تطوي الأزمة السياسية في العراق، اليوم الاثنين، عامها الأول، إذ تفجرت عملياً مع إغلاق صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية، مساء العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2021، عبر تشكيل القوى الحليفة لإيران، والتي ألّفت لاحقاً تحالف "الإطار التنسيقي"، جبهة واسعة للطعن في إجراءات عدّ وفرز الأصوات المتبعة، ثم التصعيد نحو المطالبة بإعادتها.
ووصل ذلك إلى تنظيم هذه القوى، تظاهرات ضاغطة سجّلت أول تدخّل للقوى المسلحة ضمن "الحشد الشعبي" في الأزمة. واتخذت الأزمة السياسية في العراق منذ انتخابات العام الماضي، مراحل تصعيدية عدة، كانت أبرزها المواجهات المسلحة في بغداد والبصرة بين "التيار الصدري" والفصائل المسلحة الداعمة لقوى "الإطار التنسيقي"، في يوليو/تموز الماضي، والتي خلّفت عشرات القتلى والجرحى بين الطرفين.
وكانت الانتخابات العراقية، بنسختها الخامسة منذ الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، أجريت للمرة الأولى، وفقاً لقانون جديد جاء على الرغم من الاعتراض عليه من قبل كثير من الأحزاب الرئيسية في البلاد، كونه اعتمد على نظام الدوائر الانتخابية المتعددة، وبواقع 83 دائرة موزعة على عموم مدن العراق.
أكدت انتخابات 2021 إمكانية إحداث القوى المدنية خرقاً
وتنافس في هذه الدوائر، أكثر من 3500 مرشح يمثلون نحو 200 حزب وكيان سياسي، غالبيتها من الأحزاب والقوى القديمة التي انشطرت على نفسها خلال العقدين الماضيين. كما تمّ إلغاء قانون "سانت ليغو" في توزيع أصوات الناخبين، والذي كان يصب في صالح القوى الكبيرة على حساب المرشحين المستقلين والكيانات الصغيرة، وهو ما كان أحد أسباب تغير توزيع مقاعد البرلمان بشكل كبير.
مراحل الأزمة قبل انسحاب التيار وبعده
وتصدّر "التيار الصدري" بزعامة مقتدى الصدر، نتائج انتخابات أكتوبر 2021، بواقع 73 مقعداً، وبفارق كبير عن أقرب منافسيه من القوى السياسية العربية الشيعية، وهو ائتلاف "دولة القانون" بزعامة نوري المالكي، والذي حصل على 34 مقعداً. وحلّ ثانياً حزب "تقدم"، الذي يتزعمه رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي، بواقع 37 مقعداً، وحل في المرتبة الرابعة، الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في إقليم كردستان، بزعامة مسعود البارزاني (32 مقعداً)، ومثّل نحو ثلثي مقاعد الإقليم المخصصة له في البرلمان.
وحل تحالف "الفتح"، الذي يمثل الجناح السياسي لـ"الحشد الشعبي" في المراتب الأخيرة، بواقع 17 مقعداً، فيما برزت القوى المدنية والنواب المستقلون في هذا البرلمان كورقة غير متوقعة، إذ حصلوا على ما مجموعه 39 نائباً، بينهم 10 مقاعد لحركة "امتداد" المدنية، ومثلها لحركة "جيل جديد"، الكردية المدنية في إقليم كردستان.
وعلى الرغم من أن توزيع المقاعد اختلف بشكل كبير بعد قرار "التيار الصدري" الانسحاب من البرلمان منتصف حزيران/يونيو الماضي، وهو ما أدى إلى ذهاب مقاعده لخصمه الرئيسي في الأزمة الحالية، وهو "الإطار التنسيقي"، وبواقع أكثر من 60 مقعداً من أصل 73 مقعداً، إلا أن الانتخابات بنتائجها النهائية أكدت إمكانية إحداث القوى المدنية والعلمانية العراقية تغييراً في خريطة القوى من خلال الانتخابات التي تنظمها البلاد كل 4 سنوات.
