سياسة موسكو الخارجية: "العالم الروسي" لتبرير التدخّلات "الخشنة"

08 سبتمبر 2022
لا تستبعد العقيدة الروسية الجديدة استخدام القوة العسكرية (Getty)
+ الخط -

في خضم الحرب الروسية على أوكرانيا، أقر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الإثنين الماضي، "مفهوم السياسة الإنسانية الخارجية لروسيا"، والتي تبرر دعم المواطنين الروس في الخارج، بما يزيد المخاوف من تدخّلات إضافية لموسكو في دول أوروبية مجاورة لها.

وبعد أكثر من ثلاثة عقود على انهيار الشيوعية بصفتها الأيديولوجية الجامعة للاتحاد السوفييتي، والتي جعلت موسكو لسنين طويلة قبلة للشيوعيين واليساريين في العالم، يبدو أن الكرملين وجد ضالته في الترويج لأيديولوجية جديدة، وحمل لواء المحافظة على القيم التقليدية في مواجهة محاولات فرض الأفكار النيوليبرالية "الغربية" على المجتمعات.


تشدد العقيدة الجديدة على الأهمية الكبيرة لأنشطة البعثات الدبلوماسية الروسية في الخارج

ومع تحديد عقيدة السياسة الإنسانية الخارجية "العالم الروسي" وقيمه أساساً لنظام عالمي جديد، من غير المستبعد أن يوظف الكرملين قضايا حماية الثقافة الروسية والمواطنين الروس لتبرير تدخّلات خارجية بأشكال مختلفة، لا تستبعد الخيارات العسكرية، كما جرى في أوكرانيا، في إطار سعي الكرملين لرسم مناطق نفوذ خالصة في حدود الاتحاد السوفييتي السابق، وتحويل مناطق واسعة من العالم ساحة لحروب "إنسانية" أو "غير إنسانية" للمحافظة على المصالح الوطنية الروسية.

تبرير التدخّلات الخارجية

وبعد توقيع بوتين على مرسوم السياسة، نشر موقع الكرملين الوثيقة التي تحدد الاتجاهات الأساسية لهذه السياسة. وتعد الوثيقة الجديدة جزءاً لا يتجزأ من السياسة الخارجية لروسيا، ويشارك مجلسا الدوما (البرلمان) والاتحاد (الشيوخ) الروسيان في تنفيذ التوجهات، عبر الدعم التشريعي وإنجاز "مهمات الدبلوماسية البرلمانية". كما يجب على الحكومة، حسب الوثيقة، إقرار تدابير لتنفيذ المفهوم.

وتشدد العقيدة الجديدة أيضاً على الأهمية الكبيرة لأنشطة البعثات الدبلوماسية الروسية في الخارج، من أجل "خلق تصور موضوعي للبلد في الخارج"، ضمن "نهج متكامل لتوفير المعلومات حول جميع الأحداث المهمة التي تجري داخل البلد والأحداث الدولية ومشاركتها".

وعلى الرغم من تزامن نشر العقيدة الجديدة مع مرور نحو مائتي يوم على بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن أحد مبادئها الأساسية هو "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى". 

ومع إشارتها إلى الدور المهم للجاليات الروسية في الخارج في نشر القيم الروسية، وبناء جسور للتواصل من أجل بناء عالم متعدد الأقطاب تنتفي فيه أشكال التمييز وينتشر فيه السلام، فإن الوثيقة تلمّح إلى إمكانية التدخّل لحماية عشرات الملايين من ذوي الأصول الروسية في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، في حال عدم احترام حقوق السكان الناطقين بالروسية.

كما أنها تنطلق من أولوية التعاون مع كيانات انفصالية عن أوكرانيا وجورجيا، لتنفيذ العقيدة السياسية الخارجية الإنسانية، ما يشي بأن الكرملين يسعى إلى تكريس التعاون مع الكيانات الانفصالية من أجل "حماية العالم الروسي" بكل السبل المتاحة.

