مع أن أوروبا راقبت الحشود العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا منذ نهاية 2021، وتوافد إلى موسكو بعض ساستها، أملاً في "التوصل إلى حل دبلوماسي"، إلا أن انطلاق غزو أوكرانيا صباح 24 فبراير/شباط 2022 حمل للقارة خبراً مشؤوماً احتل عناوين الأخبار والتصريحات: "عودة الحرب إلى أوروبا".
ومنذ سقوط جدار برلين، في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989، وتراجع "الستار الحديدي"، مع تفكك الاتحاد السوفييتي رسمياً نهاية 1991 ومعه "الكتلة الشرقية"، لم تشهد الثقة في العلاقة الغربية الروسية تراجعاً كالذي حصل بعد غزو أوكرانيا قبل عامين.
فـ"عودة الحرب" إلى القارة العجوز، ودخولها ما يشبه أجواء "حرب باردة"، والاعتماد على تحالفها مع الأميركي للحفاظ على نظامها المتشكل منذ نحو ثمانية عقود، وتسابقها نحو التسلح، أعادت تذكيرها بتعقد العلاقة مع موسكو.
بالطبع أجواء الحرب ليست جديدة، وهي في أفق القارة منذ ضمّ موسكو في 2014 شبه جزيرة القرم. لكن عام 2022 ينظر إليه كنقطة تحول في مواجهة الأوروبيين للحقائق الجديدة، مهرولين للاستعداد لدفع أثمان "درء" مخاطر انتشار شرر الحرب الأوكرانية نحوهم، خصوصاً مع تزايد الاتجاه نحو العسكرة الأوروبية وتوسيع رقعة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بكل ما يحمله ذلك من إغضاب لموسكو، التي تزيد من إصرارها على عدم السماح للغرب بهزمها في أوكرانيا.
تعبيد مشهد عسكرة أوروبا
لم يكن سهلاً تعبيد مشهد العسكرة الأوروبي، إذ تطلب، ولا يزال، الكثير من القرارات والإرادة السياسية. وجاء انتقال دعم ألمانيا لأوكرانيا بخوذ عسكرية، وعرض أميركا وبريطانيا إنقاذ القيادة الأوكرانية بنقلها خارج كييف، إلى دعمها بمئات مليارات الدولارات وبالأسلحة الثقيلة، بما فيها طائرات "إف 16"، على خلفية قراءة الحرب الأوكرانية كحالة "دفاع عن أوروبا"، على الأقل لدى الكبيرة (ألمانيا وفرنسا وبولندا)، وتلك الصغيرة الخائفة من الخطوة التالية للكرملين، مبدية استعداداً غير مسبوق لتحمل تكلفة الحرب.
أجبر غزو أوكرانيا القارة الأوروبية على بدء نقاش جدي حيال مستقبل أمنها ودفاعها الذاتي
وعلى خلفية تزايد التوتر مع روسيا منذ 2014، واتهامات للكرملين بانتهاج سياسات "عدوانية" في بحر البلطيق، وفي أجواء أوروبية أخرى، حصل الانتقال من نهج التعويل على "الشراكة التجارية" مع موسكو، كما فعلت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا هولاند، إلى نهج يتحدى سياسات الكرملين.
غزو أوكرانيا غيّر تردد برلين وباريس
جاء غزو أوكرانيا ليغير من تردد برلين وباريس نحو تضافر جهود فرض عقوبات قاسية على موسكو. فالقارة العجوز لم تكن بعد 2014 تنتهج سياسة متشددة مع الكرملين، خصوصاً أن أوضاعها الداخلية لم تكن مثالية في ظل غياب الإجماع عليها، وكذا تأثير تبني البريطانيين الطلاق مع الاتحاد الأوروبي في استفتاء 2016.
