسار الراهن لتصاعد المقاومة؛ إذ ينتمي إليها كلٌّ من ضياء حمارشة منفذ عملية "بني براك" (مواليد يعبد، عام 1995)، ورعد حازم منفذ عملية "ديزنغوف" (مواليد مخيم جنين، عام 1993).
إضافةً إلى تحمّل مدينة جنين ومخيمها، فاتورة باهظة من الاعتقالات والاقتحامات والشهداء، جرّاء الاشتباكات المتكررة مع قوات الاحتلال، وتلميحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بإمكانية شنّ عملية برّية في جنين، في إطار محاولاته المستميتة، لاستعادة/ترميم "الردع الإسرائيلي"، والتغطية على الفشل الاستخباري المتكرّر، والرد على معسكر المعارضة بزعامة بنيامين نتنياهو، في انتقاداته لأداء الحكومة الراهنة.
ويبدو من سياق التصعيد الإسرائيلي ضد المسجد الأقصى، وتكثيف اقتحامات أعضاء الكنيست والمستوطنين لباحاته، سيما في عيد الفصح اليهودي، أن ثمة احتمالًا لتوسّع المواجهات وامتدادها نحو "انفجار شعبي فلسطيني"، قد يتشابه في بعض الوجوه، مع ما حدث إبان حرب غزة الرابعة مايو/أيار الماضي، بسبب إصرار إسرائيل على المضي قدمًا في تنفيذ مخططاتها، بشأن التقسيم الزماني والمكاني للأقصى، وإغلاق سلطات الاحتلال الحرم الإبراهيمي في الخليل، أمام الفلسطينيين 18 و19 إبريل/نيسان الجاري.
هذا الوضع الملتهب قد يقود إلى مسار تصادمي، بسبب عدة عوامل؛ أولها تمادي حكومة بينت في سياسات العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني بأكمله، على الرغم من ارتباك الحكومة وهشاشتها وفقدانها الأغلبية في الكنيست، بعد استقالة عضو الكنيست من حزب "يمينا"، عيديت سيلمان. ثانيها ضعف قدرة السلطة الفلسطينية على الاستمرار في السيطرة على الأوضاع في الضفة الغربية، في ظل التصعيد الإسرائيلي المتواصل، وغياب أي أفق للحل السياسي. ثالثها رغبة فصائل المقاومة في غزة، باستثمار ضعف حكومة بينت، لتسجيل نقاط إضافية لمصلحة مشروع المقاومة على حساب الاحتلال. ورابعها سوء تقدير إسرائيل لحدود توظيف تفاقم الضعف الرسمي العربي، خصوصًا بعد الأزمة الأوكرانية، للإجهاز على ما تبقى من القضية الفلسطينية، التي تثبت مجددًا استعصاءها على خصومها، كلما تزايد الاعتماد على الذات وإبداع طرق وأساليب جديدة تناسب متغيرات المرحلة الراهنة من النضال الفلسطيني.
وعلى الرغم من أن إدانات النظم العربية لسلوك إسرائيل العدواني، تبقى "خجولة ومراوغة"، فإنها قد تشكّل تلاقيًا مع مواقف دول أخرى تخشى من تداعيات السياسات الإسرائيلية تجاه القدس، واحتمال إشعالها حربًا جديدة على قطاع غزة.
وفي هذا السياق، طلبت فرنسا وأيرلندا والصين والنرويج والإمارات، عقد جلسة مغلقة لمجلس الأمن الدولي، في 19 إبريل/نيسان الجاري، للبحث في تصاعد حدّة التوترات في القدس، علمًا بأنه يصعب على واشنطن، في ظل الأزمة الأوكرانية، أن تواصل توظيفها مجلس الأمن، الذي تتمتع فيه كل من روسيا والصين بحق النقض "الفيتو".
وعلى صعيد متصل، ثمة اتصالات سياسية وحراك دبلوماسي تقوم به دول (مثل الأردن والمغرب وقطر وماليزيا) لكبح جماح التصعيد الإسرائيلي في المسجد الأقصى، بالإضافة إلى دعوة بابا الفاتيكان، فرنسيس، خلال قداس عيد الفصح 17 إبريل/نيسان الجاري، إلى "ضمان تعايش الإسرائيليين والفلسطينيين وجميع سكان القدس، والدخول بحرية إلى الأماكن المقدسة في القدس، في احترام متبادل لحقوق كل منهم".
ويمكن القول إجمالًا، إن موجة العمليات الفلسطينية تضغط على الشارع العربي لنصرة قضية القدس، على نحو يزيد الهوة، الواسعة أصلًا، بين توجهات الشارع والنخب الرسمية، بما يعنيه من احتمال خلخلة "الاستقرار الهش" للنظم العربية المطبّعة مع إسرائيل.
باختصار، أطلقت العمليات الفدائية، "هبّة شعبية"، تتجلّى فيها إرادة المقاومة لدى الشباب، ما يؤكد أمرين؛ أحدهما فشل الاحتلال في "كيّ الوعي الفلسطيني"، ناهيك عن منع تنفيذ عمليات في العمق الإسرائيلي. والآخر بداية تضعضع "السردية الصهيونية"، وانتصار "السردية الفلسطينية"، وتأكيد عدالتها، على نحو يماثل ما حدث في انتفاضة الحجارة عام 1987.