منذ الإطاحة بالرئيس السوداني المعزول، عمر البشير، قبل عامين وإلى اليوم، لم يحافظ المشهد السياسي على حال واحدة، وفي كل مرة يدخل لاعبون جدد ويغادر آخرون، جراء التحول الذي يطرأ على مراكز القوى المدنية، فيما يحافظ العسكر على مواقعهم. ويصادف اليوم الحادي عشر من إبريل/نيسان، مرور عامين على سقوط البشير، عبر ثورة شعبية اندلعت في 19 ديسمبر/كانون الأول 2018، باحتجاجات شعبية عفوية في عدد من المدن السودانية، سرعان ما تبناها تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير"، وهو تحالف من مجموعة من الكتل والأحزاب والتيارات السياسية المعارضة، في مقدمتها "تجمّع المهنيين السودانيين"، الذي حظي بتأييد منقطع النظير، لا سيما وسط الشباب والنقابات. ومع اتساع رقعة التظاهرات، وازدياد الغضب الشعبي جراء الوضعين المعيشي والسياسي، بدأ البشير في تقديم جملة من التنازلات من بينها إعفاء الحكومة والطلب من البرلمان عدم المضي قدماً في إجراءات تعديل الدستور للسماح له بالترشح لدورة رئاسية جديدة، كانت مقررة في انتخابات العام 2020.
هيمن العسكر على قرارات مهمة، مثل التطبيع مع إسرائيل، وقيادة المفاوضات الخاصة بتحقيق السلام
في أواخر مارس/آذار 2019، بدأت الأرض تهتز تحت أقدام البشير؛ داخلياً وخارجياً، وازداد وضعه تعقيداً في 6 إبريل، بتمكن الثوار من تنظيم اعتصام في محيط القيادة العامة بالخرطوم، والذي مثّل ورقة ضغط كبيرة عليه من أجل التنحي. لكنه رفض كل المقترحات في هذا الصدد، حتى تخلى عنه أقرب الأقربين إليه من أعضاء اللجنة الأمنية التي شكلها بنفسه للتعاطي من الاحتجاجات الشعبية، والتي ترأسها نائبه الأول وقتها، عوض بن عوف، وتمتع بعضويتها رئيس هيئة الأركان حينها، الفريق كمال عبد المعروف، ومدير جهاز الأمن والمخابرات وقتها، الفريق أول صلاح عبد الله قوش، وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ومدير الشرطة حينها الفريق الطيب بابكر.
ومن حيث لم يحتسب البشير، جاء قرار عزله من اللجنة الأمنية نفسها، التي اتخذت قرارها في هذا الشأن فجر 11 إبريل، وتلا بيانها عوض بن عوف، الذي أعلن الانحياز للثورة الشعبية وعزل البشير وتعطيل العمل بالدستور وإعفاء الحكومة. وأعلن البيان كذلك تعيين مجلس عسكري، استقال بعد 48 ساعة جراء الرفض الشعبي الذي قوبل به باعتباره امتداداً لنظام البشير، لتبدأ لعبة سياسية تتحوّل فيها موازين القوة من طرف إلى آخر في كل مرة. ومثّلت تلك الخطوة، صدمة كبرى للبشير، لأنّ أقرب رجال المؤسسات العسكرية الذين صنعهم، أمثال بن عوف وقوش وحميدتي، وجدهم في ذلك اليوم في الضفة الأخرى، يوجهون مع الآخرين طعنتهم له من الخلف، بإزاحته كلياً من المشهد.
