صرخة الجوع: الأزمة الإنسانية القاتلة في قطاع غزة

25 فبراير 2024
يشرب أطفال غزة ماء غير صالح للشرب (عبد زقوت/الأناضول)
+ الخط -

في قلب الصراع الدائم في الشرق الأوسط، تتجسد أحداثٌ مأساويةٌ تضاف إلى سجل البشاعة والمعاناة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني. في هذا السياق، يبرز قطاع غزّة كمسرحٍ لأحدث فصول الكابوس الإنساني، حيث تتفاقم الأوضاع القاسية لتصل إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ من الجوع والمعاناة. إنّها قصةٌ تلخص مأساة العالم المعاصر، حيث يتحول الجوع إلى سلاحٍ مدمرٍ يستخدم ضدّ المدنيين، وتنعدم الرحمة والإنسانية في وجه القسوة والتهديد.

سنتناول في هذه المادة الأوضاع الإنسانية الراهنة في قطاع غزّة بشموليةٍ، منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتّى الآن، حيث يواجه الشعب الفلسطيني هناك أزمةً إنسانيةً قاتلةً تهدد بالتدمير الكامل. إذ تقف هذه الأزمة كتذكيرٍ مؤلمٍ بواقع الحياة في قطاع غزّة، وتطرح تساؤلاتٍ حول مدى جهوزية المجتمع الدولي للتصدي لهذه الكوارث الإنسانية المتكررة؟ وهل يمكن أن يرى العالم هذه الصورة المأساوية ويظل متفرجًا؟ أم أنه يجب اتخاذ إجراءات فوريةً وجادةً لإنقاذ المدنيين الأبرياء، والحيلولة دون وقوع المزيد من الكوارث والمآسي؟

منذ بداية الحرب على قطاع غزّة؛ تفجّرت أزمةٌ إنسانيةٌ خانقةٌ في أعماق القطاع، حيث يصارع السكان من أجل البقاء، وسط حصار الاحتلال الإسرائيلي المتواصل، والقصف المستمر. نجد في تقريرٍ صادرٍ عن خبراء حقوق الإنسان في الأمم المتّحدة أنّ 80% من المهددين بالمجاعة أو الجوع على مستوى العالم تتركز الآن في قطاع غزّة الصغير، الذي أضحى مسرحًا لأزمةٍ لم تعهدها البشرية من قبل.

تبقى صرخة الجوع تتردد في أرجاء قطاع غزّة، تذكيرًا بالمأساة التي يعيشها شعب فلسطين، وتحديًا للضمائر الإنسانية في العالم، للتحرك والعمل لإنقاذ الأرواح المحاصرة في هذا الجحيم

لم يعد هناك ما يُسمى بالشبع في قطاع غزّة؛ الجوع يجتاح الأروقة، وينخر الأبدان، حيث أصبح كلّ فردٍ في هذه القطعة الضيقة يتألم من الجوع، ويناضل للعثور على لقمة العيش وشربة الماء النقية. ربع السكان يمرّون بمعاناة الجوع الحاد، ويعانون لإيجاد قوت يومهم، ويناضلون من أجل تأمين المياه النقية والطعام الضروري، كما تعرض المجاعة حياة النساء الحوامل للخطر، بسبب نقص التغذية والرعاية الصحية.

من جانبٍ آخر، يواجه الأطفال الصغار، الذين تقل أعمارهم عن خمس سنواتٍ، خطر سوء التغذية الشديد، مع ازدياد احتمالات قصر القامة (القزامة)، والإعاقات الجسدية والعقلية الدائمة. ينذر هذا الواقع المروع بتأثيرٍ كارثيٍ على قدرات التعلم لجيلٍ بأكمله، ما ينذر بخسائر جسيمةٍ مستقبلًا.

لا مأمن في هذه الأرض المنكوبة؛ منذ 9 أكتوبر فُرض على قطاع غزّة حصارٌ شديد الصرامة، أغلقت فيه أبواب الرحمة، ومصادر الحياة الأساسية، إذ يعيش 2.3 مليون فلسطيني في حالةٍ من الحرمان المستمر، جراء القصف المتواصل والقيود الصارمة. قبل هذا الحصار، كان نصف سكان قطاع غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأكثر من 80% كانوا يعتمدون على المساعدات الإنسانية.

