صورة سورية المستقبل

14 ديسمبر 2024
احتفالات في دمشق بسقوط نظام الأسد، 13 ديسمبر 2024 (يمام الشعار/رويترز)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- استعادة الأمن والنظام في دمشق: بعد سقوط النظام السوري، بدأت الحكومة المؤقتة بقيادة محمد البشير في إعادة الحياة إلى دمشق بإلغاء حظر التجول ونشر الشرطة لمواجهة التحديات الأمنية مثل السرقات وعمليات التخريب المحتملة.

- التغيرات الاقتصادية والاجتماعية: شهدت دمشق تحسنًا في الخدمات الأساسية وفتح الأسواق، مما أدى إلى انخفاض سعر صرف الدولار، معبرًا عن الثقة في الخطوات الانتقالية وفرحة الناس بحرية.

- التحديات المستقبلية والعدالة الانتقالية: تواجه سورية تحديات في ملء الفراغ وضبط الأمن، مع دعوات لتحقيق العدالة الانتقالية من خلال مؤتمر وطني يضمن مشاركة واسعة لتحقيق الاستقرار وتطلعات الشعب.

تعود الحياة إلى سورية تدريجياً، تحديداً في العاصمة دمشق. وخلال زمن قياسي ألغت الحكومة السورية المؤقتة برئاسة محمد البشير حالة منع التجول، ونشرت قوات من الشرطة، إلى جانب قوات "إدارة العمليات العسكرية" من أجل حفظ النظام والأمن وإنهاء بعض المظاهر الناجمة عن السقوط السريع والمفاجئ للنظام في الثامن من شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي، ووقف السرقات التي تفشت في الأيام الأولى نتيجة تحرير السجناء الجنائيين، وهو ما يشكل تحدياً لزمن طويل في سورية، إذ يتطلب القبض على هؤلاء وإعادتهم للسجون جهوداً إضافية في هذه المرحلة المثقلة بالأعباء.

ينتظر الشارع استتباب الأمن في دمشق وسط مخاوف من حصول عمليات تخريب قد يقوم بها طرفان، الأول هو أنصار النظام السابق، وعلى الرغم من عدم بروز مؤشرات واضحة على تحرك هؤلاء، إلا أن الغياب التام للأجهزة المحسوبة على النظام مثل الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، وقرابة 200 ألف رجل أمن، لا يبعث حتى الآن على الاطمئنان، وهناك خشية من أعمال عدائية، ولا سيما أن هؤلاء يعرفون مفاتيح المدينة، ولديهم الإمكانية والسلاح. الطرف الثاني هو احتمال تحرك بعض المجموعات المسلحة التي تعمل لحساب أطراف خارجية، خصوصاً أن بعضها دخل دمشق قبل وصول قوات "إدارة العمليات"، وحاولت أن تفرض واقعاً سياسياً من خلال تعويم شخصيات من النظام السابق كنائب الرئيس فيصل المقداد، ورئيس وزراء النظام السابق أحمد الجلالي، وقد حاول أفراد منها سرقة موجودات المصرف المركزي. 

مستقبل سورية

هناك مؤشر مطمئن هو الانتشار الواسع والأفقي لمقاتلي "إدارة العمليات" في المحافظات الكبرى والسيطرة عليها، ومنها اللاذقية ذات الحساسية الخاصة، بسبب انحدار عائلة الأسد منها، وهروب عدد كبير من أنصار النظام السابق نحوها، ومنهم أبناء عائلة الأسد، التي مارست الرعب على السوريين لزمن طويل. تبدو "إدارة العمليات" ممسكة بالوضع الأمني، وتوحي الخطوات التي تقوم بها، والتطمينات التي ترسلها، بأن لديها خطة كاملة لمنع حصول تعديات وسرقات وأعمال تخريب، ولذلك فتحت المجال أمام الشارع كي يحتفل بالفرح الكبير يوم الجمعة الماضي، الذي حمل اسم "جمعة النصر"، عطفاً على التسميات التي كانت تسمى بها أيام الجمعة خلال الثورة.

