سقط كثيرون في امتحان اعتقال رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، كثيرون من أدعياء ومنتسبي الديمقراطية، شخصيات وأحزاب ومنظمات، لطالما صدعوا رؤوسنا بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وكونيتها، وكيف أنها تسمو فوق اعتبارات الأجناس والأديان، خصوصاً حدود السياسة وحساباتها، وكيف أنها لا تفرّق بين مواطن وآخر. ولكنه كان كما يبدو مجرد هراء سقط في كل الامتحانات الحقيقية التي شهدتها تونس طيلة السنوات الأخيرة.
إلى اليوم، تلوذ أحزاب ومنظمات تونسية بالصمت المطبق، ولم تعلّق بأي طريقة على مجرى الأحداث، بينما ذهبت أخرى في بيانات لها إلى عدم ذكر الغنوشي ولا "النهضة" و"جبهة الخلاص" بالاسم، وبنت مواقفها إلى المجهول، فيما أن المقرات التي أقفلتها السلطات التونسية هي لـ"الجبهة" و"النهضة"، ومن يقبع في السجن معتقلاً هو رئيس حزب، وكان رئيس برلمان انتُخب ديمقراطياً في انتخابات شهد الجميع في الداخل والخارج بشفافيتها.
أما بقية المواقف التي كانت أكثر وضوحاً في انتقاد السلطة لاعتقال الغنوشي، فرصّعت بياناتها بـ"نعم، ولكن"، ودعت "النهضة" إلى مراجعات، وكأن هذا السياق يسمح بهكذا دعوة، أو كأن "النهضة" فقط هي من ينبغي أن يقوم بمراجعات ويعترف بالأخطاء، أما البقية فما شاء الله، أحزاب طاهرة بلا خطيئة ولا تحتاج لمراجعة مواقفها، وكل ما اقترفته في حق البلاد صلاح وفلاح ورؤية ثاقبة.
لقد سقطت الأغلبية في امتحان الغنوشي، وهي ترى أنه معتقل بسبب تصريح ورأي. وأياً كان هذا الرأي والموقف، تتفق معه أو تختلف، فإنه يبقى موقفاً سياسياً، يمكن انتقاده ورفضه وشجبه، أما أن يُعتَقل بسببه، ثم يسيطر هذا الصمت الرهيب على الجميع بهذا الشكل، فهذا يفسر سبب هذا السقوط التونسي السريع في براثن الديكتاتورية وحكم الفرد، ويعرّي هذه الكذبة الديمقراطية التي يلبسها كثيرون للأسف.
المشكلة أننا لا نستقرئ نتيجة هذا الصمت الذي يقف خلفه هذا العمى الأيديولوجي، وستكون تداعياته كارثية على الجميع في الغد القريب جداً، وقد نقرأ ربما كيف أن بلداً يحتفل كل نصف منه بالعيد لوحده، أو ربما نطالع كما في السودان، ذلك النداء الذي وجّهه السوداني محمد جالي، لشقيقيه الواقفين ضد بعضهما على جبهات القتال، ويقول لشقيقه: "إذا وقع أسيراً في يدك (يقصد أخاه الثاني) فأخبره بأنه رُزق ولداً"، ويختم "أسأل الله أن يحفظكما جميعاً في هذه المعركة التي أرى أن الخاسر الوحيد فيها هو أنا".