بل حتى مع اتهام الأوروبيين للكرملين بتنفيذ عمليات اغتيال، أو محاولات اغتيال، بحق منشقين ومعارضين روس على أراضيهم، لم يستطيعوا تبني مثلاً مقاطعة مونديال روسيا في 2018، حيث بقي سائداً لثلاثة عقود مفهوم التعاطي الألماني الاقتصادي-التجاري، بما في ذلك شراكة الطاقة والغاز بأسعار مغرية عبر "نوردستريم 1و2"، وهو ما فتح أيضاً بوابات التكنولوجيا الغربية أمام روسيا.
ورغم السياسات الأوروبية غير المتشددة بعد 2014، لم تتغير سردية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أن الغرب "نكث بوعوده" بألا يتوسع حلف شمال الأطلسي شرقاً، واعتباره دائماً تفكك الاتحاد السوفييتي المأساة الأكبر. فطيلة عقدين من "التحدي الروسي"، أو "معضلة العلاقة بروسيا"، غاب عن الأوروبيين تأسيس سياسة واضحة.
وأتاح ذلك لبوتين نسج علاقات أوروبية ثنائية، ومع بعض الأجنحة السياسية الاحتجاجية، واليمين القومي المحافظ، وساسة سابقين في دولهم، مثل الألماني المثير للجدل غيرهارد شرودر، وحاليين مثل الإيطالي ماتيو سالفيني والفرنسية مارين لوبان، والمجري فيكتور أوربان، وغيرهم، بهدف التأثير على السياسات الأوروبية.
بل في قراءات بعض الأوروبيين، فإن غياب التفاهم التام بين حليفي ضفتي الأطلسي، مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 2017، وبتصريحاته المعروفة عن "الناتو" والدور الأميركي في أوروبا، صب في مصلحة الكرملين. فواجهت أوروبا مشكلة حقيقية في الاتفاق على قضايا الأمن والعقوبات والتسلح وتوسع الاتحاد الأوروبي، ثم جدل أوكرانيا وضرورة دعمها ودمجها في المنظومة الغربية.
وجاء غزو أوكرانيا قبل عامين ليجبر القارة الأوروبية على بدء نقاش جدي حيال مستقبل أمنها ودفاعها الذاتي. المتحمسون للانخراط غير المباشر في الحرب يرون أن "دعم صمود أوكرانيا يُجنب أوروبا الحرب"، بينما يراهن معسكر متردد على الخوف من آثار إرهاق الحرب لخزائن القارة ومواطنيها، وعلى مخاوف توسع الحرب إلى دول في "الأطلسي".
قبل الغزو الروسي لأوكرانيا واجهت القاطرة الأوروبية في برلين وباريس سهام الانتقادات عن "التراخي" مع موسكو. فالمستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعتقدا في البداية أنه يمكن التباحث مع بوتين لتجنب العمل العسكري في أوكرانيا. بل وأبدى بعض السياسيين والعسكريين الأوروبيين رغبة في تنازل أوكراني عن بعض الأراضي لروسيا، وتقديم تعهدات لموسكو بألا تصبح عضواً في "الأطلسي".
فجاء الغزو الروسي فجر 24 فبراير 2022، ليضع حداً لـ"الحل الدبلوماسي"، وإن كان اليوم يدور الحديث عن "تفاوض على السلام"، بعد أن فرض الغربيون ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ومنحوها أخيراً ضمانات أمنية بمشاركة فرنسية-ألمانية. بل وحتى مراهنة موسكو على أن أوروبا لن تذهب بعيداً في العقوبات، لأسباب تتعلق بإمدادات الطاقة الروسية، التي اعتمدت عليها أوروبا، هي الأخرى لم تصمد.
إعلان فرساي... أوروبا بعد غزو أوكرانيا
واعتُبِر إعلان فرساي في مارس/آذار 2022 نقطة التحول الكبيرة، خصوصاً في توجه قادة الدول الأوروبية الـ27 نحو التخلص التدريجي من اعتمادهم على الوقود الأحفوري الروسي، وضمان بقاء الدولة الأوكرانية مالياً، رغم تحفظات بعض الدول.