تراجع سعر صرف الدولار أمام الليرة السورية من 35 ألفاً إلى نحو 14 ألفاً

 

بالتوازي مع ذلك، هناك سرعة في إعادة الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه والأفران، وفتح الأسواق والمحلات التجارية المختصة بالمواد الأولية، ومن بين المؤشرات الإيجابية المهمة تراجع سعر صرف الدولار أمام الليرة السورية من 35 ألفاً إلى نحو 14 ألفاً، ما يوحي بأن خطوات الانتقال التي تتم، تحظى بالثقة من قبل الأوساط المالية. فرحة لم تشهدها شوارع دمشق منذ زمن طويل، هذه هي المرة الأولى منذ أكثر من 60 عاماً التي ينزل فيها الناس إلى الشوارع يعبرون فيها عن مشاعرهم، من دون أن تطلب منهم الأجهزة ذلك، متحررين من الرقابة والخوف ورفع شعارات التأييد للأسد الأب أو الابن.

على الجانب الآخر من الصورة، تلقي بثقلها أخبار السجون والاختفاء القسري لأكثر من 100 ألف معتقل سياسي، لم يتم العثور لهم على أثر، بحسب أخبار "الشبكة السورية لحقوق الانسان"، وقد كشفت بعض القنوات التلفزية مقبرة جماعية في "جسر بغداد" في ريف دمشق على مساحة 5 آلاف متر مربع. وهذا يحمّل الوضع الجديد مسؤوليات كبيرة، في ما يخص تطبيق العدالة، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات من أجل تسوية هذا الملف الكبير. الكل مستعجل في سورية اليوم. ولم تمض 24 ساعة على سقوط النظام، حتى صار السوريون يدلون بآرائهم، ويسقطون رغباتهم وتصوراتهم وأحلامهم على المرحلة المقبلة، يقابل ذلك الخطوات التي تقوم به "هيئة تحرير الشام" وزعيمها أحمد الشرع الذي بدأ حراكاً واسعاً بهدف تقديم نفسه للسوريين، والتعريف بأفكاره وتصوراته التي تؤكد أنه سيكون قائد المرحلة المقبلة بلا منازع. ويبدو من تصرفات "الهيئة" والتصريحات التي يطلقها مسؤولوها أنهم بدورهم على عجالة، ومرد ذلك بحسب أوساط مراقبة هو تثبيت مسألتين، الأولى هي إيصال رسائل بأنها هي التي ستلعب الدور القيادي في المرحلة المقبلة، والثانية هي أن "الهيئة" تحاول ان تفرض جزءاً من تصوراتها لإدارة الفترة المقبلة في سورية، ولذلك ترمي بالكثير من بالونات الاختبار بصورة تدريجية، من أجل جس نبض الشارع، وامتحان ردود فعله حيال القضايا الرئيسية، التي تهم مرحلة الانتقال من الوضع البائد.

ويأتي ذلك وسط حالة تسليم من الأغلبية السورية بأمرين، الأول هو أن المرحلة المؤقتة التي تنتهي في مارس/آذار المقبل، هي من اختصاص الفصائل المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام"، كونها هي التي باتت تمسك بالأرض بعد سقوط النظام. والأمر الثاني يتعلق بما يلي المرحلة المؤقتة، أي المرحلة الانتقالية، أو عملية التحول السياسي. وهناك قناعة عامة بأن "الهيئة" لن تستطيع أن تديرها وحدها، وهنا يتم طرح الكثير من الأسباب التي يمكن تلخيص بعضها بما يلي: أولاً، لن تنخرط قطاعات واسعة من الشارع في عملية تقودها الفصائل العسكرية وحدها، وعلى الرغم من غياب معارضة منظمة في سورية في الوقت الراهن، فإن فئات المجتمع التي عارضت النظام السابق وقدمت التضحيات من أجل رحيله، لن تسلّم بمشروع "الهيئة".

ثانياً، المهمة أكبر من "الهيئة"، وتجربتها للحكم في إدلب ليست معياراً، كون المدينة صغيرة من جهة، ومن جهة أخرى، لا تصلح أن تكون مثالاً لسورية الكبيرة المتعددة والمتنوعة، ثم أن هناك ملاحظات عديدة عليها، تتعلق بالحريات العامة ونمط الاقتصاد. ثالثاً، موقف المجتمع الدولي. وقد صار واضحاً أن هناك استقبالاً مشروطاً للوضع الجديد، وأي خطوة عملية من أجل مساعدة سورية الجديدة لن تكون مجانية، ومن ذلك رفع "هيئة تحرير الشام" عن لائحة الإرهاب، ورفع العقوبات عن سورية، ومساعدتها في بدء عملية إعادة الإعمار.