وجاءت "السياسة الإنسانية الخارجية لروسيا"، في 31 صفحة، وتضمّنت ستة أقسام. يغطي القسم الأول الأحكام العامة، فيما خصص الثاني لشرح المصالح الوطنية الروسية في المجال الإنساني في الخارج وأهداف هذه السياسة ومبادئها.

ويتوسع القسم الثالث في سرد المجالات الأساسية لهذه العقيدة، ومن ضمنها تشكيل تصور موضوعي عن روسيا في العالم، باستخدام اللغة الروسية والثقافة والجاليات، وتعزيز القيم الروحية التقليدية. ويرسم القسم الرابع صيغ التعاون الإنساني لروسيا وأشكاله ضمن أطر ثنائية ومتعددة الأطراف. وكُرس القسم الخامس لموضوع حوار الثقافات والأديان، فيما يحدد القسم الأخير بعض الآليات لتنفيذ السياسة الإنسانية الروسية في الخارج.

روسيا قلعة الدفاع عن القيم التقليدية

تنطلق الوثيقة الجديدة من أنه "يُنظر إلى الدولة الروسية في الخارج بشكل متزايد على أنها الوصية والحامية للقيم الروحية والأخلاقية التقليدية، والتراث الروحي للحضارة العالمية (أولوية القيم الروحانية على المادية، وحماية حقوق الإنسان والحريات، والأسرة، ومعايير الأخلاق والأخلاق، والإنسانية، والرحمة)".

وتشدد الوثيقة إلى أنه "من المهم تقديم معلومات موثوقة بانتظام حول ما يعيشه المجتمع الروسي، وما يفخر به، وما هي القيم التي يدافع عنها لأوسع جمهور خارجي ممكن"، في ظل "الطلب المتزايد في العالم على القيم التقليدية، والقيم العائلية في المقام الأول، بسبب الفرض العدواني لوجهات النظر النيوليبرالية من قبل عدد من الدول".


تنطلق الوثيقة من أولوية التعاون مع كيانات انفصالية عن أوكرانيا وجورجيا لتنفيذ العقيدة السياسية الخارجية الإنسانية

وتؤكد الوثيقة أن المصالح الوطنية لروسيا في المجال الإنساني تتضمن "حماية القيم الروحية والأخلاقية التقليدية، ونشر التراث التاريخي والثقافي وإنجازات شعب البلاد، والإثراء المتبادل مع ثقافات شعوب الدول الأخرى".

وتشدد على ضرورة "تطوير التعاون الإنساني الدولي على أساس عادل ومتبادل ومفتوح من دون تمييز". وتؤكد الرغبة في شراكة متكافئة مع الدول الأخرى، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والاستعداد لمراعاة مصالح مختلف اللاعبين العالميين.

ومع إشارة العقيدة إلى أن "السياسة الإنسانية لروسيا في الخارج جزء لا يتجزأ من السياسة الخارجية للبلاد"، فإن معدّيها يشددون على أن "الثقافة تلعب دوراً خاصاً في المجال الإنساني كأداة فعالة لتهدئة التناقضات بين الدول وتشكيل أجندة دولية موحدة".

وترى الوثيقة أن هناك آفاقاً واسعة لإمكانيات الدبلوماسية الإنسانية لتخفيف التوتر في العلاقات مع اليابان. وتشير إلى الأهمية الخاصة لتطور التعاون الإنساني الجيد تاريخياً مع الصين. كما تشدد على ضرورة "مواصلة العمل الحثيث للارتقاء بالتعاون مع الهند إلى مستوى جديد".

وتؤكد الوثيقة ضرورة زيادة التعاون في مجالات الثقافة والتعليم العالي والرياضة مع بلدان آسيا والمحيط الهادئ. وتفرد مساحة لأهمية زيادة مستوى التعاون الإنساني مع بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية وتعزيز الوجود الثقافي لروسيا في هذه المناطق. وتنطلق من أن "التبادلات الثقافية والتعليمية تحتل مكانة مهمة في تطوير العلاقات مع دول هذه المناطق، وتوسيع ممارسة تدريب المتخصصين الأجانب وفق المعايير التعليمية الروسية.

