تمتدّ قائمة ضحايا مذبحة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة (14 أغسطس/ آب 2013) لتشمل جميع محافظات مصر، ليس فقط ممن قضوا بالرصاص خلال الأحداث التي تختلف التقارير بشأن أعدادهم، ولكن أيضاً ممن عانوا بصور شتى جراء الوقائع المختلفة التي أعقبت الفض في جميع محافظات مصر، وبشكل خاص الذين تم اعتقالهم.
وتختلف تقديرات المنظمات الحقوقية والحكومية، المصرية منها والدولية، في تعداد ضحايا مذبحة الفض، وتبدأ من 333 قتيلاً، بينهم 247 حالة معلومة، و52 حالة مجهولة، و7 حالات من الشرطة، بحسب التقديرات الحكومية المصرية الصادرة عن وزارة الصحة ومصلحة الطب الشرعي. وتصل في بعض التقديرات الحقوقية المصرية إلى 2200 حالة، بحسب آخر إحصاء صادر عن مستشفى رابعة العدوية الميداني، بينما يرتفع العدد إلى 2600 قتيل، حسبما أعلنت جماعة الإخوان المسلمين آنذاك. في المقابل، ذكرت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، في تقريرها الصادر في 12 أغسطس/ آب 2014، أن عدد الضحايا هو 1150 قتيلاً، قبل أن ينخفض العدد في التقرير الصادر عن المنظمة ذاتها في 14 أغسطس 2015 إلى 817 حالة.
وفيما تشكل المذبحة وما تلاها جرحاً مفتوحاً في ظل غياب تحقيق العدالة والمحاسبة عن الجرائم المرتكبة، يركز الإعلام الرسمي في مصر على جانب واحد من الوقائع المرتبطة بالأحداث فقط، ويتمثل في المجني عليهم من ضباط وأفراد شرطة في واقعة اقتحام قسم شرطة كرداسة. في المقابل يتم التعتيم عمداً على عشرات الحالات الأخرى المعاكسة التي تم التصدي فيها لتظاهرات سلمية تضامناً مع ضحايا الاعتصام. وهي حالات اعتُقل بسببها آلاف المواطنين، يقبع المئات منهم خلف أسوار السجون حتى الآن، جراء جرائم لم يرتكبوها، وبناء على إجراءات استثنائية ومحاكمات تشوبها مخالفات دستورية جسيمة.
انطلقت حملة موسّعة لاعتقال النشطاء من دون أفق
فمنذ عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي في 3 يوليو/ تموز 2013 اندلعت تظاهرات تطورت إلى اعتصامات محدودة في بعض المحافظات، بالإضافة إلى الاعتصامين الكبيرين بالقاهرة والجيزة. وخلال شهر رمضان (إبريل/نيسان ومايو/ أيار) في ذلك العام كانت الاعتصامات السلمية تُواجه بالتضييق، ولكن من دون استخدام العنف، حتى اتُخذ قرار فض اعتصامي رابعة والنهضة، مُشعلاً غضب المتظاهرين في شتى أنحاء الجمهورية. الأمر الذي تطور إلى قمع بالقوة في بعض المحافظات، خصوصاً في الصعيد المصري، بالفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج.
واستعصت في تلك الأثناء سيطرة الأمن بشكل كامل على بعض المناطق التي تُركت لأيام وأسابيع لتعود للهدوء تدريجياً حتى بدأت الداخلية، بدعم من الجيش في بعض المناطق، حملة لاعتقال رؤوس المجموعات المعارضة من جميع التيارات الإسلامية في محافظات الصعيد، طاولت الإخوان المسلمين والجمعية الشرعية والدعوة السلفية والسلفيين، الذين كانوا يدعمون القيادي حازم صلاح أبو إسماعيل لخوض انتخابات رئاسة الجمهورية.
من هنا بدأت معاناة الضحايا المنسيين لفض الاعتصامين، الذين لم يُقبض عليهم حول الموقعين، بل اعتُقلوا لاحقاً وأُحيلوا سريعاً إلى التحقيقات التي انتهت بالمحاكمات المتتالية في قضايا الاعتصام المختلفة، وصدرت في معظمها أحكام بالنقض. مع العلم أنه لم يُقبض على هؤلاء متلبّسين في وقائع عنف، كما حدث في كرداسة والإسكندرية وبعض المناطق الحضرية، لكنهم أُحيلوا إلى النيابة العامة وبوشرت محاكمتهم. وانطلقت حملة موسّعة لاعتقال النشطاء من دون أفق يوضح الإجراءات التي سيُحاكمون على أساسها، أو ما إذا كانوا سيخرجون بعد فترة قصيرة، كما كان يحدث في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك.
وبحسب محامين حقوقيين تم اعتقال أكثر من عشرة آلاف مواطن في الصعيد في الفترة ما بين سبتمبر/ أيلول 2013 وأغسطس/ آب 2015 على ذمة اتهامات مطاطة، بعضها لم يتم التحري عنها من الأساس، ومنها اتهامهم بضلوعهم في أحداث عنف وتخريب مزعومة لمنشآت حكومية ومرافق، انتقاماً من فض اعتصامي رابعة والنهضة. ويمكن تصنيف المعتقلين لمجموعتين رئيسيتين، وفقاً لفترة اعتقالهم. الأولى تضم من اعتقلوا خلال عام 2013 في وقائع محددة تحت حالة الطوارئ، أُحيلت سريعاً إلى النيابة العامة للتحقيق فيها ومن ثم المحاكمة، وهي المجموعة الأقل عدداً، ومعظمها أحيل إلى محاكم جنائية عادية.