وطوال عام كامل، انتقلت الأزمة السياسية إلى أطوار عدة، بدءاً من التقاضي أمام المحكمة الاتحادية للطعن في الانتخابات وشرعيتها، مروراً بتنظيم قوى "الإطار التنسيقي" تظاهرات واعتصاماً دام شهرين أمام المنطقة الخضراء في بغداد، وبدء وساطات تقريب وجهات النظر الداخلية والخارجية التي تصدّرها كل من "فيلق القدس" الإيراني و"حزب الله" اللبناني، وصولاً إلى وساطات للتهدئة ووقف تحشيد السلاح والأصوات في الشارع.
وشهدت الأزمة تشكل تحالفات سياسية عدة، أبرزها التحالف العابر للطوائف "إنقاذ وطن"، وهو الأول من نوعه في العراق، بين تحالف "السيادة"، الممثل السياسي عن العرب السنة في العراق بزعامة خميس الخنجر، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، و"التيار الصدري"، إلا أن انسحاب الأخير من البرلمان أدى إلى إضعاف التحالف.
مرّت الأزمة بمراحل عدة، أخطرها التحشيد والتحشيد المضاد
وتسبب تفسير دستوري للمحكمة الاتحادية العليا، وُصف بأنه "سياسي"، في تعميق الأزمة. حيث أجابت على طلب توضيح لقوى "الإطار التنسيقي"، بأن جلسة انتخاب رئيس الجمهورية يجب أن تكون بأغلبية ثلثي البرلمان (212 من أصل 329)، وليس بأغلبية ثلثي الحضور. وأدى ذلك في النهاية إلى فشل تحالف "إنقاذ وطن" الذي يتزعمه "التيار الصدري" في تحقيق العدد المطلوب لعقد جلسة البرلمان لانتخاب مرشح الحزب الديمقراطي ريبر خالد رئيساً للعراق، والذي كان يفترض أن يكلف بدوره سفير العراق الحالي في لندن، وابن عم مقتدى الصدر، جعفر الصدر، بتشكيل الحكومة.
وبعد جولات عدة متعثرة لعقد البرلمان، انقسمت فيه القوى المدنية الفائزة بالبرلمان بين المشاركة أو مقاطعة الجلسات، أصدر الصدر بياناً بإعلان استقالة نوابه من البرلمان منتصف يونيو الماضي.
التحشيد والتحشيد المضاد
ودخلت الأزمة العراقية بعد هذا التاريخ منحى آخر من التحشيد والتحشيد المضاد في الشارع، وشهدت حرباً باردة واسعة بين "التيار الصدري" وقوى "الإطار التنسيقي"، التي حشدت بدورها الفصائل المسلحة للحصول على مواقف مؤيدة لها.
وبلغ التصعيد ذروته في يوليو/تموز الماضي باقتحام أنصار "التيار الصدري" للمنطقة الخضراء وسيطرتهم على مبنى البرلمان لأكثر من شهر، وصولاً إلى مناوشات مسلحة بين "سرايا السلام"، الجناح المسلح لـ"التيار الصدري"، ومليشيات أخرى حليفة لإيران، وتمتلك أجنحة سياسية لها داخل "الإطار التنسيقي"، أبرزها حركة "عصائب أهل الحق" بزعامة قيس الخزعلي.
وانتهت الاشتباكات التي استمرت أكثر من 32 ساعة بسقوط نحو 30 قتيلاً وقرابة 200 جريح من الطرفين، لتنتقل بعدها بساعات إلى البصرة، أقصى جنوبي العراق، مخلفة أيضاً قتلى وجرحى.
وساهم إحياء مراسم ذكرى أربعينية استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب في مدينة كربلاء، في سبتمبر/أيلول الماضي، حيث قصد جنوبي العراق ملايين الزوار، في إحداث هدنة غير معلنة بين الطرفين لا تزال قائمة حتى الآن، لكن وسط ترقب لصمت مقتدى الصدر حيال إعادة استئناف جلسات البرلمان العراقي مجدداً يوم السبت الماضي. ومع استئناف جلسات البرلمان، بدأ حراك جديد من قبل قوى "الإطار التنسيقي"، لحسم استحقاق رئاسة الجمهورية ثم رئاسة الوزراء، حيث يسعى لتكليف وزير العمل السابق والعضو السابق في حزب الدعوة الإسلامية، محمد شياع السوداني، بتشكيل الحكومة.