وفي توسيع لدائرة التعاون مقارنة بالحقبة السوفييتية، تنص الوثيقة على "الأهمية الخاصة لتطوير التعاون الإنساني الثنائي مع الجزائر ومصر وإسرائيل والأردن والعراق ولبنان وليبيا والإمارات والسعودية وسورية وإيران وأفغانستان ودولة فلسطين". وتلفت إلى أن "هناك فرصاً كثيرة لتطوير التعاون الإنساني الثنائي مع الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا وكوبا والمكسيك ونيكاراغوا وباراغواي وأوروغواي وتشيلي".

واللافت أن العقيدة الإنسانية الخارجية لروسيا لم تأت على ذكر الولايات المتحدة بالمطلق. وفي المقابل تنطلق من أنه يجب على روسيا توسيع وجودها الثقافي في الدول الأوروبية إذا كانت دول المنطقة مستعدة لذلك، وأنه "من الضروري الحفاظ على تعاون إنساني ثنائي متوازن ومفيد للطرفين مع دول أوروبا الغربية، وكذلك تعزيز التوسع الروسي والحضور الثقافي في مناطق وسط وشرق أوروبا".

وتؤكد الوثيقة أن موسكو تعتزم "استخدام إمكانات الشتات الروسي الكبير لنشر الثقافة الروسية، والعلوم، والتعليم، والرياضة، والسياحة في الخارج، وكذلك لتكوين فكرة موضوعية عن تاريخ وحياة روسيا الحديثة".

ومع تشديد الوثيقة على أن "الوضع السياسي والاقتصادي الناشئ في هذه الدولة أو تلك يجب ألا يؤثر على تطور العلاقات في المجال الإنساني"، فإنها تنطلق من أن "حجم وأشكال التعاون الإنساني الثنائي مع الدول المختلفة يعتمدان على التاريخ والتقاليد والعوامل الجغرافية ومستوى العلاقات الثنائية، وحالة الإطار القانوني والقدرات المادية والمالية، ومدى اهتمام المشاركين في مثل هذا التعاون".

العالم الروسي و"الرابطة السلافية"

وتؤكد الوثيقة أن الأولوية للسياسة الإنسانية لروسيا في الخارج هي توسيع التعاون مع بلدان رابطة الدول المستقلة التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، وجمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليتين عن جورجيا، وغير المعترف بهما إلا من قبل سورية وفنزويلا وكوريا الشمالية، وجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين عن أوكرانيا. ويجب الإشارة إلى أن جميع بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، ومن ضمنها بيلاروسيا، أوثق حلفاء بوتين، لم تعترف بهذه الجمهوريات.

وفي إشارة مبطنة إلى إمكانية التدخل بأساليب "خشنة" بعيداً عن "القوة الناعمة"، تؤكد الوثيقة أنه "عند التعامل مع لاتفيا وليتوانيا وإستونيا وجورجيا ومولدوفا، سيتم مراعاة حقوق السكان الناطقين بالروسية في هذه الدول".

وتنطلق الوثيقة من ضرورة "إيلاء اهتمام خاص لتنمية التعاون الإنساني الثنائي مع البلدان السلافية، مع مراعاة تقاليدنا الثقافية والتاريخية المشتركة. ومن المستحسن تعزيز التعاون في إطار المنظمات العامة، ولا سيما منتدى الثقافات السلافية بكل الطرق الممكنة".

يُذكر أن الدول السلافية هي أساساً أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا، إضافة إلى الدول التي نشأت بعد تفتت يوغوسلافيا، باستثناء البوسنة والهرسك وكوسوفو، وكذلك سلوفينيا. وتجمع هذه الدول مع روسيا الأصول العرقية السلافية والأرثوذكسية.

