خفّت وتيرة العنف والفوضى التي شهدتها جنوب أفريقيا، على مدى الأيام العشرة الماضية، حين تحولت الاحتجاجات الشعبية رفضاً لسجن الرئيس السابق جاكوب زوما، بعد إدانته بازدراء القضاء، إلى أعمال نهب وسرقة طاولت مقاطعتين على الأقل، هما كوازولو ناتال وغوتينغ، وراح ضحيتها أكثر من مائتي قتيل. لكن انحسار أعمال السرقة والنهب، والتي طاولت الممتلكات الخاصة وأعمالاً كثيرة، أبرزها مراكز التسوق، سلّطت الضوء على مدى حدة الفوارق الاجتماعية والفقر وانعدام العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات في هذا البلد، في حقبة ما بعد إنهاء الفصل العنصري. وأكدت السلطات في جنوب أفريقيا، أول من أمس الجمعة، انحسار الاضطرابات، فيما تحتاج معالجة تداعياتها والتعويض للمتضررين، إلى مليارات من العملة المحلية (راند).
تستأنف اليوم محاكمة زوما في قضية رشاوى تعود لعهده
وبعد قرابة 3 عقود من نهاية حكم الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، تفجر الغضب لدى فقراء هذا البلد، من احتكار أقلية نافذة للثروة، وغياب استراتيجية اقتصادية طوال عقود تمنع انزلاق غالبية سكان هذا البلد إلى ما دون خط الفقر، والذي جعل أيضاً من جنوب أفريقيا واحدة من أخطر دول العالم. على الرغم من ذلك، تتمسك السلطات بنظرية المؤامرة، ملقية عليها وعلى المؤيدين لزوما كل اللوم في الأحداث الأخيرة، التي تعد الأخطر منذ انتهاء حقبة الفصل العنصري. وأكد الرئيس سيريل رامافوسا، أول من أمس السبت، أن الاضطرابات تنحسر، وأن الهدوء عاد إلى أغلب المناطق التي شهدت أعمال العنف والنهب، لكن تكلفة الدمار تقدر بمليارات من العملة المحلية (كل مليار راند يساوي حوالي 69 مليون دولار).
وفي خطاب وجهه للأمة، قال رامافوسا إن الشرطة اعتقلت ما يزيد عن 2500 ممن تشتبه في ضلوعهم بالتحريض على العنف، وإن الأولوية ستعطى لتلك القضايا للنظر فيها. وبحسب وجهة نظره ونظر السلطات، فإن "انتشار قواتنا الأمنية والعمل مع المجتمعات والشركاء في أنحاء البلاد سينجح في إعادة النظام ومنع المزيد من أعمال العنف". وأشار إلى أنه يرى "أن من استغلوا سياق المظالم السياسية ومن يقفون وراء تلك الأحداث، سعوا لاستفزاز نشوب تمرد شعبي". وحول ذلك، قال: "حاولوا استغلال الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيش فيها الكثير من أبناء جنوب أفريقيا"، حيث يعيش نصف السكان تقريباً تحت خط الفقر، وحيث وصلت نسبة البطالة لمعدل قياسي بلغ 32 في المائة في الربع الأول من 2021 لأسباب منها تبعات جائحة كورونا. ونفى رامافوسا وجود نقص في الغذاء والإمدادات نتيجة أعمال النهب، كما حث الناس على عدم اللجوء للشراء وتخزين الغذاء بدافع الفزع.
وعلى الرغم من نشر السلطات لحوالي 25 ألفاً من القوات المسلحة لحماية كل المنشآت الرئيسية والمواقع التجارية المهمة لعمل الاقتصاد، استبعد الرئيس مجدداً إمكانية اللجوء إلى فرض حالة الطوارئ. وأوضح أن عدد القتلى وصل إلى 180 في كوازولو ناتال، مسقط رأس زوما، فيما زاد العدد إلى 32 في غوتينغ التي تقع فيها مدينة جوهانسبرغ، ليصل إجمالي عدد القتلى منذ بداية الأحداث في 9 يوليو/تموز الحالي، إلى 212 حتى الآن. وقتل هؤلاء إما بنيران الأمن أو على يد أفراد العصابات، أو خلال التدافع الذي رافق عمليات اقتحام المراكز التجارية لسرقتها، والتي حصلت في أي مركز بالآلاف، أو حتى خلال محاولات تفجير آليات سحب العملات النقدية التابعة للمصارف.