أي خطوة عملية من أجل مساعدة سورية الجديدة لن تكون مجانية

 

وصرح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وهو في طريقه إلى تركيا، البلد الأقرب إلى "الهيئة"، بأن سورية لديها فرصة بأن تحظى بحكومة لا يهيمن عليها ديكتاتور كالأسد. وقال إن هناك محادثات تفصيلية حول ذلك، ونعمل على منع أي جهة من وضع مصالحها فوق مصالح الشعب السوري. وتشارك واشنطن هذا الرأي الدول السبع التي أعلنت أنها تدعم عملية انتقالية ذات طابع تعددي، وكذلك الأمر في ما يخص الاتحاد الأوروبي. ومن غير المستبعد أن تحذو الدول العربية الموقف نفسه، وعلى الرغم من أن بعضها يؤيد التغيير من دون تحفظ، لكنها تدرك ما يترتب على مباركة حكم "الهيئة" منفردة لسورية.

مشكلتان وعدالة انتقالية

إزاء ذلك تبرز مشكلتان عاجلتان، الأولى هي ملء الفراغ الذي خلفه سقوط النظام السابق، وهذا عبء كبير ليس في وسع "الهيئة" القيام به وحدها، وهي تحتاج إلى مشاركة واسعة، وهي حتى الآن تقوم بالاستفادة من الجهاز القديم، وهذا أمر مؤقت إلى حين تعود المؤسسات إلى العمل، ومن بعد ذلك لا بد من إعادة النظر في وضع كل المؤسسات، بالنظر إلى تغلغل أنصار العهد السابق فيها، الذين غيروا ولاءهم بسرعة، وصاروا يقدمون أنفسهم على أنهم من المسرورين برحيل الأسد، وهناك نماذج فاقعة جداً، مثل سفير النظام في موسكو ومندوبه السابق في الأمم المتحدة بشار الجعفري.

المشكلة الثانية هي، التسرع وعدم وضوح صورة المستقبل، وهو ما ظهر من خلال بعض المظاهر التي تم التراجع عنها، أو تناقض في التصريحات من قبل مسؤولين في "الهيئة"، الذين يحاولون تقديم إجابات عن كل الأسئلة وسط ضغط شارع متعطش ومستعجل، يريد تحقيق المهام دفعة واحدة وخلال أقصر زمن ممكن، من دون مراعاة الأولويات وحسابات التحديات الداخلية والخارجية الواقعة على عاتق الوضع الجديد، والتي باتت تتلخص في ضبط الأمن، ومن ذلك مواجهة مشكلة إطلاق سراح السجناء الجنائيين، وما يمثله من مخاطر على المجتمع، والثاني هو تدوير عجلة الاقتصاد التي كانت شبه متوقفة، والثالث هو الحصول على شرعية دولية.

إلى ذلك ترى أوساط قانونية أن الطريق السليم الذي يجب السير عليه هو ذلك الخاص بالعدالة الانتقالية، من نظام ثار عليه الشعب إلى دولة المؤسسات، والهدف من ذلك انتقال سياسي على أساس مضمون بيان جنيف 1 لعام 2012، وليس أسلوبه، وهذا يتطلب تنظيم مؤتمر وطني لإنتاج هيئة حكم انتقالي، تشكل مجالس حكم انتقالي، تشريعية، قضائية، وتنفيذية: عسكرية، إعلامية، اقتصادية، رعاية المعتقلين والاهتمام بالمهجرين...إلخ تقود البلد إلى حين الاستقرار لفترة قد تكون سنة.

ويرى أصحاب وجهة النظر هذه أنه لا يزال هناك متسع من الوقت، ولكن الأمر يحتاج إلى دراسة، وما تم حتى الآن جيد، ولكن لا يمكن اختزاله بجهة واحدة، بل إن الانتقال يشكل مسؤولية تشاركية، تحتاج إلى جهود الجميع، وهناك الكثير من الشخصيات لديها الرغبة في المشاركة، ويحتاج الأمر إلى تناغم. ويبدو أن النية موجودة، كما أن التصريحات مطمئنة نسبياً، وما يحتاج إليه الشارع هو تفعيل الخطاب لتزيد حالة الاطمئنان.

المساهمون