عن المصالحة المستعصية وشبه المستحيلة.. وصاية عربية على الفلسطينيين

31 يوليو 2022
عزام الأحمد وصالح العاروري يوقعان اتفاق المصالحة (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -

أصبحت عملية المصالحة الفلسطينية مستعصية وحتى شبه مستحيلة في الفترة الماضية، بناءً على تطورات سلبية وضارة جداً حدثت خلال العام الأخير، بدءًا من تأجيل (إلغاء) الانتخابات إلى أجل غير مسمى، مروراً بتكريس الانقسام عبر خطوات متناقضة في رام الله وغزة، وصولاً إلى زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى فلسطين المحتلة والمنطقة الأسبوع الماضي، التي كرّست الانقسام عبر استنتاجات متباينة، رغم تشابه معطياتها الخطيرة على القضية.

أما المفارقة الكبرى التي تبعث على الغضب والأسف، فتفيد بأن عملية المصالحة الفلسطينية تناسبت عكسياً؛ خلال العقدين الماضيين؛ مع عملية التسوية والمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، بينما لم ينعكس موت الأخيرة، ولو إكلينيكياً حتى من دون إعلان رسمي؛ إيجابياً على المصالحة!

لكن؛ قبل قراءة تطورات العام الأخير السلبية، لا بد من التذكير بمحطات مفصلية في مسيرة عملية المصالحة، بإطارها أو شكلها المعهود والمتعارف عليه.

كان إعلان الدوحة 2012 آخر فرصة جدية لتطبيق وثيقة أيار  

انطلقت عملية المصالحة المعاصرة عبر وثيقة القاهرة التأسيسية مارس/ آذار 2005، هناك حوارات سبقتها في تسعينيات القرن الماضي، نصّت الوثيقة على التهدئة مع الاحتلال؛ ما أنهى عملياً الانتفاضة الثانية؛ وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وإعادة بناء منظمة التحرير على اعتبارها أعلى جسم قيادي ومرجعي للشعب الفلسطيني، وتشكيل الإطار أو اللجنة التي ستأخذ على عاتقها تلك المهمة، التي تضم أمناء الفصائل العامين وشخصيات مستقلة، لكنها لم تجتمع سوى مرة واحدة خلال عقدين تقريباً، في إشارة واضحة إلى حال العملية ومآلاتها.

تمثلت ثاني المحطات المفصلية في عملية المصالحة في اتفاق مكة 2007، وهو أهم بكثير مما يبدو عليه، بسبب وضعه أسس الشراكة بين فتح وحماس، بعد فوز الأخيرة في الانتخابات البرلمانية، لكنه انهار فعلياً مع الاقتتال المؤسف، الذي حصل بعد شهور، والذي كرّس الانقسام كحقيقة واضحة، وجعل المصالحة صعبة لكن ممكنة، أي ليست مستعصية وشبه مستحيلة كما سنرى لاحقاً.

بعد الاقتتال، حدث جمود في ما بدا وكأنه تعوّد على الانقسام، أو خوف وتوجس من الخوض في عملية المصالحة، ودفع أثمانها من قبل طرفي الانقسام، وازدادت المصالحة صعوبةً وتعقيداً، نظراً لغياب وسيط جدي ونزيه وفاعل وموثوق، في ظل القطيعة آنذاك بين حماس ومصر حسني مبارك، احتجاجاً على الاقتتال، وبسبب رفض حماس وساطة المخابرات المصرية في الدقيقة التسعين، الساعية إلى منع الحسم العسكري، واستئناف الحوار، من أجل العودة إلى اتفاق مكة.

استمر الجمود ثلاث سنوات تقريباً، ثم استانفت القاهرة وساطتها بعد حرب غزة الأولى 2009، التي أكدت ضمن معطياتها الإيجابية استحالة تجاهل طنجرة الضغط الكامنة في غزة المحاصرة، أو تجاوز حماس كلاعب مركزي في المشهد الفلسطيني، أثمرت الوساطة المصرية عن وثيقة أو ورقة معقولة وواقعية جداً في أواخر 2009، سميت وثيقة القاهرة أيضاً، التي أخذت مكان نظيرتها السابقة "2005".

تعاطت الوثيقة بجدية ومهنية ومنطقية مع تجليات وإفرازات الانقسام، ومتطلبات المصالحة الخمسة، المنظمة؛ الحكومة؛ الانتخابات؛ الأجهزة الأمنية؛ والمصالحة المجتمعية، بينما أدى تحفظ قيادة حماس في الداخل، رغم قبول قيادة الخارج التي تفاوضت عليها أصلاً، إلى تأخير التوقيع الرسمي على الوثيقة إلى مايو/ أيار 2011، بعد ثورة يناير التي خلقت ظروفاً مؤاتيةً أكثر لتنفيذها، في ظل إلقاء الكرة في الملعب الفلسطيني، وفق الأسس المتوافق عليها أصلاً في وثيقة القاهرة.

لكن وللأسف؛ أُهدرت تلك الفرصة التاريخية، عندما كانت عربة الثورات العربية الأصيلة تسير على السكة الصحيحة، بينما مثّل إعلان الدوحة، فبراير/شباط 2012، آخر فرصة جدية لتطبيق نزيه وندي لوثيقة أيار، بما يكرّس حقيقة أن الكرة عملياً في الملعب الفلسطيني، وأن عليهم أخذ مصيرهم بأيديهم، بعيداً عن أي وساطة، أو تدخلات خارجية.

