"طعنة في الظهر"، "خيانة"، "إهانة"، "جو بايدن يتصرف مثل سلفه دونالد ترامب"، "قرار أحادي مباغت"، "فرنسا سوف تعيد النظر بالتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة"، هذه بعض عناوين التصريحات النارية من باريس، عقب إعلان الشراكة الثلاثية بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا (أوكوس)، والتي ستحصل أستراليا بموجبها على غواصات أميركية تعمل بالطاقة النووية، وفسخ عقد صفقة بقيمة 65 مليار دولار مع المجموعة البحرية الفرنسية "نافال غروب" لبناء أسطول من الغواصات التقليدية.
وفي كل يوم يمر يفسح الذهول الفرنسي الطريق للغضب البارد، وتتكشف تفاصيل أكثر، وتصدر ردود فعل ذات طابع أكثر حدة منذ تم الإعلان، صباح الخميس الماضي، عن بديل للصفقة التي وقعتها أستراليا مع فرنسا عام 2016 لشراء 12 غواصة تعمل بالطاقة التقليدية بكلفة 65 مليار دولار.
ووصلت ردود الفعل الفرنسية إلى حد استدعاء السفيرين من أستراليا جان بيير ثيبولت، والولايات المتحدة فيليب إتيان. ومن الواضح أن ردود الفعل الفرنسية تحمل جرعة عالية من الشعور بالإهانة والغضب تجاه الشريك الأميركي الأطلسي، لأن الصفقة تشكل ازدراءً لفرنسا في الشكل والمضمون، حسب تصريح لمسؤول فرنسي رسمي.
ويمكن تحديد عدة أسباب وراء انزعاج باريس وتصرفها على نحو يتجاوز الدبلوماسية لإضفاء الطابع الرسمي على الخيانة. وأعادت درجة الغضب الفرنسي واللغة المستخدمة إلى الأذهان حدة الخلاف بين واشنطن وباريس في عام 2003 بشأن الحرب الأميركية على العراق، على حد توصيف صحيفة "نيويورك تايمز".
النقطة الأولى تتعلق بعدم إعلام الولايات المتحدة فرنسا بالشراكة الثلاثية، التي ألغت عمليا الصفقة القديمة بين باريس وكانبيرا، وهذا يعني أن العملية بين واشنطن وكانبيرا ولندن تمت بسرية تامة، وهناك مثل أميركي يقول إن "الفرنسيين لا يحفظون السر". ويكمن سر إخفاء المعلومات عن باريس بتجاهل فرنسا، بل باستغلال الخلاف بينها وبين أستراليا الذي استجد منذ عدة أشهر حول رفع سعر الغواصات بسبب إضافات تقنية جديدة خارج العقد الأصلي.
ولأن واشنطن تعلم أنها أبرمت صفقة من وراء ظهر وعلى حساب فرنسا، فإنها تركتها من دون علم، وفوجئ السفير الفرنسي في واشنطن بالخبر من وسائل الإعلام، ومن ثم اتصل به مدير مكتب مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ليعلمه بالصفقة بين أميركا وأستراليا، التي كانت قد أصبحت الخبر الأول في وسائل الإعلام العالمية.
وفي هذا الوقت، يبرر مسؤولون أميركيون لوسائل الإعلام بأنهم أعلموا فرنسا، وأن أستراليا كانت قد انسحبت من الصفقة مع فرنسا منذ عدة أشهر، واختارت شراء غواصات نووية أميركية.
والنقطة الثانية تتعلق بالتحالف الثلاثي العسكري بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، من خارج حلف شمال الأطلسي، وبعيدا عن التعاون العسكري الفرنسي مع الولايات المتحدة وأستراليا في منطقة المحيط الهادئ، التي تمتلك فرنسا حضورا تاريخيا فيها.
ووصف وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان، مهندس صفقة الغواصات مع أستراليا خلال ولاية الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، في بيان، هذا "القرار الاستثنائي" بـ"الخطورة الاستثنائية"، ورأى أن الصفقة الأميركية مع أستراليا "قرار أحادي ومباغت"، وبكون فرنسا تأخذ الأمر على محمل الجد، وهو "يشكل سلوكًا غير مقبول بين الحلفاء والشركاء، والذي تؤثر عواقبه على مفهومنا لتحالفاتنا وشراكاتنا، وأهمية منطقة المحيطين الهندي والهادئ لأوروبا".
وفي حديث آخر أمس السبت للقناة الفرنسية الثانية، قال لودريان إن هذا الإجراء غير المسبوق في تاريخ العلاقات بين باريس وواشنطن "هو رمزي جداً. لقد حصل كذب، حصلت ازدواجية، حصل تقويض كبير للثقة، حصل ازدراء، لذا، فإن الأمور بيننا ليست على ما يرام".
وقال السفير الفرنسي في واشنطن إن "الأمر ليس عقدا تجاريا ما كان بين باريس وكانبيرا، بل جزء من الاستراتيجية الفرنسية في المحيطين الهادئ والهندي". ووجد مسؤولون فرنسيون في الشراكة العسكرية الجديدة خطوة من شأنها أن تعمق الشقاق الآخذ في الاتساع بين الحلفاء القدامى، خصوصا بعد الانسحاب الأميركي الكارثي من أفغانستان، وقرار سحب جزء من القوات الأميركية القتالية من قاعدتي عين الأسد وأربيل في العراق بحلول نهاية الشهر الحالي.
ولعل أقوى التصريحات تلك التي صدرت على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي قال إن التحالف الثلاثي (أميركا وبريطانيا وأستراليا) يدفع فرنسا للسعي نحو "الاستقلال الذاتي الفرنسي عن الولايات المتحدة".