في السياق القاسي ذاته، يبدو أنّ الإنسانية محرومةٌ من العون والرحمة، فمنذ بداية العام الجديد بلغت نسبة الوصول الفعلي للمساعدات الإنسانية إلى شمال قطاع غزّة الفقير ما يقارب الـ21% من المخطط لها فقط، ما ينذر بتصاعد الأزمة في هذه المنطقة المحاصرة. وكما تتفاقم الأزمة في الجنوب بفعل انتشار السكان في ملاجئ غير مهيأةٍ، ومناطق بلا مرافق أساسية تزيد من معاناتهم اليومية.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

مع هذا الجحيم الذي يجتاح غزّة، تكمن اليد القاسية التي تسببت في هذه المحنة الإنسانية، حيث تقوم إسرائيل بشن حربٍ على الغذاء، وتستخدم الجوع كسلاحٍ ضدّ الشعب الفلسطيني. إضافةً إلى تدميرها الأراضي الزراعية، ومنعها وصول الصيادين إلى البحر، واقتلاعها البساتين والأشجار وكلّ ما على الأرض من حياة، ذلك كلّه ليس إلّا جزءًا من كارثةٍ أكبر تتمثّل في تدمير الهوية والكرامة الإنسانية.

في ظلّ صمت المجتمع الدولي المؤلم، تعانق رائحة الجوع الأرواح في أرض العزة والكرامة، حيث يتلاقى صراخ الأطفال الجائعين مع زفير الرياح المنبعث من بين جدران الموت في الأروقة الضيقة، وفي مخيّمات النزوح. في قطاع غزّة، يُسجّل الجوع قصة البؤس والألم، وتغلف الظلمة الكثيفة أرواح الآباء والأمهات، الذين لا يستطيعون تقديم الدفء والطعام لأبنائهم الصغار. كما ترسم أشكال الجوع البائسة ملامح الأطفال والنساء وكبار السن، إذ يتجاوز الجسد الشاحب والعيون الخافتة حدود الصبر والاحتمال، وتنبض القلوب برغبةٍ ملحةٍ في قسمة لقمة العيش اليومية. على هذه الأرض الجريحة، يُنادى بعدالة السماء ورحمتها، ويتجلى الأمل في قلوب الصابرين، وتتراقص أشعة الشمس على وجوه البائسين، معلنةً عن قدوم يومٍ جديدٍ يحمل معه بذرة أملٍ ونبتة زرع الخير والرحمة.

في هذا الجحيم اليومي، تواجه المنظّمات الإنسانية تحدياتٍ هائلةً في مواجهة الأزمة الإنسانية المتفاقمة، فهي تسعى بجد وإخلاص لتقديم الأمل والإغاثة لأولئك الذين تقطعت بهم السبل، ولرفع العبء عن كاهل المحرومين وتخفيف آلامهم. مع كلّ جولةٍ من القصف الهمجي، وكلّ لحظةٍ من الحصار القاسي، تتعاظم الصعوبات التي تواجهها هذه الجهات، إذ تجد نفسها محاصرةً بين العقبات الإدارية، والتحديات اللوجستية، ونقص الموارد المالية. إنها مهمّةٌ باتت تحتم عليها مواجهة تحديات الزمان والمكان بكلّ شجاعةٍ وإصرارٍ، بغية توفير المساعدة الضرورية للفقراء والمحتاجين، مهما بلغت العوائق. لذا يبقى على عاتق المجتمع الدولي تقديم الدعم الكافي، وتسهيل الظروف لتلك المنظّمات حتّى تتمكّن من أداء رسالتها الإنسانية بكلّ كرامةٍ وفعاليةٍ، لتبقى شعلة الأمل مشتعلةً في عتمة الظلمة.

منذ بداية الحرب على قطاع غزّة؛ تفجّرت أزمةٌ إنسانيةٌ خانقةٌ في أعماق القطاع، حيث يصارع السكان من أجل البقاء

في هذا السياق القاسي، تبقى صرخة الجوع تتردد في أرجاء قطاع غزّة، تذكيرًا بالمأساة التي يعيشها شعب فلسطين، وتحديًا للضمائر الإنسانية في العالم، للتحرك والعمل لإنقاذ الأرواح المحاصرة في هذا الجحيم. إنّها دعوةٌ إلى تكاتف الجهود وتضافر العمل، لإنقاذ ما تبقى من أملٍ في هذه الأرض المنكوبة، ولتخفيف وطأة المعاناة عن كاهل الشعب الفلسطيني.

التاريخ يشهد على أنّ الأزمات الإنسانية لا تبقى دون حلٍّ إذا ما وقفت الإرادة الدولية إلى جانب المظلومين، وعملت بجديةٍ لإيقاف نزيف الدم والموت. لن ننسى أبدًا أنّ الإنسانية لا تعرف حدودًا، وأن واجبنا الإنساني يتطلّب منا الوقوف بقوّةٍ إلى جانب الضعفاء والمحتاجين، فلا يبدو أنّ هناك أيّ مخرجٍ آخر لهذه الأزمة المدمرة، التي تعصف بقطاع غزّة، سوى وقف الحرب. إنّ استمرار القتال يعني المزيد من الدمار والمعاناة للسكان المدنيين، ويزيد من تفاقم الأوضاع الإنسانية المأساوية التي يواجهها الشعب الفلسطيني، لن تجلب الحرب إلّا مزيدًا من الدمار والخراب، ولن تحلّ أيًّا من المشاكل الجوهرية التي تواجه المنطقة.

المساهمون