البرهان وحميدتي
بعد 12 إبريل، آلت السلطة لمجلس عسكري جديد بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ونائبه في المجلس العسكري، محمد حمدان دقلو، وبلغت عضويته 10 من القيادات الأمنية والعسكرية. وبخطة محكمة، تمّ إبعاد 3 من أعضاء المجلس، هم الفريق عمر زين العابدين والفريق شرطة الطيب بابكر، ونائب مدير جهاز الأمن والمخابرات الفريق جلال الدين الشيخ، وذلك بحجة انتمائهم للنظام البائد. لكن الأحاديث لا تزال تكرر عن وجود أياد إماراتية في ذلك الإبعاد، تعزيزاً لهيمنة مجموعة البرهان- حميدتي. وفي الاتجاه ذاته، أُبعد أيضاً الفريق أول صلاح عبد الله قوش، لتتم ملاحقته ببلاغات جنائية حتى هرب خارج السودان.
التفاوض مع المدنيين
دخل المجلس العسكري في مفاوضات شاقة مع تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير"، كانت مرنة إلى حد بعيد في بداياتها، وتم التوافق فيها على تشكيل حكومة مدنية بسلطات كاملة، تكونها "قوى إعلان الحرية والتغيير". لكن فجأة نقض المجلس العسكري الاتفاق بحجة وجود أطراف أخرى سياسية من حقها المشاركة في السلطة، واشتدّت الخلافات لأشهر، ظلّت "قوى الحرية والتغيير" تعتمد فيها بشكل أساسي على ورقة اعتصام محيط القيادة العامة للضغط على العسكر. ولسحب تلك الورقة منها، أقدم المجلس العسكري بلا سابق إنذار، على فض الاعتصام في الثالث من يونيو/حزيران عام 2019، في عملية دموية انتهت بسقوط أكثر من مائة قتيل، فيما ألغى المجلس العسكري كل الاتفاقيات والتفاهمات مع "قوى الحرية والتغيير"، وأعلن عن عزمه تكوين حكومة من التكنوقراط، لتسيير الأمور إلى حين قيام انتخابات عامة.
تحوّل حمدوك إلى رقم لا يمكن تجاوزه في المعادلة السياسية
غير أنّ عودة التظاهرات والاضرابات إلى الشوارع، مضافاً إليها الضغط الدولي، أرغمت العسكر على القبول باتفاق مع "الحرية والتغيير" في 17 أغسطس/آب 2019، بتكوين حكومة مدنية كاملة الصلاحيات، ومجلس سيادي بمهام تشريفية محدودة. لكن العسكر هيمنوا بعد ذلك على قرارات مهمة، مثل قرار التطبيع مع إسرائيل، وقيادة المفاوضات الخاصة بتحقيق السلام، برعاية حكومة جنوب السودان في جوبا، مستغلين ضعف الحكومة المدنية وافتقار عناصرها للخبرات الكافية.
انقسامات "الحرية والتغيير"
كما كان متوقعاً، وطوال الفترة الماضية، شهدت أروقة تحالف "الحرية والتغيير"، هزات عنيفة وانقسامات وتباينا في الآراء، بدأت بتجميد حزب "الأمة" القومي، أكبر أحزاب المعارضة، لنشاطه في التحالف، في إبريل 2020، ولحق به حزب "البعث" السوداني. ثمّ جاءت الضربة الكبرى بانقسام "تجمّع المهنيين السودانيين" لمجموعتين؛ الأولى تدعم الحكومة الانتقالية والثانية تطالب بتنحيها، وهي المجموعة التي جمدت نشاط "التجمّع" في "الحرية والتغيير". ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن الحزب الشيوعي السوداني، انسحابه كذلك من التحالف الحاكم، اعتقاداً منه بوجود اتفاقات سرية ومشبوهة بشأن السودان داخل البلاد وخارجها، تتورط فيها قوى داخل "الحرية والتغيير" التي اتهمها بالتخطيط للانقلاب على الثورة. تلك التطورات، أضعفت "الحرية والتغيير"، التي فقدت الكثير من التأييد الشعبي الذي حظيت به في الأيام الأولى للثورة.
