مثّل السابع من أكتوبر/تشرين الأول صدمةً للمنظومة العسكرية الإسرائيلية، التي اعتقدت أنّها؛ حتّى تلك اللحظة، ثبتت قواعد اللعبة مع الفلسطينيين، في غزّة "تسهيلاتٍ" مقابل هدوءٍ مستدامٍ، وفي الضفّة "جز عشبٍ"، واستهدافٌ دائمٌ لأنوية المقاومة. لكن عملية حركة حماس المفاجئة والخاطفة، قد أسقطت هذه القواعد في غزّة، ووضعت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أمام إعلان حربٍ إجباريٍ، وحالة تعبئةٍ شاملةٍ واستنفارٍ امتدّ من الحدود الشمالية مع القطاع، مروراً بالضفّة والقدس.
منذ السابع من أكتوبر، فعّل الاحتلال أدوات التحكّم والسيطرة في الضفّة الغربية، في محاولةٍ لمنع أيّ إسنادٍ، وبناءٍ فلسطينيٍ على مقولة "وحدة الساحات"، التي ظهرت في هبّة الكرامة 2021، وأربكت المنظومة الاستعمارية وقواعدها. وعليه، ووفق قوانين الطوارئ والحرب لدى الاحتلال، تعززت القبضة البوليسية في الداخل المحتل، وفي القدس بطريقةٍ غير مسبوقةٍ، لاحقت كلّ الأصوات التي حاولت التنديد بالعدوان على القطاع، وإظهار الإسناد للفلسطينيين في القطاع، في الشارع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ما أفضى إلى اعتقال العشرات من الفلسطينيين في الداخل والقدس، على خلفية تضامنٍ؛ ولو بإعجابٍ لصفحةٍ، على المنصات الرقمية، لكن الأدوات في الضفّة المحتلة كانت أكثر عمقًا وتأثيرًا.
واقع الضفّة الغربية ومحدداته
لا يمكن فهم واقع الضفّة الغربية ومحدداته، دون فهم مرتكزاته الناظمة، المتمثّلة في السياق التراكمي، الذي تمرّد على هندسته الناشئة بعد انتفاضة الأقصى (2000-2005). وفهم هذا السياق؛ يفضي بالضرورة إلى فهم أدوات السيطرة، والتحكم التي غرسها الاحتلال في محيط منظومتها الاستيطانية المتنامية، والمتوسعة مع حكومة أقصى اليمين الحاكم في إسرائيل.
شهدت وسائل النضال المتاحة في الضفّة تحوّلاتٍ خلال السنوات الأخيرة، التي تصاعد فيها حضور جيلٍ جديدٍ مقاومٍ مشتبكٍ، مركزه المخيّمات، استعاد الشخصية الثورية، وتحرر من القيود الفصائلية، وتبعات الهندسة السياسية الاقتصادية المتراكمة منذ نهاية انتفاضة الأقصى. هذه الحالة بقيت محددةٌ في بؤرٍ مركزيةٍ، أهمّها مخيّمات جنين وطولكرم وعقبة جبر وبلاطة، إلى جانب تجربة عرين الأسود، التي ورغم خفوتها ميدانيًا إلّا أنّها تأصلت في الوعي الجمعي.
تتعرّض الضفّة الغربية لحالةٍ غير مسبوقةٍ من التقييد، والحصار، والحشر في المعازل التفتيتية، وهذا ما يضاف إليه أزمةٌ اقتصاديةٌ حادةٌ
صعدت هذه المقاومة مع تلاشي أيّة فرصةٍ لحلٍّ سياسيٍ، وتراجع حضور وقدرة وأدوات السلطة الوطنية على الأرض، التي عمدت إسرائيل إلى الإمعان في إضعافها، واعتماد الاحتلال على جيشه لإنهاك واستهداف الميدان الفلسطيني. عملت حكومات الليكود المتعاقبة؛ وحكومة اليمين المتطرّف الأخيرة، وبطريقةٍ مدروسةٍ، على تعزيز الاستيطان، ودعم المستوطنين العقائديين بالموارد والتسلّيح والحماية، على التوازي مع التهامٍ مستمرٍّ للأرض، وتضييقٍ على مساحات الحضور الفلسطيني في القدس، وفي المناطق المصنفة ج؛ وفق تصنيفات أوسلو، إلى حدّها الأدنى.
