شراكة أوروبية أطلسية تلزّم أمن أوروبا لـ"الناتو"

16 يناير 2023
ستولتنبرغ وميشال إثر توقيع الاتفاق في بروكسل (دورسون أيديمير/الأناضول)
+ الخط -

العاشر من شهر يناير/كانون الثاني الحالي سيدخل التاريخ، بوصفه اليوم الذي وقّع فيه حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي الإعلان المشترك الثالث بين الطرفين، وهو كناية عن اتفاقية تهدف إلى مواجهة روسيا والصين، وفق ما ورد في نصوصها.
ومن وجهة نظر الأطلسي، يهدف الإعلان المشترك إلى زيادة تمتين وتوسيع الشراكة الاستراتيجية بين الحلف والاتحاد الأوروبي، وتعزيز القدرات العسكرية الأوروبية، بما هو مفيد لأمن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي.

وبناء على ذلك، ستغدو الشراكة أكثر أهمية بمجرد أن تصبح فنلندا والسويد عضوين كاملين في الحلف، متى ما توفرت الظروف لذلك وتم التوصل إلى تفاهم مع تركيا يدفعها للمواقفة على انضمامهما. وقال الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ إنه بانضمام هاتين الدولتين "سيحمي الناتو 96 في المائة من المواطنين في الاتحاد الأوروبي". واعتبر أن القدرة الدفاعية الأوروبية "تساهم بشكل إيجابي في أمننا، وهي مكمل لحلف شمال الأطلسي".

الشراكة الأوروبية الأطلسية بين التناغم والشكوك

وظهر التناغم قوياً بين الأطلسي والاتحاد الأوروبي، حينما أكد ستولتنبرغ أهمية التعاون بينهما في سياق البيئة الأمنية المتغيرة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. وبادله نفس الموقف رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، الذي أشاد بمستوى العلاقات الحالية بين الحلف والتكتل الأوروبي، وقال: "نحن أقرب في علاقتنا مع الناتو من أي وقت مضى، ونتشارك الأهداف نفسها".

ستغدو الشراكة أكثر أهمية بمجرد أن تصبح فنلندا والسويد عضوين كاملين في حلف "الناتو"

بحسب الاتحاد الأوروبي، فإنّ الطرفين "يريدان تعزيز التعاون بينهما، ليكونا أكثر استعداداً للمرحلة المقبلة"، ما يشكل تقدماً كبيراً على مستوى السياسة الدفاعية المشتركة للمرة الأولى، وخصوصاً مواصلة دعم أوكرانيا في مواجهة الحرب الروسية.

يعد هذا الاتفاق بين الأطلسي والاتحاد الأوروبي، اللذين يتشاركان أغلبية الأعضاء ونفس القيم والأهداف والتحديات، الثالث من حيث الأهمية بعد اتفاقين سابقين: الأول في عام 2016 لتعزيز التعاون في ضوء التحديات المشتركة في الشرق والجنوب، وشمل 74 مجالاً، والثاني في 2018، حيث اتفق الطرفان على التركيز على التقدم السريع في مجالات النقل العسكري ومكافحة الإرهاب وتعزيز القدرة على الصمود أمام المخاطر الكيميائية، البيولوجية، الإشعاعية، والنووية.

ويركز الاتفاق الجديد على تطوير القدرات الدفاعية الأوروبية، مع ضمان التماسك والتكامل وتجنب الازدواجية غير الضرورية، ما يشكل المفتاح في الجهود المشتركة لجعل المنطقة الأوروبية الأطلسية أكثر أماناً، ويساهم في تقاسم الأعباء عبر المحيط الأطلسي.

كانت الشراكة الأطلسية الأوروبية، حتى حرب روسيا على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، تتأرجح بين هبّة ساخنة وأخرى باردة، وتعاني من التعثر أكثر مما تحقق من تقدم على أرض الواقع، وهناك محطتان مهمتان تعبران عن مفارقات صارخة.

المحطة الأولى تتمثل في الانسحاب الأميركي المفاجئ من أفغانستان في نهاية أغسطس/آب 2021، والذي جرى على نحو أحادي مفاجئ من دون ترتيبات أو تنسيق مع الشركاء الآخرين في الأطلسي، الذين شاركوا بقوة في الحرب الأفغانية. وأدى ذلك إلى فوضى جامحة استفادت منها حركة "طالبان"، التي سيطرت على الحكم، وتبددت كل الإنجازات التي بناها الطرفان طيلة عقدين من الوجود هناك.