الصدر كان يتوقع موقفاً أفضل من القوى التي تحالف معها
وتُجمع قوى سياسية محايدة على خطأ خطوة الصدر تقديم استقالة نوابه والانسحاب من العملية السياسية، على اعتبار أنه منح فوزه لخصومه. لكنّ مقرباً منه، قال لـ"العربي الجديد"، إن الصدر كان يتوقع موقفاً أفضل من قبل القوى السياسية السنية والكردية المتحالفة معه، في التضامن والإعلان عن موقف مماثل يؤدي إلى اضطرار الجميع للخضوع لشروطه أو الذهاب لانتخابات مبكرة.
إلا أن إجراء أي انتخابات جديدة يجب أن يكون وفقاً للقانون العراقي من خلال حكومة كاملة الصلاحيات، وهو ما لا يتوفر في حكومة مصطفى الكاظمي (تصريف أعمال)، ما يعني وجوب تشكيل حكومة جديدة، تهيئ لانتخابات جديدة، إلى جانب بروز مطلب إعادة النظر في قانون الانتخابات، والذي تصر عليه حالياً القوى الحليفة لإيران.
في النجف، حيث معقل الصدريين جنوبي العراق، قال قيادي بارز في التيار الصدري، لـ"العربي الجديد"، إن الهيئة السياسية للتيار تنتظر توجيهات من مقتدى الصدر بشأن الأزمة. ولفت القيادي في "التيار الصدري"، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، إلى أن العام الذي مضى من عمر الأزمة السياسية في العراق، "شهد ضغوطاً غير مسبوقة" على زعيم "التيار" مقتدى الصدر، "من أعلى المستويات في إيران والعراق". وبرأي المصدر، فإنه "يمكن اعتبار مواجهة الضغوط، ورفض الدخول مع الإطار التنسيقي في تحالف شيعي واحد كما يريد الإيرانيون، نقطة تحول مهمة في العمل السياسي العراقي بعد عام 2003"، بحسب قوله.
وأضاف المصدر في "التيار الصدري" أن "الانسحاب من البرلمان أفضل من الدخول مع المالكي والخزعلي في تحالف جديد مكرر منذ نحو 20 عاماً، وخسارة المقاعد والوزارات أفضل من خسارة الشارع الشيعي بالنسبة للصدر"، على حد قوله. واعتبر أن "السبب الرئيسي للأزمة، كان قرارات المحكمة الاتحادية العليا، التي صبّت في صالح الإطار التنسيقي، والتي أوقفت قراراتها تشكيل حكومة الأغلبية، ودفعت نحو حكومة التوافق والمحاصصة".
وأكد المصدر أن "الأزمة السياسية ستطول ولا بوادر للحل، ونحن في التيار الصدري ما زلنا مصرّين على حل البرلمان والذهاب لانتخابات جديدة". وشدد على أن "أي حكومة ستتشكل بطريقة ليّ الأذرع والغالب والمغلوب لن تستمر أكثر من سنة واحدة في أفضل الأحوال، ونملك الشارع الذي لا تمتلكه القوى الأخرى".
في المقابل، قال القيادي في "الإطار التنسيقي"، عائد الهلالي، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك من لا يزال يدفع نحو إشعال الاقتتال الأهلي ما بين القوى الشيعية، وهم أطراف خارجية". وبيّن الهلالي أن "مرور عام على الانتخابات البرلمانية والعراق بلا حكومة، يعطي رسائل غير مريحة، خصوصاً مع استمرار الخلاف والصراع السياسي ومع استمرار التهديدات باللجوء إلى الشارع العراقي من قبل بعض الأطراف لمنع تشكيل أي حكومة جديدة".