إضافةً إلى ذلك؛ عمدت إسرائيل؛ منذ عام 2005، على مأسسة منظومة معازل معقدةٍ، مستفيدةً من تجربتها في هذا السياق خلال الانتفاضة، حين قطّعت الضفّة الغربية بأكثر من 500 حاجزٍ وبوابةٍ ونقطة تفتيشٍ. ورغم أنّ منظومة المعازل ليست جديدةً في فكر الاحتلال، إلّا أنّها أخذت طريقها وبقوّةً على الأرض خلال العقد الأخير، وقادت إلى تقطيع الضفّة الغربية إلى ثلاثة معازل كبيرةٍ، الشمال والوسط والجنوب، وأكثر من 200 معزلٍ فرعيٍ، شملت قرىً ومناطق، وحتّى أحياء في بعض المناطق، كالخليل والقدس. عزّزت هذه المنظومة بشبكة رقابةٍ عالية التكنولوجيا، تشمل أنظمة استشعارٍ، وكاميراتٍ، وأدوات رقابةٍ سيبرانيةٍ تغطي كلّ أرجاء الضفّة.
تفعيل نظام التحكم والسيطرة
مع بداية العدوان، شرعت إسرائيل بتفعيل نظام التحكم والسيطرة، من خلال خطواتٍ عدّةٍ، أوّلها؛ الإعلان عن إغلاقٍ شاملٍ للضفّة الغربية، الذي يعني منع أكثر من 150 ألف عاملٍ فلسطينيٍ في السوق الإسرائيلي من الوصول إلى أماكن عملهم في الداخل، وتقييد الحركة الداخلية في الضفّة الغربية تقيدًا كبيرًا جداً، إلى جانب إغلاق معبر الكرامة، منفذ الفلسطينيين الوحيد في الضفّة الغربية إلى العالم الخارجي.
عزلت إسرائيل المناطق الثلاث، على التوازي مع إعمال نظام المعازل البيني، الذي جعل التنقل عبر شوارع الضفّة الغربية الخارجية شبه مستحيلٍ، كما عقد المرور عبر كلّ حواجز الاحتلال. كما وسع الاحتلال عزله للقرى، والمخيّمات في داخل محافظاتٍ عدّةٍ، ومنح جنوده رخصةً مفتوحةً لإطلاق النار، واستهداف أيّ "هدفٍ" فلسطينيٍ مريبٍ، وفق تقدير الجندي ذاته.
إلى جانب ذلك، عززت إسرائيل وجود 23 كتيبة احتياطٍ، و3000 جنديٍ في الضفّة الغربية؛ "المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال"، بفتح باب تسلّيح المستوطنين، الذين يحمّلون أكثر من 100 ألف قطعة سلاحٍ، والذين أطلقت يدهم في الضفة إطلاقًا مطلقًا، وقتلوا فلسطينيين عديدين في هذه الفترة، منهم شهيدان من قرية قصرة قرب نابلس في 12/10/2023.
بهذه الأدوات، استشهد في الضفّة الغربية منذ السابع من أكتوبر، أكثر من 80 شهيدًا، وجرح أكثر من 1400 فلسطيني، كما شلّت الحركة في الضفّة الغربية شللًا شبه كاملٍ.
في هذا السياق أيضاً، شرعت إسرائيل بأكبر حملة اعتقالاتٍ في الضفّة الغربية منذ نهاية انتفاضة الأقصى، إذ هندس الاحتلال منظومة تشريعاتٍ طارئةٍ، سحبت على إثرها مصلحة السجون كلّ مستلزمات الحياة من الأسرى، وهيئة السجون لحالةٍ من الاكتظاظ. منذ السابع من أكتوبر اعتقل الاحتلال أكثر من 1100 فلسطينيٍ.