ألبرت هوتاباللا بيترسن: القارة الأوروبية لم تعد تأخذ بالحسبان سردية بوتين حيال غدر الغرب بتوسع "الأطلسي"
ومع أن موسكو حاولت لعب ورقة الطاقة بوجه الدول "غير الصديقة" في أوروبا إلا أن القارة كانت ماضية في تبني المقاطعة ومواصلة فرض العقوبات على روسيا. إذاً، انتقلت القارة من تردد في تسليح أوكرانيا إلى فتح مخازن أسلحتها. وأظهرت الخزائن الأوروبية سخاء غير مسبوق لتعزيز العسكرة، فدارت عجلة شراء وإنتاج الأسلحة، وانتشرت "الخطب النارية" عن "اقتصاد الحرب"، وسط قناعة عند ساسة أوروبيين بأن انتصار بوتين يعني استهداف دول أوروبية أخرى.
واعتبر ماكرون، في قمة فرساي، أن ما جرى (الحرب) "هو خيار الرئيس بوتين بإعادة الحرب إلى أوروبا، وهذه نقطة تحول لمجتمعنا وشعبنا ومشروعنا الأوروبي". وأطلقت رئيسة حكومة الدنمارك ميتا فريدركسن تعبير "أوروبا المتغيرة، أوروبا ما قبل وما بعد 24 فبراير" 2022.
ألمانيا والسويد وفنلندا... نماذج تغير أوروبا
ويقدم تطور الخطاب والسياسة الألمانية نموذجاً من التغير الكبير نسبياً في أوروبا. ففي خطابه أمام برلمان بلده (بوندستاغ)، بعد أيام قليلة من اندلاع الحرب، قدم شولتز ما يشبه إعلاناً عن تخلي بلاده عن حذر العسكرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، محدداً صرف نحو 100 مليار يورو لتحديث جيش بلاده. وستنفق لبقية العام 2024 ما يقرب من 72 مليار يورو، مع توقعات بارتفاع المبالغ المرصودة عموماً.
وجرى تخصيص نحو 200 مليار يورو في سياق التحول الأخضر وبدائل الطاقة الروسية. وخلال 24 شهراً تطورت مساهمات برلين في المجهود الحربي الأوكراني إلى الدفع بأسلحة حديثة وثقيلة، بما في ذلك دبابات "ليوبارد"، حتى ارتفعت أخيراً التحذيرات من أن ألمانيا أصبحت تعاني نقصاً في مخزوناتها العسكرية.
وعلى هامش مؤتمر ميونخ للأمن (16-18 فبراير الحالي)، ذكر وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس أن بلاده تحتاج ليس لـ100 مليار بل لتخصيص 300 مليار يورو "لجعل وزارة الدفاع قادرة على الحرب"، وفقاً لصحيفة "سوددويشته زايتونغ". وأشار إلى أن على بلاده "الاستعداد للحرب"، وهو أمر ما كان ليُقال في زمن ميركل، أو بدايات ولاية شولتز.
يؤكد الباحث والكاتب في مجال "الحرب والسلام" في كوبنهاغن، ألبرت هوتاباللا بيترسن، لـ"العربي الجديد"، أن أهم متغيرات القارة الأوروبية خلال سنتي الحرب "أنها لم تعد تأخذ بالحسبان سردية بوتين حيال غدر الغرب بتوسع حلف شمال الأطلسي بعد 1992"، معتبراً أن "انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف ما كان ممكناً لولا الحرب في أوكرانيا".
ويضيف بيترسن: "من الواضح أن ذلك ينسف أيضاً ما كان يُطالب به بوتين، بجعل علاقة كييف مع الغرب كعلاقة هلسنكي واستوكهولم، فلم يعودا نموذجين صالحين بعد الخروج من نهج الحياد".
وما يُلاحظه هذا الباحث، وآخرون كثر في شمال أوروبا، أن "الأطلسي" بدل انحساره "بات على تخوم روسيا"، بحدود طويلة مع فنلندا (أكثر من 1340 كيلومتراً)، ما يعزز عسكرة البلطيق، يضاف إليه انتشار أميركي وغربي في الدائرة القطبية الشمالية.