وتنص الوثيقة على أنه يجب أن تقدّم روسيا "الدعم للمواطنين الذين يعيشون في الخارج من أجل ممارسة حقوقهم، وضمان حماية مصالحهم والحفاظ على الهوية الثقافية الروسية بالكامل".

لم تأت العقيدة الإنسانية الخارجية لروسيا على ذكر الولايات المتحدة بالمطلق
 

وترى أن عشرات الملايين من المواطنين الروس يعيشون في العالم، ويشكلون واحدة من أكبر جاليات الشتات من حيث العدد. وتطالب الوثيقة بدعم "المواطنين الروس الذين يعيشون في الخارج، من خلال تضمينهم في نظام قيم مختلف، لكنهم يظلون حاملين ليس فقط للغة الروسية، والثقافة والتقاليد الروسية، بل للغات وثقافات وتقاليد شعوب روسيا".

وتخلص إلى أنه "بفضل إقامة علاقات قوية مع مواطنيها في جميع أنحاء العالم، وتزويدهم بالدعم والمساعدة في الحفاظ على لغتهم وثقافتهم الأم، تعمل روسيا على تعزيز صورتها كدولة ديمقراطية على الساحة الدولية، وتسعى جاهدة لتشكيل عالم متعدد الأقطاب والحفاظ على ثقافته والتنوع الحضاري".

وعلى الرغم من أن الهدف المعلن من دعم المواطنين الروس في الخارج هو تحسين صورة روسيا العالمية وتعزيز التنوع الثقافي، فإن تقديم الدعم المباشر لمواطنين في دول أجنبية يمكن أن ينظر إليه على أنه محاولات لزعزعة الأوضاع الداخلية في أوروبا، واستخدام الناطقين بالروسية كأداة سياسية بيد الكرملين لتفتيت المجتمعات.

وتشدد وثيقة السياسة الإنسانية الجديدة على أنه "عند محاولة تشويه سمعة العالم الروسي وتقاليده ومثله، من الضروري الترويج للثقافة الروسية باعتبارها أداة فعالة لتخفيف التناقضات بين الدول".

وتنطلق من أن الثقافة الروسية تعدّ أداة للقوة الناعمة، وتساعد على تقوية المكانة الدولية للبلاد و"تحييد المشاعر المعادية لروسيا ذات الأصل السياسي والأيديولوجي". إضافة إلى "تكوين تصور موضوعي عن روسيا كدولة صديقة وديمقراطية، ومنفتحة على التفاعل مع ثقافات الشعوب الأخرى".

وعلى الرغم من تزامنها مع تشديد القيود على الصحافة، وتشويه سمعة معارضي الحرب على أوكرانيا وتصويرهم على أنهم "طابور خامس" يعمل لمصلحة الغرب، فإن إحدى المهمات الأساسية للسياسة الإنسانية، حسب الوثيقة، تكمن في "تكوين فكرة عن روسيا كدولة تتطور فيها الحياة الاجتماعية والثقافية ديناميكياً في ظل ظروف حرية الإبداع الأدبي والفني وتعددية الآراء، وعدم وجود قيود رقابية".

وبعيداً عن التساؤلات المشروعة حول توافق الأفعال الروسية مع الأقوال في مواضيع التعاون الدولي وعدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى، فإن عرض العقيدة الجديدة وتغليفها بطابع إنساني لن يكون كفيلاً بتحسين صورة روسيا عالمياً بعد الحرب على أوكرانيا، وربما يزيد من مشاعر الكراهية للروس، ويؤجج مخاوف بلدان تعيش فيها جاليات روسية كبيرة، مثل بلدان البلطيق وكازاخستان ومولدافيا.

وبغض النظر عن صحة النظرية الشيوعية والأفكار "النيوليبرالية" من عدمها، فإن دعم القيم المحافظة لا يعدّ شعاراً براقاً، والأهم أنه لا يقدّم حلولاً لمشكلات العالم المعاصر المعقدة والمتداخلة.