الفعل الميداني المساند لغزّة
بوتيرةٍ متصاعدةٍ، تشهد مراكز المدن في الضفّة الغربية تظاهراتٍ يوميةً مساندةً للقطاع، ومنددةً بالعدوان المفتوح، يتلوها عادةً توجّهٌ إلى نقاط التماس مع الاحتلال، التي هي بعيدةٌ في معظم الحالات عن مراكز المدن. هذا الإسناد ترفده مناوشاتٌ مسلّحةٌ محدودةٌ في مناطق عدّةٍ، تعكس تواضع قدرات المقاومة الفلسطينية الهجومية، إذ إنّ طبيعة المقاومة؛ التي نشأت خلال السنوات الفائتة، دفاعيةٌ عمومًا، تتراوح ما بين الفعل الفردي، وشبه المنظم، ومحصورةٌ في مراكز محددةٍ. ما يعني صعوبة انتشار هذه المقاومة خارج مراكزها، في ظلّ غياب الظروف الموضوعية لذلك.
جدلٌ واسعٌ في الشارع الفلسطيني في الضفّة حول رد الفعل الضعيف فعليًا، لكن سطوة منظومة الرقابة والتحكم الإسرائيلية، ونأي المؤسسة الأمنية الفلسطينية بنفسها عن المبادئ المسلّحة؛ كما في حال انتفاضة الأقصى، ونظام المعازل المحكم، قيدت أيضًا الفعل الفلسطيني المقاوم، وجعلته بحدّه الأدنى.
فعّل الاحتلال أدوات التحكّم والسيطرة في الضفّة الغربية، في محاولةٍ لمنع أيّ إسنادٍ، وبناءٍ فلسطينيٍ على مقولة "وحدة الساحات"
سيناريوهات في ظلال "السيوف الحديدية"
تقف الضفّة الغربية على رجلٍ واحدةٍ تحت ضغطين، الأوّل غضبها العارم من العدوان، ومن جرائم الاحتلال في القطاع، وما تجرى هندسته لمستقبل غزّة، والثاني؛ مستقبلها في ظلّ هذا العدوان، وبناءً على نتائجه.
من الواضح أنّ مشروع تهجير فلسطينيي القطاع، ليس جديدًا، إذ كانت حكومة الاحتلال قد ناقشت تفاصيله في جلساتها بعد أسبوعٍ من احتلال غزّة، بل طبقته جزئيًا، حين رحلت الآلاف إلى سيناء عام 1971. لكن؛ هذا المشروع يأتي اليوم بعد سنواتٍ من "صفقة القرن"، وبعد انسدادٍ كاملٍ لحلّ الدولتين. قبل أسابيع رفع بنيامين نتنياهو من على منصة الجمعية العامّة خارطةً لـ "إسرائيل"، تلغي أيّ اعتبارٍ للضفّة والقطاع، وتؤكّد على رغبته، شبه المعلنة، بـ "تطهير إسرائيل من غير اليهود". في هذا السياق، يؤمن الفلسطينيون في الضفّة الغربية بأنّ سقوط قطاع غزّة ونجاح مشروع التهجير هناك، يعني تلقائيًا تهجيرًا سريعًا لفلسطينيي الضفّة الغربية.
في حقيقة الأمر؛ استطاعت الحكومة الإسرائيلية؛ التي تضم رموز الاستيطان، بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير، خلال السنوات الفائتة، تعزيز أركان دولة المستوطنين، وحشرت الفلسطينيين في قراهم ومدنهم، وصادرت مساحاتٍ شاسعةً من الأرض، وأسست دولة المستوطنين مقابل التهام حلم تحويل السلطة الفلسطينية إلى كيانٍ متكاملٍ.
