صراعات "هيئة تحرير الشام": هل استتب الأمر للجولاني؟

02 يناير 2024
عناصر بالهيئة بإدلب، أغسطس الماضي (عمر حاج قدور/فرانس برس)
+ الخط -

أظهر الصراع الأخير داخل "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، سلطة الأمر الواقع في شمال غربي سورية بين الكتلة الرئيسية التي انحاز إليها زعيم التنظيم أبو محمد الجولاني في إدلب من جهة، وتيار أو "جناح الشرقية" الذي يقوده المدعو جهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور)، أحد مؤسسي الهيئة بشكلها واسمها القديم في سورية "جبهة النصرة"، أن أمر الهيئة لم يستتب بالمطلق للجولاني، على الرغم من "قصقصة" أجنحة الخصوم، سواء داخل الهيئة أو التنظيمات الجهادية خارجها.

وتواصل مسلسل الاعتقالات الداخلية ضمن مكونات "تحرير الشام"، بتهم وذرائع معدّة للخطاب الداخلي، منها الفساد والعمالة. واعتقل الجهاز الأمني في الهيئة، السبت الماضي، كلاً من مسؤول قسم الدراسات في الأمن العام بمدينة إدلب عابد أبو أحمد، ومسؤول منطقة إدلب أبو عدي جبل، والعسكري في "لواء سعد" التابع لها فواز أبو القعقاع، ومندوب ملف الجريمة المنظمة في منطقة إدلب أبو شيماء، وفق ما أكدت مصادر خاصة لـ"العربي الجديد".

محمود السايح: مرحلة التشظي العمودي للهيئة في النواة المؤسسة انتهت

وجاءت هذه الاعتقالات عقب إعلان أبو أحمد زكور، الشهر الماضي، انشقاقه عن الهيئة وهروبه إلى مناطق سيطرة "الجيش الوطني السوري" المعارض والمناوئ للهيئة، ما يؤكد عدم ركون شخصيات الهيئة للتسليم بسلطة الجولاني عليهم، لا سيما من قبل رفاقه الأوائل في التنظيم، بعدما اعتمد الأخير على شخصيات جديدة للإمساك بزمام التنظيم ومفاصله الرئيسية، ضمن علاقات مبنية على المصاهرة والمصالح المتبادلة.

وحاول الجهاز الأمني في الهيئة اعتقال زكور في مدينة اعزاز، شمال حلب، إلا أنه فشل بسبب تدخّل المخابرات التركية، والتي يُعتقد أنها تملك نفوذاً على التنظيم، إذ اضطرت القوة التي خرجت لاعتقاله لتسليمه إلى المخابرات التركية قبل الوصول به إلى إدلب.

انشقاق زكور عن "هيئة تحرير الشام"

وجهاد عيسى الشيخ (زكور)، أحد أبرز قادة "تحرير الشام"، أعلن في وقت سابق من الشهر الماضي عبر بيان رسمي، الانشقاق عن صفوف الهيئة، وذلك بعد تغيير سياستها، لا سيما في ما يخص العلاقات مع "الجيش الوطني" المعارض للنظام السوري والحليف لتركيا، والعامل في مناطق "درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام"، شمال سورية.

ويعد أبو أحمد زكور من أبرز مؤسسي "جبهة النصرة" التي أصبحت في ما بعد "هيئة تحرير الشام"، وشغل منصب عضو في مجلس الشورى وأميراً على قطاع حلب والمشرف على المحفظة الاقتصادية للهيئة في الخارج وأذرعها المالية، والمدرج أيضاً على لوائح العقوبات الأميركية والتركية بعدما فرضت حكومتا البلدين عقوبات عليه في مايو/ أيار 2023.