أما المجموعة الثانية فتضم من اعتقلوا خلال عامي 2014 و2015، في وقائع كانت النيابة العامة قد فتحت التحقيقات فيها من صيف 2013 ولم يُقبض على المتهمين فيها. وبدلاً من أن تُقيّد هذه الوقائع ضد مجهول لعدم الاستدلال على طبيعة ومجريات الأحداث، ظلت مفتوحة من دون تصرف. ولاحقاً أدرج المعتقلون على قوائم الاتهام في تلك القضايا، بموجب تحريات أمنية دوّنت في وقت لاحق على فترة الأحداث وكذلك الاعتقالات.
وكان رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي قد أصدر في أكتوبر/ تشرين الأول 2014 القانون 136 لسنة 2014، المعروف باسم "حماية المنشآت العامة والحيوية"، والذي نقل على أساسه، في مخالفة دستورية، محاكمة المتهمين بالتعدي على تلك المنشآت إلى القضاء العسكري بدلاً من محاكم الجنايات العادية. واستُتبع ذلك بقرار صادر عن النائب العام الراحل هشام بركات وحمل رقم 14 لسنة 2014، القاضي بإحالة جميع القضايا الخاصة بالتظاهر في حرم تلك المنشآت (التي يبسط القانون تعريفها على جميع الأماكن العامة تقريباً) وجميع القضايا الخاصة بالاعتداء عليها، إلى النيابة العسكرية "طالما لم يتم التصرف فيها". وهو ما أدى إلى إحالة الآلاف من المعتقلين بشكل متعجّل، وبأثر رجعي، وبغض النظر عن مضمون هذه القضايا، إلى النيابة العسكرية.
ومن بين أكثر من 1500 قضية أُحيلت إلى القضاء العسكري جرت أحداثها في صيف 2013، رغم أن القانون نفسه صدر في خريف 2014، صدرت أحكام تُعدّ على أصابع اليدين بعدم الاختصاص وإحالتها لمحاكم الجنايات العادية أو بالبراءة. أما باقي القضايا فقد حُكم فيها على المعتقلين بعقوبات مشدّدة، تبدأ من السجن ثلاث سنوات وتصل إلى السجن المؤبد.
ونظراً إلى عدم انتماء السواد الأعظم من المعتقلين المحكومين على ذمة هذه القضايا إلى أي مجموعات سياسية منظمة، فقد عجز ذووهم عن توفير دفاع منتظم لهم في معظم الأحيان، فضلاً عن تراجع الاهتمام الإعلامي بأوضاعهم الحياتية في السجون والأوضاع الاجتماعية لذويهم. وأعادت هذه الفترة إلى الأذهان ظاهرة الاعتقالات الطويلة في عهد مبارك لإسلاميي المحافظات غير المنتمين للتنظيمات الكبيرة، ولكن هذه المرة بموجب أحكام عسكرية تعسفية مخالفة للدستور مبنية على تحريات أمنية غير قانونية، عوضاً عما كانت عليه سابقاً، عبر قرارات أمنية بحتة.
وخلال سنوات اعتقالهم، التي تحوّلت إلى فترات عقوبة قضائية، اهتمت السلطات بالتنكيل بهذه الفئة من الضحايا المنسيين، بنقلهم بين سجون بعيدة عن محافظاتهم، تتسم بسوء الأوضاع المعيشية وضعف المزايا قياساً بباقي السجون المصرية المأزومة أصلاً. ومن هذه السجون الوادي الجديد ووادي النطرون وأسيوط المتمتعة بحراسة مشددة. كما تمّ تجاهل معظم المعتقلين في قرارات العفو الرئاسي التي صدرت منذ 2017 وحتى الآن، وخرج منهم فقط عشرات المحكومين بفترات سجن لا تتعدّ السبع سنوات، في مواعيدهم الطبيعية.
وذكرت مصادر أمنية أن خلو قرارات العفو من هذه الفئة من المعتقلين، يتسبّب دوماً في حالة من الغضب، داخل السجون شديدة الحراسة. وما يضاعف الغضب هو أن معظم المحكوم عليهم في القضايا المشابهة التي وقعت أحداثها في القاهرة ومحافظات الدلتا والقناة قد أُفرج عنهم بالفعل، سواء بسبب تخفيف عقوباتهم في محكمة النقض أو استفادتهم من قرارات العفو السابقة. ويعود السبب إلى أن معظم تلك القضايا كانت منظورة أمام محاكم الجنايات العادية، أما هذه المشكلة فيبدو أنها ستظل ملقية بآثارها على قضايا الصعيد إلى أجل غير مسمى.
نفذت السلطات في إبريل الماضي أحكام الإعدام في 16
شخصاً
وكان مجلس النواب قد قرر عام 2016 مدّ العمل بقانون حماية المنشآت إلى 28 أكتوبر المقبل مما يعني استمرار إحالة وقائع الاعتداء على المنشآت العامة والمرافق إلى القضاء العسكري. وهو ما استندت إليه السلطات في إحالة عشرات الآلاف من محاضر التعدي على الأراضي ومخالفات البناء إلى النيابة العسكرية، العام الماضي. وظهر من قرار العفو الذي أصدره السيسي في إبريل الماضي صدور آلاف الأحكام السريعة في تلك الجنح.
ونفذت السلطات في إبريل الماضي أحكام الإعدام في 16 من المدانين في أحداث كرداسة التي تلت فض اعتصامي رابعة والنهضة، وذلك بالتزامن مع عرض مسلسل "الاختيار 2". ورأت منظمات حقوقية في ذلك إشارة إلى تسارع وتيرة تنفيذ أحكام الإعدام في مصر على عكس ما كان الحال سابقاً، لا سيما أن البلاد حلّت في المركز الثالث عالمياً في تنفيذ أحكام الإعدام عام 2020، بعد الصين وإيران بحسب تقارير منظمة العفو الدولية.