في وقت كان يُفترض فيه أن تتفرغ الدوائر المصرية المختصة بمجريات المحاكمة المنتظرة للضباط المصريين الأربعة، طارق صابر وآسر كمال وهشام حلمي ومجدي عبد العال شريف، المتهمين بقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني (في العام 2016)، كشفت مصادر دبلوماسية مصرية أن واقعة تحرش أحد الضباط المصريين، الذين سافروا إلى إيطاليا لتسلم الفرقاطة "برنيس" من طراز "فريم" في إبريل/ نيسان الماضي، بفتاة إيطالية، ستتحول هي الأخرى إلى محاكمة جنائية قريباً. وكان قاض في روما قد قبل، أول من أمس الثلاثاء، تحريك الدعوى الجنائية بشأن قضية ريجيني، بعد جلسة استماع للادعاء عقدت في اليوم ذاته، وتحددت لها جلسة في 14 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
قبل قاض في روما تحريك الدعوى الجنائية بشأن قضية ريجيني
أما بالنسبة للقضية الثانية، فقد أوضحت المصادر أن الضابط المتهم بالتحرش، "كان قد تلقى بنفسه أمراً بتقييد الحركة في نطاق محافظة ليغوريا في مدينة سبيتسيا، بالقرب من جنوى، شمال غربي إيطاليا"، وملازمة الفندق الذي كان مقيماً فيه إبان التحقيق الأولي في الواقعة، إلا أنه أقدم على الهروب ومغادرة إيطاليا برعاية السلطات المصرية، وبمعاونة من جهة حكومية إيطالية واحدة، أو على الأقل من مسؤولين تنفيذيين إيطاليين.
وبعدما كان الجدل حول الموضوع مقتصراً حتى منتصف شهر مايو/ أيار الحالي، على إثارة بعض السياسيين اليساريين في إيطاليا تساؤلات عن ملابسات اختفاء أو تهريب المتهم، تلقت السفارة المصرية في روما إشعاراً رسمياً، الأسبوع الماضي، بتحريك دعوى قضائية من الادعاء الإيطالي ضد الضابط الهارب، بتهمتي التحرش والإخلال بالقوانين المحلية.
وذكرت المصادر أن السفارة المصرية، وبعد التواصل مع القاهرة، تعاقدت مع مكتب محاماة شهير للدفاع عن الضابط المتهم، وتفنيد اتهامات التحرش تحديداً، ليسهل بعد ذلك التعامل مع المشكلة الأخرى الخاصة بمغادرته البلاد. وأوضحت المصادر أن هناك طلباً تقدم به عمدة مدينة سيبتسيا، بييرلويجي بيراتشيني، إلى الادعاء الإيطالي، لاعتباره مدعياً مدنياً في القضية، بما يضفي عليها بعداً تنفيذياً أيضاً، بعدما أعلن العمدة، قبل أسابيع، أنه "يعتبر هروب الضابط بمثابة إهانة للمدينة، وعار على النظام الإيطالي، وبأنه لا يمكن الانتقاص من احترام المرأة في إيطاليا وأوروبا". ووفقاً لتقديرات المصادر المصرية، فإن القضية الخاصة بالضابط المتهم بالتحرش ربما تُحرك غيابياً قبل موعد بدء محاكمة المتهمين بقتل ريجيني، نظراً لعدم شمول هذه النوعية من القضايا بالعطلة القضائية في إيطاليا.
وعن التحركات المقبلة في قضية ريجيني، أكدت المصادر أن مصر لن تسلم أياً من الضباط المتهمين، وستكتفي بتقديم مذكرات تشكك في سلامة الإجراءات، نظراً لعدم مواجهة المتهمين شخصياً في أي من مراحل التحقيقات. وتحدثت المصادر عن وجود خلاف حول التحرك القانوني في هذه القضية بين محاميين اثنين تتعامل معهما السفارة المصرية. ويتجه أحد المحاميين إلى ضرورة عدم تقديم أي دفاع موضوعي في القضية، والتركيز على بطلان الإجراءات الإيطالية، على ضوء عدم قدرة روما على تطوير المحاكمة الغيابية إلى ما هو أبعد، بسبب عدم وجود أي إطار قانوني يسمح لها بطلب المتهمين من مصر أو إلزامها بذلك، عدا فرض قيود على حركة الضباط الأربعة خارج مصر. وتدعم القاهرة هذه الرؤية، في مقابل اتجاه المحامي الآخر إلى تقديم دفاع موضوعي استناداً إلى التحقيقات الخاصة بالنيابة العامة المصرية، والسردية التي توصلت إليها، والتي تروج لنظرية تعرض ريجيني للخطف والقتل من قبل "طرف ثالث" يرغب في هدم العلاقات المصرية الإيطالية، والتركيز على أمور عدة ترمي إلى اتهام ريجيني بأنه كان جاسوساً. ومن بين هذه الأمور، السبب الحقيقي لاختيار ريجيني لجامعة كامبريدج للدراسة، وسبب اختياره مواضيع تتعلق بمصر تحديداً، وسبب مخالفته شروط دخول البلاد، حيث دخلها كسائح ومن ثم بدئه الدراسة. وكذلك طُلبت معرفة تفاصيل عن بعض الشخصيات الإيطالية التي كان يتواصل معها خلال إقامته المستمرة بالقاهرة، وتحركاته خلال آخر زيارة أجراها إلى بلاده في العطلة السابقة لمقتله.