حركات الكفاح المسلح اللاعب الجديد
بتوقيعها على اتفاق سلام مع الحكومة الانتقالية في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، دخلت حركات الكفاح المسلح، كلاعب أساسي في المشهد السياسي السوداني، سواء بمشاركتها في هياكل السلطة الانتقالية، أو في مجلس شركاء الحكم برئاسة عبد الفتاح البرهان، مدعومة من نصوص الاتفاق الملزم الذي وقعته، والدعم الإقليمي لبعض هذه الحركات. كما حاولت تلك الحركات فرض وجودها العسكري داخل العاصمة بإرسالها فصائل عسكرية للخرطوم لتزيد من قوتها وثقلها.
شهدت أروقة تحالف "الحرية والتغيير" هزات عنيفة وانقسامات
نقطة الضعف الأساسية في تلك الحركات، عدم اتفاقها وتفرقها وتباين أيدولوجياتها. فالحركة الشعبية- قطاع الشمال، فصيل مالك عقار، على سبيل المثال، محسوبة على تيار السودان الذي مثلته الحركة الأم بقيادة الراحل جون قرنق، فيما حركة "العدل والمساواة" محسوبة على التيار الإسلامي، بينما بقية الحركات برغماتية، تحسب على قبائل أكثر من كونها حركات سياسية.
حمدوك وحده
بعد أكثر من عام ونصف العام من تقلده لمنصب رئيس الوزراء، خلق عبد الله حمدوك مركز قوة مستقلاً، وتحوّل إلى رقم لا يمكن تجاوزه في المعادلة السياسية، على الرغم من أنه جاء بترشيح من "قوى إعلان الحرية والتغيير". إذ يحظى بدعم التيارات الليبرالية، ويستمد قوة أخرى من الدعم الخارجي الذي يحظى به، خصوصاً من قبل الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأميركية، اللذين لا يترددان في كل مرة عن تجديد دعمهما له ولحكومته المدنية.
حزب البشير... إثبات الوجود
منذ الإطاحة به من الحكم، يسعى "المؤتمر الوطني"، حزب الرئيس المعزول عمر البشير، إلى إثبات وجوده في الساحة السياسية، متحدياً في كثير من الأحيان قرار السلطات حظر نشاطه، وذلك منذ ديسمبر/كانون الأول 2019. وظهر الحزب للمرة الأولى في 14 من ذلك الشهر، معلناً عن تنظيم حراك شعبي باسم "الزحف الأخضر" للإطاحة بالحكومة المدنية. وأعاد محاولات الخروج للشارع في أكثر من مدينة، كما سعى لتحريك الشارع بطرق مختلفة، وظلّ يراهن على خطب ودّ المكون العسكري، لكنه فشل تماماً في ذلك. وعمد كذلك إلى استغلال العواطف الدينية لاستعادة مكانته بتصوير الحكومة الحالية، بأنها عدو للدين وتسعى لفرض النظام العلماني.
وعلى الرغم من مواجهته "أعداء" متوحدين بوجهه، فإنّ معلومات تسربت من اجتماعات خاصة بالحزب، أفادت بوجود تباين كبير في الآراء وانقسام داخل "المؤتمر الوطني" حول برامج ووسائل التعامل مع المرحلة الحالية، التي تعدّ الأصعب في تاريخه. وتطورت تلك الخلافات حول مقاعد القيادة، خصوصاً بعد اعتقال وتوقيف أبرز القيادات في "المؤتمر الوطني"، بمن فيهم رئيس الحزب إبراهيم غندور، الذي كُلف بالمهمة بعد سقوط النظام. ومن أبرز الناشطين حالياً في إدارة العمل المعارض، هو علي أحمد كرتي، وزير الخارجية الأسبق الذي كُلف بمنصب الأمين العام للحركة الإسلامية، الذراع الدينية للحزب. ويسعى كرتي إلى التخلي ولو لفترة عن الواجهة الحزبية، والتمسك بمنصة التأسيس الأولى، وهي تنظيم "الحركة الإسلامية" التي أوصلتهم قبل عقود إلى سدة الحكم.