حماسة أوروبية نحو العسكرة
بالطبع هذه التطورات لم ترق لموسكو، التي راهن قبلها الكرملين على "تعقل" ساسة أوروبا، وهي تراقب حماسة أوروبية نحو العسكرة وتبني اقتصاد الحرب. وفي المقابل ثمة أوروبيون يحذرون من "إرهاق الحرب"، وإمكانية توسع معارضي استمرار دعم أوكرانيا، ومخاطر الانزلاق نحو "حالة حرب مباشرة بين أوروبا وروسيا"، كما يشير بيترسن، الذي يؤمن بأن تاريخ حروب القارة يحمل مثل تلك المخاطر "التي يمكن أن تندلع برغم عدم رغبة الجميع بالحرب".
ويبدو أن التململ الذي بدأ يظهر في أكثر من بلد أوروبي، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا، وغيرهما من الدول التي ينتشر فيها اليمين القومي المتشدد، مستغلاً أزمات الفلاحين والطاقة وارتفاع معدلات التضخم والأسعار، ينظر إليه البعض كحالة سلبية تؤثر على قرارات القارة مستقبلاً.
فاليمين والشعبويون يراهنون على تحقيق نتائج جيدة في انتخابات البرلمان الأوروبي بعد أقل من 4 أشهر (9 يونيو/حزيران المقبل). وتلك المراهنة يمكن أن تولد ديناميكيات أخرى في مصلحة روسيا، التي حافظ فيها الكرملين على علاقات طيبة بأقطاب المعسكر في فرنسا وإيطاليا والمجر وألمانيا وإسبانيا وهولندا، وبولندا إلى حد ما بسبب أزمة تفضيل قطاع أوكرانيا الزراعي على المحلي، وغيرها من الدول.
بالطبع، تتعالى أصوات أوروبية محذرة من سعي موسكو إلى "شق الصف الأوروبي"، لخلق انقسامات بشأن الحرب، وطنياً وفي العلاقات البينية بين الأوروبيين. هذا إلى جانب الخوف من انعكاسات عودة ترامب إلى البيت الأبيض، ليس فقط على مستوى تحالف ضفتي الأطلسي، واضطرار أوروبا للبحث عن مزيد من التمويل لسياسات "استقلال دفاعي"، بل على مستوى الالتزام الأميركي في استمرار دعم أوكرانيا، التي يراها الأوروبيون بمثابة "حائط صد" عنهم بوجه روسيا، التي زادت بالمناسبة من تصنيعها العسكري خلال الحرب، وفقاً لما يرى بيترسن "في الوقت الذي يشكو فيه الأوروبيون من تراجع مخزوناتهم العسكرية".
في المحصلة، يمكن القول إنه بعد عامين من غزو أوكرانيا تظل رمال التغيير الأوروبية متحركة، بعضها ليس في مصلحة روسيا، وأخرى ليست في مصلحة القارة العجوز، حيث المسارعة نحو سباق تسلح يؤثر على قطاعات أخرى في القارة.
يأتي هذا من دون وجود ضمانة في بقاء وحدة الموقف الأوروبي، الذي وصل بعضه إلى سقف "روسيا ما بعد بوتين" لقطع الجسور تماماً مع الكرملين الحالي، وهو ما تعزز بعد وفاة أو قتل المعارض أليكسي نافالني في سجنه أخيراً، خاصة إذا أصبحت فاتورة المشاركة في الحرب مرهقة وتستنزف جيوب دولهم وخزائن الاتحاد الأوروبي.
بالطبع أكثر ما يخيف الأوروبيين، وهم يراقبون تطورات الـ24 شهراً الماضية، هو عدم وجود ضمانة ألا تنزلق أقدامهم نحو مواجهة مباشرة مع روسيا، في ظل احتمالية عودة ترامب إلى البيت الأبيض، ما يشكل خطراً على كل النظام الأمني-الدفاعي الذي تأسس في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.