وكان زكور قد طمح بالصعود في سلم هرم التنظيم، بعدما أسند إليه الجولاني، إلى جانب رفيقهم الثالث والقيادي البارز في الهيئة أبو ماريا القحطاني، ملف التوغل في مناطق ريف حلب الشمالي، أي المناطق الخاضعة لسيطرة "الجيش الوطني" الحليف لأنقرة. وتحركت الهيئة في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، لمنع الفيلق الثالث في "الجيش الوطني" من إنهاء وجود ما يعرف بـ"فرقة الحمزة"، التي ثبت تورطها بمقتل الناشط المدني محمد أبو غنوم مع زوجته.

وعلى الرغم من أن الجيش التركي حال دون توسع "هيئة تحرير الشام" في شمال حلب، إلا أن الهيئة احتفظت بنفوذ قوي يقوده زكور والقحطاني. وباتت هذه الكتلة تعرف بـ"الجناح الشرقي" للهيئة، فيما الجناح الآخر هو القوة المركزية في إدلب ويسيطر عليها الجولاني بالاعتماد على شخصيات معظمها من مدينة بنش التي صاهرها الجولاني وناسبها، وبات هذا الجناح يعرف أيضاً بـ"جناح بنش".

محاصرة الجولاني لـ"جناح الشرقية" في حلب

شعور الجولاني بتعاظم نفوذ "جناح الشرقية" في حلب، نظراً لوجود القحطاني في هذا الجناح، دفعه لمحاصرته. إذ يُعتقد أن القحطاني معتقل أو تحت الإقامة الجبرية المشددة في إدلب، بعدما تم التحقيق معه في حملة روّجت لها الهيئة بأنها ضد متهمين بالعمالة، وقد ورد اسم القحطاني في تلك التحقيقات.

وفي قرار صدر عن "القيادة العامة" للهيئة في أغسطس/ آب من العام 2023، أشار القرار إلى أن اسم القحطاني (اسمه الحقيقي ميسر علي الجبوري وهو عراقي الجنسية)، ورد في بعض التحقيقات التي أجريت في ذلك الوقت، وأن القيادة شكلت لجنة متابعة خاصة استدعته، و"تبين للجنة المكلفة أن أبو ماريا القحطاني أخطأ في إدارة تواصلاته، من دون اعتبار لحساسية موقعه، أو ضرورة الاستئذان، وإيضاح المقصود من هذا التواصل"، إذ أوضح القرار حينها أن اللجنة أوصت "بتجميد مهامه وصلاحياته".

أما "جناح إدلب" داخل الهيئة، والذي يملك القوة والمال نظراً لتحكمه بالموارد، فقد بات قتيبة بدوي مسؤول الشؤون الاقتصادية، أحد أهم وجوه هذا الجناح، وهو من بنش وقريب الجولاني الذي تعد إحدى زوجاته من عائلة بدوي، بالإضافة إلى "أبو حفص بنش" مسؤول الحدود، و"أبو أحمد حدود" المسؤول الأمني في الهيئة، بالإضافة إلى عبد الرحيم عطون الشرعي العام للهيئة.

عباس شريفة: الجولاني ربما سيقوم بإعادة هندسة الكتل القائمة على المناطقية لاستتباب الأمر له

بالمختصر، فإن "الجناح الشرقي" يمتلك الأقدمية والكفاءة، فيما يمتلك الجناح الآخر الموارد والأموال والتحكم بمركز القرار. ويقود الجناح الأخير حملة ضد قيادات وعناصر في الهيئة يُتهمون بالعمالة والتجسس لصالح النظام وروسيا والتحالف الدولي والمخابرات الأميركية.

ويشير متابعون لتلك الحملة، التي أفضت بحسب معلومات لاعتقال حوالي 400 قيادي وعنصر من قبل الجهاز الأمني، إلى أنها تهدف لإنهاء أي نفوذ لأي أجنحة وكتل قوية في الهيئة ليصار للتحكم بالكتلة القريبة من الجولاني.