في ظلّ هذا الواقع، تتعاظم الخشية من انتهاز إسرائيل فرصة العدوان الجاري، لاستكمال مفاصل مهمةٍ بهذا المشروع، مثل إنهاء بعض التجمعات الفلسطينية المقاومة لمشاريع الاستيطان الكبرى، مثل الخان الأحمر، ومسافر يطا، أو عمليات ترحيلٍ واسعةٍ من المناطق المصنفة ج، خاصّةً في الأغوار.
تكتيكًا، يبدو أنّ الاحتلال يسعى أيضاً إلى توجيه ضرباتٍ شاملةً لمعاقل المقاومة في المخيّمات خاصّةً، وإنهاء تجربة الكتائب المنتشرة، واستعادة "ضبط المصنع"، الذي برمجته منظومة ما بعد انتفاضة الأقصى. بدأت هذه المحاولات بالهجوم الواسع على مخيّم نور شمس، في طولكرم شمال الضفّة الغربية، الذي استمر نحو 30 ساعةً، وأسفر عن 13 شهيدًا، بينهم خمسة أطفالٍ، وخلف دمارًا واسعًا في المخيّم.
واجه الاحتلال في نور شمس مقاومةً عنيدةً، ولم ينجح بما رمى إليه، من الإجهاز على الكتيبة، التي خرجت بأقلّ أضرارٍ ممكنةٍ، ولعل هذا يضع أمام الاحتلال تحدّيًا كبيرًا في إنهاء مراكز المقاومة في الضفّة، المتسلّحة معنويًا بصمود مقاومة غزّة. لكن هذا لا يعني تراجع الاحتلال عن هذا الهدف التكتيكي بأيّ حالٍ من الأحوال، بل من الواضح أنّ مراكز المقاومة في الضفّة على موعدٍ مع جولاتٍ حادةٍ من المواجهة.
هل الانتفاضة الشاملة ممكنة؟
من ناحيةٍ عمليةٍ، تتعرّض الضفّة الغربية لحالةٍ غير مسبوقةٍ من التقييد، والحصار، والحشر في المعازل التفتيتية، وهذا ما يضاف إليه أزمةٌ اقتصاديةٌ حادةٌ، ستبدأ ملامحها في الظهور بفعل انهيار البنية الاقتصادية، التي تشكلت بعد عام 2005، والتي ارتكزت كلّيًا على القرار السياسي الإسرائيلي، فما يضخه العاملون في الداخل في الاقتصاد الفلسطيني هو مصدر السيولة الأساسي، يضاف إليه ما ينفقه فلسطينيو الداخل في أسواق الضفّة الغربية، هذان الموردان هما مصدرا المقاصة، الإيراد المركزي للسلطة الفلسطينية، وبوابة إنفاقها على الرواتب والخدمات، وهي موارد يمتلك الاحتلال مفاتيحها، بل استخدمها في أكثر من موعدٍ للضغط على الفلسطينيين، وعلى السلطة الوطنية.
من الواضح أنّ جفاف المصادر الثلاثة، سوف يفضي وبوضوحٍ إلى انهيار نموذج التسكين الاقتصادي، الذي ساد في الضفّة الغربية لعقدٍ ونصفٍ، وهذا ما يحتاج إلى بضعة أشهرٍ حتّى تتضح ملامحه. وفي ظلّ الفشل السياسي، ووصول المشروع الاستيطاني إلى أعتاب مدن الضفّة الغربية المركزية، وقلب بعضها، لن يكون أمام الفلسطينيين في الضفّة إلّا الانتفاض، لكن أيّ انتفاضةٍ لن تكون فاعلةً من دون قرارٍ سياسيٍ، وإرادةٍ سياسيةٍ من السلطة الوطنية، تقرر وبوضوحٍ كسر السياسة القائمة، وتغيير قواعد اللعبة، التي أصبحت لعبةً من طرفٍ واحدٍ يتحكم بكلّ خيوطها.