يبدو أن الظروف التي يمر فيها حلف شمال الأطلسي (الناتو)، على خلفية الحرب في أوكرانيا، تفرض نفسها لقبول أمينه العام الحالي ينس ستولتنبرغ بالتمديد له لفترة إضافية في المنصب، خاصة مع عدم توافق الغربيين على أمين عام جديد للحلف.
ويدور الحديث هذه الأيام عن مخرج للاستعصاء يقضي، بضغط أميركي عليه، أن يستمر في المنصب حتى ربيع العام المقبل 2024، بدل أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، أو لحين الاتفاق على خليفته.
وكان ستولتنبرغ، الذي يترأس الأطلسي منذ 2014، على وشك المغادرة في خريف 2021 لشغل منصب مدير المصرف المركزي في بلده (كان قد شغل أيضاً منصب وزير اقتصاد ورئيس حكومة في أوسلو)، لكن يبدو أن الغزو الروسي لأوكرانيا، أو التحضير له أواخر 2021، غيّر خطط الناتو، وفرض على ستولتنبرغ البقاء في منصبه. وقبل الرجل على ألا يتجاوز تسليم منصبه لخليفته في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، لكن يبدو أن "وضع الناتو المعقد" يعود ليفرض عليه البقاء في المنصب، أو على الأقل قبول التمديد.
وتأجيل انتخاب أمين عام جديد للحلف الغربي يعبر أيضاً، في قراءة مراقبين غربيين، عن مشكلات داخل الحلف، ما يعزز فرصة رئيسة حكومة الدنمارك ميتا فريدركسن لاستلام المنصب، بعد أن بدت منافسة قوية للمرشحة الوحيدة تقريباً رئيسة الحكومة الإستونية كاجا كالاس.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية رفعت الدنمارك من قيمة ميزانيتها الدفاعية بصورة توحي أن البلد الذي سيأتي منه الأمين العام الجديد يجب أن يكون مستوفياً معايير الناتو في تخصيص سقف ميزانية الدفاع بـ2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وجرى بالفعل تداول اسم فريدركسن في مناسبات مختلفة، سواء على الضفة الأوروبية أو الأميركية للأطلسي.
وبالنسبة للدول الكبيرة في الحلف الغربي، أميركا وفرنسا وألمانيا، بدت جهود كوبنهاغن المنخرطة بصورة قوية وملحوظة في دعم أوكرانيا عسكرياً، حيث أعلنت قبل أمس عن زيادة تقدر بنحو 22 مليار كرونة دنماركية، محفزاً قوياً لإقناع دول في أوروبا الشرقية، كبولندا، من أجل تمرير رئاسة الدنماركية فريدركسن للأطلسي، رغم ما رشح عن تفضيلهم مرشحاً بريطانياً. أضف إلى ذلك أن تأجيل مغادرة ستولتنبرغ منصبه جاء أيضاً على خلفية رغبة دول البلطيق الصغيرة (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا) في إبعاد المنصب عن الدول الإسكندنافية، حيث شغل المنصب قبل ستولتنبرغ النرويجي، رئيس الحكومة الدنماركية الأسبق، أندر فوغ راسموسن.
وصرح وزير دفاع إستونيا، هانو بيفكور، لصحيفة "بيرلنغكسا" الدنماركية، أن "نسبة الـ2 في المائة ليست المعيار الحاسم لاختيار بلد الأمين العام الجديد للناتو، رغم أنها ستكون رسالة جيدة إلى الحلفاء". وسعت إستونيا، دون ضجيج كبير، إلى إقناع باريس بدعم رئيسة حكومتها كاجا كالاس، لتكون المرأة الأولى التي تتولى رئاسة الحلف الغربي.
مواقف كالاس المتشنجة في التصريحات العلنية من روسيا، باعتبارها دولة سوفيتية سابقة وتخشى من تكرار غزو موسكو لأوكرانيا في إستونيا نفسها، أو جاراتها في البلطيق، تبدو في غير مصلحتها، على الأقل في معسكر حليفيها في الاتحاد الأوروبي باريس وبرلين.
الخيار الذي نوقش في باريس، عند زيارة وزير دفاع إستونيا بيفكور، طرح اسم وزير الدفاع البريطاني بن والاس، على اعتبار بريطانيا أكثر صرامة في مواقفها من موسكو، ويعتبرون لندن حليفاً موثوقاً في شرق القارة ودول البلطيق الصغيرة.
ويواجه والاس بالطبع بمعارضة من برلين وباريس، فالأخيرة ما تزال تشعر بغضب بسبب ما سمته قضية "خيانة عقود الغواصات"، حيث ذهبت لندن باتفاق مع واشنطن إلى ثني أستراليا عن شراء 12 غواصة من فرنسا، مقابل غواصات أميركية تعمل بالطاقة النووية. وساءت علاقة الجارتين، فرنسا وبريطانيا، أكثر مع تسلم رئيس الحكومة السابق بوريس جونسون منصبه، وهو الذي تنظر إليه باريس على أنه المتسبب بخروج بلده من الاتحاد الأوروبي وما أعقبه من مشكلات في المفاوضات حول علاقة الطرفين مستقبلاً.
وبما أن الإجماع هو المطلوب لاختيار الأمين العام للناتو، يبدو أن الخيار الأمثل أمام القوى المؤثرة فيه هو ترحيل حسم من سيخلفه، فإصرار قوى أوروبية على أن يكون المنصب الأطلسي من داخل الاتحاد الأوروبي يضع البريطاني والاس في موقف منافسة صعب، بينما يعبر التأجيل أيضا، بحسب قراءات محللين في بروكسل وكوبنهاغن، عن ارتفاع حظوظ فريدركسن خلال الأشهر المقبلة، وخصوصاً أنها باتت أكثر حركة دبلوماسياً في الخارج، وطرح خطابات تدمج بين السياسات الأوروبية في أفريقيا على سبيل المثال والأمور الدفاعية المتعلقة بالقارة الأوروبية، في زيارتها الأخيرة رفقة رئيس الحكومة الهولندية مارك روت إلى جنوب أفريقيا، بل وتمنحها صحافة بلدها بعض دور لأجل تليين مواقف تركيا بشأن عضوية السويد في الحلف.
وبانتظار حسم موقف ستولتنبرغ قبيل قمة الأطلسي الشهر المقبل تبقى الأمور في الحلف بين أخذ ورد وتصاعد في تخمينات الصحافة وكواليس السياسة. الشيء الأكيد، وفقاً للمعطيات القائمة، أن حلف شمال الأطلسي يواجه بالفعل تحديات كبيرة، ليس أقلها انخفاض التطبيق العملي لشعارات "وحدة الموقف" الظاهرة على سطح علاقته وتصريحات الدول الأعضاء فيه.