تعاقدت القاهرة مع مكتب محاماة شهير للدفاع عن الضابط المتهم بالتحرش
وبحسب المصادر، فقد قدمت نيابة روما للنيابة العامة المصرية مذكرة مطولة رداً على الطلبات المصرية، والأسئلة التي سبق توجيهها في الجولة التفاوضية السابقة. وأكدت المذكرة أن المستوى الاقتصادي والبحث العلمي والاهتمامات الدراسية الشخصية هي فقط الأسباب الواردة لاختيار ريجيني جامعة كامبريدج للدراسة، واختياره موضوعات تتعلق بمصر تحديداً، وأن مخالفته شروط دخول مصر حيث دخلها كسائح ومن ثم بدئه الدراسة، جاءت بسبب اعتياد الطلاب الأجانب هذا الأمر خوفاً من التضييق الأمني. كما أوضحت المذكرة هوية بعض الشخصيات الإيطالية التي كان يتواصل معها خلال إقامته المستمرة في القاهرة، وتحركاته خلال آخر زيارة أجراها إلى بلاده في العطلة السابقة لمقتله، والتي جاءت كلّها عادية ولا تثير أي شكوك.
وبالتوازي مع العمل القضائي، تواجه مصر جهوداً نيابية إيطالية مكثفة لمراجعة تعاون الحكومة الإيطالية معها في عدد من الملفات، استغلالاً لعدم تكوين رئيس الوزراء الجديد ماريو دراجي قراراً في هذا الشأن. ويتزعم هذا الاتجاه للمراجعة وزير الخارجية لويجي دي مايو وبعض نواب حزبه "حركة الخمسة نجوم"، وكذلك رئيس مجلس النواب روبرتو فيكو، الذي استقبل نبأ تحريك الدعوى الجنائية ضد الضباط الأربعة بالترحاب. وكتب فيكو على صفحته على موقع "فيسبوك": "هذا يوم كبير ومهم، مع توجيه الاتهام لأربعة من عناصر الأمن المصري، نضيف خطوة مهمة في البحث عن الحقيقة حول الخطف والتعذيب والقتل الذي تعرض له ريجيني. أتوجه بالشكر الجزيل إلى مكتب المدعي العام في روما على العمل الطويل والمعقد والدقيق في هذه السنوات. والشكر موجه لجميع الأشخاص، بدءاً من والدي جوليو، اللذين استقبلتهما (بعد الجلسة)، فقد ناضلا وواصلا الصمود من أجل بلوغ الحقيقة. الآن تبدأ مرحلة جديدة، قضية يمكن أن تعيد بناء ملابسات أخرى".
تواجه مصر جهوداً نيابية إيطالية لمراجعة تعاون روما معها
والضباط الأربعة المتهمون بقتل ريجيني هم: اللواء طارق صابر، العقيد آسر كمال، العقيد هشام حلمي، والمقدم مجدي عبد العال شريف. وبحسب القانون الإيطالي، يمكنهم جميعاً مخاطبة الادعاء العام لنفي الوقائع، كما يمكنهم المطالبة بالمثول أمام الادعاء للإدلاء بأقوالهم.
واللواء طارق صابر أصبح حالياً مساعد وزير الداخلية للأحوال المدنية، وكان خلال الواقعة يشغل منصب مدير قطاع في جهاز الأمن الوطني، وهو الذي أصدر تعليماته بمتابعة ريجيني بناء على تقرير رفع إليه من أحد مساعديه عن أنشطته البحثية وتواصله مع نقيب الباعة الجائلين محمد عبد الله، بمناسبة بحثه عن النقابات المستقلة في مصر. أمّا الضابط الثاني، وهو العقيد آسر كمال، والذي كان يعمل رئيساً لمباحث المرافق بالعاصمة، فتوجد دلائل على أنه هو الذي أشرف على رسم خطة تعقّب ريجيني في إطار التنسيق بين الأمن الوطني والأمن العام، وقد تمّ نقله بعد الحادث بأشهر عدة للعمل بمحافظة أخرى. أما المقدم مجدي شريف، فقد سبق ونشر ادعاء روما اسماً رباعياً تقريبيا له، هو مجدي إبراهيم عبد العال شريف، وهو الضابط الذي أبلغ عنه ضابط أفريقي بأنه سمع منه حديثاً عفوياً أثناء تدريب للضباط الأفارقة في كينيا عام 2017، اعترف فيه بتورطه في قتل ريجيني، أو "الشاب الإيطالي" كما وصفه، إلى حد القول إنه "لكمه مرات عدة" بسبب "الاشتباه في كونه جاسوساً بريطانياً".
وتتجه التحقيقات الإيطالية إلى أن الضابط مجدي شريف شارك ثلاثة ضباط آخرين، غير الخمسة المشتبه فيهم، أو خلفهم في إدارة ملف ريجيني، وأنهم جميعاً قاموا بتكوين شبكة من المخبرين حول ريجيني، والتي تضم، حسب السيناريو الإيطالي، كلاً من زميلة ريجيني المقربة، الباحثة نورا وهبي، وشريكه في السكن محمد السيد الصياد، ونقيب الباعة الجائلين محمد عبد الله، الذي يظهر في الفيلم الوثائقي المعد من قبل الأجهزة المصرية.
واشترت مصر من إيطاليا أسلحة بمبلغ مليار و944 مليون يورو منذ مقتل ريجيني، منها 991 مليون يورو في عام 2020، والذي يعتبر الرقم الأضخم في تاريخ العلاقات العسكرية بين البلدين. وفي العام 2019، أنفقت مصر 870 مليون يورو. وفي العام 2018، بلغت قيمة الصفقات 69 مليون يورو فقط، وكان هذا في وقته رقماً قياسياً يمثّل أكثر من ضعف أكبر مبلغ دفعته مصر نظير الأسلحة الإيطالية في عام واحد على الإطلاق، وبرقم يفوق بكثير سعر مشترياتها من الأسلحة والذخيرة في جميع الأعوام من 2013 إلى 2017.