لكن الأضرار جراء الأحداث الأخيرة، لا تقتصر على ذلك. وتواجه كوازولو ناتال، اليوم، شحاً في الغذاء والوقود، وهو وضع يحذر مراقبون من إمكانية تحوله إلى أزمة إنسانية. وارتفع سعر رغيف الخبز مرتين، في المقاطعة، منذ أسبوع، بحسب تقرير لـ"واشنطن بوست"، سلّط الضوء على المعاناة التي يعيشها السكان بعد كل ما حصل. ورأى كثيرون منهم، أن الأحداث كانت منتظرة، واصفين اللحظة بـ"التاريخية". وقالت زانديلي دلاميني (18 عاماً)، إنه "انهيار المجتمع الذي تنبأ به كثيرون لوقت طويل، حيث تضخم انعدام المساواة الذي غذّاه الفساد والإهمال". ورأت الصحيفة أن المتورطين في أعمال النهب والضحايا على حد سواء، هم أنفسهم "الفقراء الذين لم يستفيدوا سوى قليلاً من انتهاء حكم الأقلية البيضاء منذ 27 عاماً، وكثير منهم من إثنية الزولو، التي يتحدر منها جاكوب زوما".
سقط 212 قتيلاً بأحداث العنف، 180 منهم في كوازولو ناتال
لكن ربط الاضطرابات بسجن زوما، يبقى سطحياً. وبحسب الرئيس التنفيذي لمؤسسة نيلسون مانديلا، سيلو هاتانغ، كما تحدث لـ"واشنطن بوست"، فإن جنوب أفريقيا "بلد يعاني من الكثير حتى الآن، وكل ما كان يحتاجه هو الشرارة". وأضاف أن زوما "تحول إلى شرارة من أسوأ الأنواع، لأن الضغط أصبح ثقيلاً، وكثيرون فقدوا وظائفهم (بسبب الجائحة)". وأوضح أن البلاد عاشت منذ 1994، سلسلة إخفاقات، في إصلاح أضرار الفصل العنصري وتأمين التعويضات، وإعادة توزيع الثروات، ومحاكمة الفاسدين".
وإذا كان معدل البطالة في هذا البلد، قد بلغ أخيراً 32 في المائة، بحسب الإحصاءات الحكومية، فإنه وصل إلى 74 في المائة لدى الشباب. واليوم، أدت أعمال الشغب إلى إغلاق العديد من الأشغال التي كانت توظف وتطعم آلاف الأشخاص. وعلى سبيل المثال، في مدينة ألكسندرا وحدها، وهي إحدى أقدم البلدات في ضواحي جوهانسبوغ، لم ينجُ سوى متجر واحد من التكسير والنهب، فيما روت شاهدة لـ"واشنطن بوست" أن حتى مدارس الحضانة قد نهبت.
وعلى وقع ذلك، تستأنف اليوم الإثنين، محاكمة زوما، المتورط في العديد من الفضائح والاتهامات بالفساد، في قضية رشاوى تعود إلى أكثر من 20 عاماً، بعد دخوله السجن في 7 يوليو الحالي، بتهمة ازدراء القضاء، وهي تهمة أُدين بها في نهاية يونيو/حزيران الماضي، لرفضه مراراً الإدلاء بشهادته أمام لجنة تحقق في فساد الدولة في عهده (2009-2018). ويحاكم زوما اليوم، افتراضيا لمواجهة 16 تهمة بالاحتيال والفساد والابتزاز تتعلق بشراء معدات عسكرية من 5 شركات أسلحة أوروبية في 1999، عندما كان نائباً للرئيس. ولا يزال زوما يحظى بنفوذ كبير، ليس فقط في مسقط رأسه، ولكن أيضاً داخل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم. ورأى المحلل رالف ماثيكغا، في حديث لوكالة "فرانس برس"، أن القضاة لن يخضعوا "لضغوط سياسية"، وأن "على الآلة القضائية مواجهة العاصفة".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)