والنقطة الثالثة تتعلق بالمستوى الذي وصلت إليه العلاقات الفرنسية الأميركية بعد أن قررت باريس استدعاء سفيريها من واشنطن وكانبيرا، وهذا يحصل لأول مرة في تاريخ العلاقات الدبلوماسية الفرنسية مع البلدين.
ويعد أمر استدعاء (سحب) السفير في عرف الدبلوماسية الفرنسية الإجراء الأخير الذي يسبق قطع العلاقات الدبلوماسية، وهذا ما يمكن أن نلحظه من خلال ردود الفعل الأميركية التي تعاملت مع الغضب الفرنسي من دون أي رد فعل يوحي بحدية أو غضب، بل حاولت واشنطن أن تبدو متفهمة وتغلب جانب التحالف والصداقة على صفقة الغواصات.
وحتى مقارنة الرئيس الديمقراطي جو بايدن بسلفه الجمهوري دونالد ترامب امتصتها الناطقة باسم البيت الأبيض جين ساكي حين تحدثت إلى وسائل الإعلام، واعتبرت أن "الصفقة لن تؤثر على عمل البلدين في السعي إلى تحقيق الأمن في المحيط الهادئ، ولن يتعرض للخطر بسبب التوترات الحالية".
وقالت إن فرنسا وأميركا عضوان في مجموعة الدول السبع، وكانت ترد على إمكانية تعرض التحالف داخل حلف الأطلسي لتأثيرات محتملة، وهذا أمر أثار انزعاج فرنسا أكثر، ولذلك تدخل الناطق باسم الخارجية الأميركية نيد برايس، يوم السبت، وقال إن واشنطن تأمل في أن تتمكن من تسوية خلافها مع باريس بشأن صفقة الغواصات الأسبوع المقبل في الأمم المتحدة خلال أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وأنه يتفهم موقف الفرنسيين.
والنقطة الرابعة تتعلق بإلغاء أستراليا صفقة الغواصات مع فرنسا واستبدالها بالصفقة الأميركية، ولذلك آثار اقتصادية كبيرة على فرنسا التي خسرت عقدا بـ65 مليار دولار (50 مليار يورو)، كان قد تم الفوز به عام 2016 من خلال معركة شرسة مع شركة ألمانية منافسة تدعى TKMS.
والغواصة الفرنسية عبارة عن نسخة تعمل بالديزل والكهرباء من أحدث طراز لغواصة هجوم نووية فرنسية (SNA) من سلسلة Barracuda، وكان من المقرر أن تدخل أول واحدة منها، Suffren، في الخدمة الفعلية في أستراليا في غضون بضعة أشهر، على أن تتبعها خمس أخرى.
ومثل العقد الأسترالي في عام 2016 إنجازًا لا يمكن إنكاره لتجارة الأسلحة الفرنسية، ونجاحًا كبيرًا للرئيس السابق فرانسوا هولاند ووزير دفاعه (وزير الخارجية الحالي) جان إيف لودريان. ويقابل ذلك الاتفاق المعروف باسم AUKUSA، الذي أعلنه الرئيس الأميركي من خلال شاشة ثلاثية شاركه فيها رئيس وزراء أستراليا سكوت موريسون ونظيره البريطاني بوريس جونسون.
ويعزز الموقف الأميركي رئيس الوزراء الأسترالي، الذي صرح بأن "القرار الذي اتخذناه بعدم الاستمرار في صفقة الغواصات الفرنسية، واتخاذ طريق آخر، ليس تغييرًا في الرأي، إنه تغيير للحاجة".
وعموما، لن تكون الصفقة ضربة قاتلة لشركة "نافال غروب" الفرنسية، لأن الخسارة لن تشمل كل تكاليف الصفقة، وستقتصر على 10 مليارات يورو، يمكن اعتبارها ثمن الدرس الشهير لمؤسس الجمهورية الخامسة الجنرال شارل ديغول: "الدول ليس لها أصدقاء، ليس لديها سوى مصالح".
وفي وقت يبدو تأثير الاحتجاجات الفرنسية ضئيلا ولن يغير في مجرى الصفقة الأميركية الأسترالية، ثمة سؤال يتناوله الإعلام الفرنسي بشكل متكرر هذه الأيام، ويستغرق الكثير من الجدل، وهو يتعلق بمستقبل العلاقات الفرنسية الأميركية، وهي علاقات كانت على الدوام مثار شد وجذب، ولم تتعامل الولايات المتحدة مع فرنسا كحليف إلا في مناسبات قليلة.
وفي التاريخ الحديث، أرسى الجنرال شارل ديغول جملة من القواعد في التعامل مع أميركا، حتى إنه سحب فرنسا من المنظمة العسكرية في حلف الأطلسي عام 1966، ولم ترجع إلا خلال مرحلة الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي (2007-2012)، وهو من بين القادة الأطلسيين الأوروبيين، من أمثال رئيس الوزراء الإسباني الأسبق خوسيه ماريا أزنار ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، الذين صاغوا عقيدة أمنية جديدة تقوم على تسليم أمن وحماية أوروبا للولايات المتحدة، وذلك على عكس ديغول.
وما طرحه ماكرون يحمل النفس الاستقلالي الديغولي ذاته، ويرسل رسالة تهديد للولايات المتحدة، في الوقت الذي تعمل فيه واشنطن على تركيب تحالف ضد الصين، وبالتالي، فإن هناك احتمالا كبيرا أن تبتعد باريس عن واشنطن، وتعزز علاقاتها مع الصين وروسيا، وحتى إيران.