المحطة الثانية هي إعلان الشراكة الثلاثية بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في سبتمبر/أيلول 2021، والتي حصلت أستراليا بموجبها على غواصات أميركية تعمل بالطاقة النووية (صفقة أوكوس) وفسخ عقد صفقة بقيمة 65 مليار دولار مع المجموعة البحرية الفرنسية "نافال غروب" لبناء أسطول من الغواصات التقليدية.

وقد أثار ذلك الإعلان رد فعل غاضباً من قبل فرنسا، ليس فقط بسبب الطعنة التي تعرضت لها من الحلفاء، وإنما لكون التحالف الثلاثي العسكري بين الأطراف الثلاثة، حصل خارج حلف شمال الأطلسي، وبعيداً عن التعاون العسكري الفرنسي مع الولايات المتحدة وأستراليا في منطقة المحيط الهادئ، التي تمتلك فرنسا حضوراً تاريخياً فيها. 

تحولات الحرب الروسية

في ظل هذا التوتر، كانت روسيا تستنفر جيوشها لاجتياح أوكرانيا، وحينما فشلت كل محاولات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز في إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحل دبلوماسي، تغير اتجاه الرياح في أوروبا، واتجهت الأنظار نحو الولايات المتحدة، كما يحصل عادة في أزمات دولية كبرى.

وعندما بدأت الدبابات الروسية باجتياز الحدود الأوكرانية، وصارت الصواريخ تتساقط فوق العاصمة كييف، لم يكن أمام أوروبا وأميركا من حلّ سوى استدعاء الحلف الأطلسي إلى الميدان، بوصفه القوة الوحيدة الجاهزة للتحرك بسرعة من أجل توحيد الصفوف في وجه روسيا.

أصبحت روسيا هي العدو المباشر للأطلسي، الذي بدأ الحشد بسرعة تحسباً من توسيع روسيا اجتياحها نحو دول البلطيق. وسارعت الدول الكبرى، التي تشكل عماد الحلف، إلى إرسال أعداد كبيرة من القوات إلى الدول المحيطة بأوكرانيا، مثل بولونيا ورومانيا ودول البلطيق. وخلال مدة وجيزة، بات للولايات المتحدة وحدها قرابة 100 ألف جندي، يتوزعون بين القواعد الأميركية في ألمانيا وبولونيا ورومانيا ودول البلطيق.

يقوم الأطلسي بدور أساسي في صدّ الحرب الروسية على أوكرانيا، من خلال تقديم معلومات عسكرية مهمة عن تحركات الجيوش الروسية، وإسناد الجيش الأوكراني بالسلاح والذخيرة، وتدريب قوات أوكرانية على الأسلحة الحديثة في معسكرات داخل بولونيا وخارجها. وقام بتخريج عدة آلاف من المتخصصين في الحرب الحديثة وزجّهم في الميدان.

تتعامل روسيا مع الحرب على أساس أنها تجري بينها وبين حلف شمال الأطلسي، وهذا أمر غير بعيد عن الواقع إلى حد ما. ورغم أن الأطلسي لم ينخرط بصورة مباشرة في القتال، ولم يرسل قوات إلى داخل الأراضي الأوكرانية، فإنه لم يستبعد هذا الاحتمال منذ بداية الحرب، ولم يقم بذلك إلى حد الآن، لأنه لا يرى أن اللحظة المناسبة قد حانت، ولن يتأخر عن ذلك حين يجد أن موازين القوى مالت لصالح روسيا.

الاتفاق الجديد بين حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي يؤكد أن هناك نقلة نوعية للحرب، ولهذا سارع الطرفان إلى إجراء من هذا القبيل، يحتمل هدفين: الأول هو إسناد أوكرانيا لإلحاق الهزيمة بروسيا، والثاني فرض الحصار على روسيا، وإجبارها على قبول الهزيمة.

الاتفاق بين الأطلسي والاتحاد الأوروبي يؤكد أن هناك نقلة نوعية للحرب في أوكرانيا

خسارة الجيش الروسي للحرب ستقود إلى ترتيبات عسكرية جديدة لتطويق روسيا، وهذه أحد أهداف الاتفاق الجديد. ومن المعروف أن الأطلسي يطمح إلى ذلك منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وكان مشروع "الدرع الصاروخي" الذي بدأه الأطلسي من رومانيا هو المقدمة، ولذلك قاومته روسيا.