ما حدث بعد ذلك كان مجرد تفاصيل، أو هوامش، إلى حين الوصول إلى المحطة الأخيرة المهمة جداً، إثر الابتعاد عن وساطة النظام الانقلابي المصري، وتنقل الحوارات الفلسطينية الثنائية والجماعية، بين بيروت والدوحة وإسطنبول، بما في ذلك لقاء الأمناء العامين في 2020، المتأخر جداً عن موعده الأصلي حسب وثيقة 2005، ومن ثم التوافق على إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وفق شروط ومحددات وروزنامة محمود عباس كاملةً، أي عبر التتابع لا التزامن، ومن دون تشكيل حكومة وحدة وطنية، تأخذ على عاتقها تهيئة الظروف المناسبة، أي جرى عملياً تأجيل الملفات الخلافية إلى ما بعد الانتخابات، التي مثّلت فرصة جدية للشروع في سيرورة طويلة تفضي إلى إنهاء الانقسام.

ثم وقعت الانتكاسة الكبرى والمفصلية أيضاً، التي أكدت حقيقة استعصاء المصالحة الفلسطينية وشبه استحالتها، مع إلغاء الانتخابات، إثر خشية فتح محمود عباس "السلطة" من الهزيمة، وتذرعها بعدم موافقة الاحتلال على إجرائها في القدس، الأمر الذي يتجاهل هبّة المدينة التاريخية والعالمية في إبريل/ نيسان 2021، التي بلغت أصداؤها شتى بقاع الأرض.

الانتكاسة تضمنت أيضاً عودة قوية للنظام المصري "فلسطينياً"، بعد الحرب الأخيرة في مايو/ أيار 2021، وفق أجندة أميركية تتماهى تماماً مع السياسة الإسرائيلية، المسماة تقليص الصراع، أو السلام الاقتصادي، أو حتى الاقتصاد مقابل الأمن، ومن دون أي أفق سياسي، ومن دون ضمان للتهدئة ولمنع الانفجار في غزة فقط.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

مقابل تنسيق مواز بين رام الله وعمّان، بحيث بات محمود عباس يتردد على الأردن أكثر بكثير مما يفعل تجاه مصر، على عكس الشهيد أبو عمار، وعلى عكس حتى عادة عباس نفسه عند تسلمه السلطة. أي بتنا أمام وصاية عربية على الفلسطينيين، شبيهة بتلك التي سبقت نكبتي مايو/ أيار 1948 ويونيو/ حزيران 1967، وانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة.

وإلى أن وصلنا إلى زيارة الرئيس بايدن إلى فلسطين والمنطقة، فعلى الرغم من التشابه في قراءة معطياتها بين فتح وحماس، والتوافق على خطورة دلالاتها وتداعياتها، لجهة تسريع وتيرة التطبيع العربي- الإسرائيلي بمعزل عن القضية الفلسطينية، لكنهما تبنتا (فتح وحماس) استنتاجات مختلفة، بل متناقضة، حيث أقرت سلطة رام الله بالأمر الواقع، كما قال حسين الشيخ صراحة لصحيفة نيويورك تايمز، وقبلت بإدارة اقتصادية واجتماعية للأوضاع، في ظل غياب الأفق السياسي وحلّ الدولتين. بينما تتوهم سلطة غزة أن المرحلة الجديدة يمكن إسقاطها عبر إعادة العلاقة مع نظام بشار الأسد الساقط، ومحوره الطائفي المأزوم.

والنتيجة أو الخلاصة النهائية، أننا بتنا، وبعد عقدين من الانقسام، أمام مصالحة مستعصية وشبه مستحيلة، وكيانين فلسطينيين مختلفين تماماً، في الضفة وغزة، مع التوافق على قاعدة الحكم الاستبدادية والأحادية، كُلٌ على طريقته، سياسياً وإعلامياً وحتى اقتصادياً، وبينما تبدو رام الله أقرب إلى الاستبداد الناعم ونموذج القاهرة وتونس زمن حسني مبارك وزين العابدين بن علي، تبدو غزة أقرب إلى نموذج سوريا الأسد وتحالفاتها السياسية، تكاد تشبه حتى الجبهة الوطنية التقدمية سيئة الصيت في دمشق.

الآن؛ يبدو المشهد كله سوريالياً، وعصياً على الفهم والاستيعاب، مع سلطتين تدعيان السيادة، رغم أنهما خاضعتان للاحتلال، بدرجات متفاوتة، في سيناريو قريب إلى السيناريو الباكستاني في أحسن الأحوال، والكوري في أسوأها. مع ذلك وكما دائماً، يبقى الأمل معلقاً على الشعب المقاوم والصامد، وذاكرته العصية على النسيان، وعلى التناقضات البنيوية في المشروع الصهيوني الاستعماري، التي تؤكد حتمية زوال الانقسام ولو بعد حين، بغض النظر عن الانقسام الراهن، وعن أداء الطبقة السياسية الفلسطينية بشكل عام.