وشدّد القيادي في "الإطار التنسيقي" على أن "قوى الإطار تعمل على حسم ملف تشكيل الحكومة خلال الأيام المقبلة، وهذا الخيار لا تراجع عنه، ومساعي فتح الحوار مع الصدريين مستمرة، لكنّ رفضهم سيدفع الجميع للتوجه نحو الحكومة حتى وإن قاطعها التيار الصدري، فلا يمكن استمرار الأزمة أطول".
من جهته، رأى النائب السابق رحيم الدراجي، أن دخول الأزمة عامها الثاني "دليل فشل الطبقة السياسية في العراق"، مشدداً "على ضرورة إجراء تغييرات على العملية السياسية". وبيّن الدراجي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الأزمة سببها صراع على الزعامة والمصالح، وليس البرامج، وهذا الصراع لا يزال مستمراً وبقوة، وينذر بمخاطر كبيرة".
وحذّر الدراجي من أن "بقاء الوضع كما هو عليه وبعد مرور عام كامل، ربما سيدفع إلى تدخّل دولي بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا الأمر قد تكون له تداعيات، ولهذا يجب أن يكون حل الأزمة شأنا عراقيا ووفق الأطر الدستورية، لا وفق الأهواء والمصالح السياسية والشخصية لبعض الزعماء".
أزمة اختيار رئيس الجمهورية
على الجانب الآخر من أزمة العراق السياسية، يبرز الانقسام الكردي على حسم مرشحهم لرئاسة الجمهورية، والذي جرى العرف السياسي في البلاد (بعد الغزو) أن يكون المنصب من حصّة القوى الكردية.
ويصر الحزب الديمقراطي الكردستاني على أن يكون المنصب من حصته، على ضوء النتائج الانتخابية في الإقليم، والتي حصد فيها المرتبة الأولى، بينما يصر الاتحاد الوطني في السليمانية على تجديد ولاية الرئيس الحالي برهم صالح.
وتطرح قوى "الإطار التنسيقي" فكرة دخول القوى الكردية بمرشحين اثنين، وتكون الغلبة بالأصوات البرلمانية لا التوافق، وهو ما يرفضه مسعود البارزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، على اعتبار أن "الإطار التنسيقي" سيصوت لصالح مرشح حليفه التقليدي، الاتحاد الوطني الكردستاني.
لكنّ مصادر سياسية في أربيل أكدت لـ"العربي الجديد"، احتمالية تحقيق توافق قريب بين الحزبين، بعد دخولهما في مفاوضات أشبه ما تكون بمقايضة على مناصب أخرى داخل الإقليم وخارجه.
وقال عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني ريبين سلام، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك تفاهماً وصل إلى مراحل متقدمة مع الاتحاد الوطني الكردستاني، لكن تبقى هذه القضية ليست هي المعرقل الرئيسي لتشكيل الحكومة، بل الخلاف ما بين التيار الصدري والإطار التنسيقي والذي يؤخر إتمام هذه العملية السياسية طوال الأشهر الماضية".
من جهته، اعتبر الخبير في الشأن السياسي العراقي إحسان الشمري، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الأزمة الحالية "فشل للعملية السياسية، خصوصاً أنها الأطول منذ عام 2003، وهذا بسبب صراعات الزعامة والمصالح وعدم الإيمان بالدستور العراقي". وأضاف الشمري أن "إحاطة المبعوثة الأممية جنين بلاسخارت أمام مجلس الأمن الدولي، أخيراً، ربما تكون لها تداعيات خارجية على الشأن العراقي". وقال: "لا أعتقد أنّ المجتمع الدولي سيبقى متفرجاً على ما يجري في العراق، خصوصاً بعد استخدام العنف في الصراع السياسي".
وبيّن الخبير السياسي أن "الأزمة السياسية أثبتت عدم اهتمام الطبقة السياسية بمصالح العراق والعراقيين، ولهذا يجب أن يحصل تغيير يطاول هذه الطبقة، لضمان عدم تكرار أزمات من هذا النوع، بعد كل انتخابات برلمانية تشهدها البلاد، فلا ضمان على عدم تكرار هذه الأزمة بعد الانتخابات المقبلة، سواء أكانت مبكرة أو عادية".