وكانت زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى الولايات المتحدة في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي هي بداية التحول الذي من المرتقب أن تعرفه الحرب قريباً، وما إعلان الولايات المتحدة عن تمويل لأوكرانيا بمقدار 45 مليار دولار، وتزويدها بنوعيات مختلفة من الأسلحة، إلا الترجمة الفعلية للتحول.

السؤال المهم هنا هو حول الدور الأوروبي في الانعطاف الجديد للحرب، والذي بدا أن دول أوروبا باتت جاهزة له. وبعدما أعلنت واشنطن تزويد أوكرانيا بمدرعات "برادلي"، قررت فرنسا تقديم مركبات قتالية مدرعة خفيفة من طراز "إيه إم إكس-10 آر سي" (AMX-10 RC). بدورها، أعلنت ألمانيا عن تزويد الجيش الأوكراني بناقلات الجنود المصفحة من طراز "ماردر"، وبريطانيا مدرعات من طراز "تشالنجر"، وبولندا قررت إرسال دبابات "ليوبارد".

ومع اقتراب الحرب الروسية على أوكرانيا من الذكرى السنوية لاندلاعها، تنعقد قمة أوروبية الشهر المقبل، من أجل البحث في تعزيز الدعم العسكري والسياسي لأوكرانيا، وسيزور العاصمة كييف عدد من قادة الاتحاد الأوروبي للتعبير عن التضامن الأوروبي مع أوكرانيا.

وبالنظر إلى اعتبارات عدة، سيتم توكيل الدفاع عن أوروبا إلى الأطلسي. الاعتبار الأول هو عدم وجود قوة عسكرية أوروبية موحدة قادرة على تولي مهمة الدفاع عن القارة، وما هو موجود عبارة عن فيلق يتكون في غالبيته من فرنسيين وألمان، ولا يتجاوز عديده آلافاً عدة. ورغم أن هذا الفيلق مسلح على نحو جّيد، فإنه ليس في وضع يمكنه من خوض حرب واسعة.

والاعتبار الثاني هو عدم وجود جيوش أوروبية كلاسيكية قوية في معظم بلدان القارة باستثناء فرنسا وبريطانيا. فبقية الدول ليست لديها جيوش كبيرة، ولم تأخذ في حسابها أنها يمكن أن تتعرض لامتحان من هذا القبيل، وتجد نفسها في وضعية يتحتم عليها الدفاع فيها عن نفسها.

وحتى الدول الكبرى غيّرت من استراتيجياتها في العقدين الأخيرين، وصارت تعتمد على جيوش صغيرة العدد ميكانيكية الحركة، ولذلك سرّحت أعداداً كبيرة من الجنود المتطوعين، وألغت الخدمة العسكرية الإجبارية، ولكنها في حالتي فرنسا وبريطانيا تحتفظ بالردع النووي، بخلاف ألمانيا.

والاعتبار الثالث هو ضيق الوقت من أجل بناء جيش مستقل يتولى الدفاع عن الحدود، عدا عن أن هذه المسألة غير ممكنة من الناحية العملية، التي تتمثل في عضوية هذه الدول في تكتلين كبيرين، الأطلسي والاتحاد الأوروبي.

تتصرف الولايات المتحدة وأوروبا من وحي دروس الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي يبدو أنها ستعيد النظر بالكثير من المفاهيم والقناعات والاستراتيجيات التي تشكلت بعد نهاية الحرب الباردة، وخصوصاً أمن أوروبا.

أول مسألة في هذا السياق هي أن خطر التهديد العسكري الروسي، الذي لم يكن وارداً في السابق، بات حقيقة، وصارت قضية التعاون بين روسيا والأطلسي مجرد وهم، وسيقوم المستقبل على صراع قوة وتنافس وردع متبادل.

والمسألة الثانية، اختيار أوروبا معسكرها بين الولايات المتحدة وروسيا، وهذا يفتح الأبواب واسعة أمام أميركا لتعود عسكرياً إلى القارة بثقل كبير، ربما يشبه حضورها بعد الحرب العالمية الثانية، فهزيمة النازية لم تحل دون بقاء القوات العسكرية الأميركية في أوروبا على نحو كثيف.

المساهمون