شهر غيّر فلسطين

21 مايو 2021
يفرض كفاح الفلسطينيين ومؤيديهم تغيرات كثيرة (أحمد غرابلي/فرانس برس)
+ الخط -

أيا تكن نتائج العدوان على غزة، فثمة حقيقة تتشكل في مأزق تبييض الغسيل القذر للفاشية الصهيونية. ولعل براعة بنيامين نتنياهو المسرحية، منذ ظهوره بكمامة الغاز في 1991 كمتحدث حكومي مع سقوط صواريخ "سكود" عراقية على تل أبيب، لن تجدي كثيراً أمام انكشاف الوجه الحقيقي لنتائج تأسيس جماعات التطرف اليهودية، والتي غذيت بأساطير الأولين في المذابح والتطهير العرقي على أرض فلسطين.
صحيح نحن لسنا في ثلاثينيات وأربعينيات التطهير والنكبة، وهو بالتالي ما يخيف السياسة الرسمية، مع تقلص قدرتها على تبييض الفاشية تحت صورة مخادعة عن "حداثة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة"، وكأنه بذلك يجب الصمت على رعايتها لموبقات الاستعلاء الديني تحت لافتة "الموت للعرب"، لانتزاع بيوتهم في الشيخ جراح وتهويد القدس، وكل الأرض، بقوة البطش والعربدة بالسلاح وتخيير الناس بين تطرف وتطرف.
الواقع الناشئ لنظام "الأبرتهايد" في فلسطين يفوق في مخاطره ذلك العرقي الذي مورس في الجنوب الأفريقي سابقاً. فعلى أرض فلسطين يحدد نظام الفصل العنصري بقراءة دينية تلمودية، أفزعت لسنوات ساسة ومفكرين هجروا المشروع الصهيوني. التعامل مع الفلسطيني في الداخل، ومؤخراً استخدام طلاء لتعليم بيوت العرب على طريقة النازية، حذر منه مبكراً الكاتب الأميركي-اليهودي بيتر بينارت. ففي مجلة "تيارات يهودية" العام الماضي اعتبر أن المأزق يستدعي "إعادة تقييم مؤلمة للأساطير حول ماضي إسرائيل والصهيونية".
الحقيقة المرة، والتي قد لا تروق للمطبعين وغيرهم، أن صواريخ غزة ليست المسؤولة عن تمظهر فاشية عصابات التطرف الديني اليهودي، والتصويت لليمين المتطرف. هذا إذا سلمنا أصلاً بوجود ما يسمى "يساراً صهيونياً". وإذا كان ساسة، عرباً وغربيين، لم يقتربوا من قراءة معاني استهداف عرب الداخل باعتبارهم مجرد "بقايا"، منذ النكبة، مروراً برعاية الأحزاب الصهيونية لنشر المستعمرات فوق الأرض الفلسطينية المنهوبة، وبالأخص تحت شعار "الذبح والموت للعرب"، رغم أنه قد يجعلهم يقفزون من مكانهم لو كان الشعار بالمقلوب، وبلغة عربية، فإن صدمة المؤرخ في الجامعة العبرية درور فاهيرمان، قبل أيام على صفحات "فرانكفورتر ألغماينه" الألمانية، تختزل فداحة الطبطبة على الممارسات الممتدة من القدس إلى اللد فحيفا ويافا والجليل، وخشيته على ما سماه "حرب أهلية".
واقع الحال، كيفما قُلب، يعيد الرواية الفلسطينية إلى جذورها، مع توحد الحال على أرض فلسطين التاريخية. وذلك يدفع كثيرين نحو تشاؤم بمستقبل دولة الاحتلال. فالتحول الواضح لـ"الأبرتهايد" لن يحمل أبداً أخباراً سارة لمن تجنبوا حل القضية الفلسطينية. وإذا كانت الجرأة لم تطاول "عرب التطبيع" لفهم عمق ما يجري على أرض فلسطين، رغم تجاوز أجيال عربية شابة لكل الشعارات الخشبية للأنظمة والأحزاب التقليدية في "التنديد" و"الشجب"، فثمة يهود أوروبيون وأميركيون فهموا معنى أن الفلسطيني غير مستعد لإدارة خده الأيسر، لا للعربدة الاستيطانية ولا للقتل والدمار باسم "حق الدفاع عن النفس".
ولا حاجة أصلاً لمساجلة الفلسطيني لتملق قادة اليمين المتطرف في أوروبا، المتهم بالمناسبة قبل سنوات بأنه "معادٍ للسامية"، لنتنياهو شخصياً، أو ازدواجية معايير الغرب في فهم أن للاحتلال "حق" دفاع عن النفس، فيما الشعب المحتل مطلوب منه الرضوخ والخنوع، بعد 53 سنة على احتلال أراضي 1967، ومرور 73 سنة على حرب معلنة في استهداف وجود أصحاب الأرض الأصليين.
ولعل ناتج إدراك البعض للوقائع، بمن فيهم مؤيدون سابقون للصهيونية في الغرب، يؤمنون اليوم بتقلص حظوظ "حل الدولتين"، سيضطر كثيرون لمواجهة الحقيقة العارية، عن أن "إسرائيل ليست العجل المقدس"، الممنوع ملاحقتها قانونياً أو فرض عقوبات عليها. فتغيرات كثيرة يفرضها كفاح الفلسطينيين، ومؤيديهم، كثمرة واضحة حين تمارس حركة تحررهم الوطني دورها في تدفيع الاحتلال الثمن، بدل استمراره كأسهل احتلال يفرض نظام فصل عنصريا يطاول 7 ملايين إنسان.
الخوف من انتقاد الصهيونية ومشروعها، تحت طائلة الاتهام بـ"معاداة السامية"، أمام انكشاف حقيقة العنصرية والدموية المستندة إلى نظريات تفوّق واستعلاء، لم يعد مجدياً، حتى لو استخدم نتنياهو كل أكاذيبه وأكاذيب المؤسسات الصهيونية للظهور كضحية، ولا استدعاء كرت "الهولوكوست"، كمتلازمة تبيح حالة الإنكار، المولدة في أحد جوانبها جنوحا متواصلا نحو التطرف السياسي منذ قُتل إسحاق رابين في 1996.
أوروبا والغرب عموماً مضطرون لمواجهة خطايا 73 سنة من الصك على بياض للإمعان في التطهير العرقي والإحلال، ولو باستدعاء مهاجرين من روسيا ومولدافيا غير يهود، ثم الادعاء بأن إسرائيل "دولة يهودية" (بقانون القومية العنصري). اختزل الكاتب اليهودي إتغار كيريتس، في صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية قبل أيام، الدورة الصهيونية المعتادة: "سنقصف المزيد من المباني في غزة لنجعل الثمن الذي يدفعه أعداؤنا أعلى. سنمتنع عن إحصاء الضحايا، بمن في ذلك الأطفال، والتي بدورها صور ستصدم العالم، ثم نتهم الجمهور العالمي بالنفاق وازدواجية المعايير تجاه اليهود، وستفتح المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي تحقيقاً، وسوف نسميها معادية للسامية، وبعد ذلك نعود لممارسة الطقوس مرة أخرى، ونبدأ من جديد".