مكتب العلاقات والتنسيق مع شمال حلب قد انتهى

وحول الصراع الأخير، يعتقد الناشط السياسي محمود السايح أن "مكتب العلاقات والتنسيق مع شمال حلب الذي أوكله الجولاني لزكور وجماعته قد انتهى. وتحوّلت العلاقات من مرحلة التنسيق مع فصائل الشمال (بعض فصائل الجيش الوطني) إلى مرحلة جديدة تتسم بالاحتواء، وهذه المرحلة تتطلب عناصر فعالة بهذا الاتجاه تختلف طبيعتهم عن طبيعة الأشخاص الذين قاموا بالتنسيق، ولذلك تم إنهاء وظيفة مكتب العلاقات ورجالاته، وعلى رأسهم زكور".

ويقول السايح، لـ"العربي الجديد"، إن هناك سبباً خارجياً، مشيراً إلى أن هناك إعادة هيكلة لهرم السلطة في الهيئة مع تسريب أسماء لعملاء مفترضين لهذه الجهة أو تلك، واتخاذ ذلك ذريعة من قبل الجولاني للتخلص من رفاق الدرب القدامى والمجموعات المرتبطة بهم.

وحول مستقبل الصراعات في الهيئة، وإمكانية فتح باب جديد لجناح أو تيار يقلق الجولاني، يرى السايح أن "مرحلة التشظي العمودي للهيئة في النواة المؤسسة انتهت، والتي تحمل في طياتها إمكانية استثمار خارجي، وهناك حالياً مرحلة تشظ أفقي في صفوف العناصر. وما لم يقدم الجولاني تنازلات حاسمة تساهم في تحقيق رؤية الخارج للصراع في المنطقة، فإن مصيراً مقلقاً ينتظر الهيئة".

"تيار الشرقية" مقلق بالنسبة للجولاني

من جهته، يرى الباحث المختص بشؤون الجماعات الإسلامية عباس شريفة أن "تيار الشرقية مقلق بالنسبة للجولاني، لكنه قادر على ضبط الأمور في المرحلة اللاحقة بعدما بدأ الصراع مع هذا الجناح".

ويضيف، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الجناح يمتلك قوة عسكرية، لكن لديه مشكلتين، الأولى أن عناصره لا ينتمون للجذور الاجتماعية في المنطقة، أي حلب وريفها وحتى الشمال، لكون عناصره أغلبهم من المهاجرين، والمشكلة الثانية أنه ليس لديه الأموال ولا مصادر التمويل ولا يملك الخبرة الأمنية، فهو منكشف أمام الجولاني وجهازه الأمني".

ويعتقد شريفة أن الجولاني "ربما سيقوم بتفكيك الكتل القائمة على المناطقية، وإعادة هندستها لتكون كتلاً قائمة على الاختصاص، وذلك سيفيده في استتباب الأمر له".

يشار إلى أن "جبهة النصرة" تأسست في أواخر عام 2011، وشهدت عدة انقسامات وتحولات، وتعرضت لضغوط شعبية كبيرة لتغيير اسمها ومسارها وخطابها السياسي، وهو ما حصل في يوليو/ تموز 2016، مع إعلان زعيمها أبو محمد الجولاني فكّ ارتباطها بتنظيم "القاعدة" وتغيير اسمها إلى "جبهة فتح الشام". ولاحقاً أعلنت "جبهة فتح الشام" عن حل نفسها في يناير/ كانون الثاني 2017، وحل حركات عدة ودمجها تحت اسم "هيئة تحرير الشام".

وخلال السنوات الثلاث الماضية بعد توقف العمليات العسكرية، عقب الهجوم الأخير للنظام السوري، بدعم كل من روسيا وإيران على منطقة خفض التصعيد (إدلب ومحيطها)، والتوصل لوقف إطلاق النار في مارس/ آذار 2020، أقصت "تحرير الشام" الكثير من المنافسين العسكريين لها في المنطقة، وسيطرت على الموارد الاقتصادية فيها، وتوجهت لاستخدام القبضة الأمنية في إقصاء أي أصوات معارضة لها.

المساهمون