يسود الاعتقاد لدى كثيرين أنّه بمجرّد إقامة إسرائيل ككيان سياسي على جزء من الأراضيّ الفلسطينيّة في عام 1948، وعلى باقي الأراضيّ الفلسطينيّة في عام 1967، أنّها ستتصرف كدولة قانون ومؤسّسات، بعد أنْ ثبّتّت أقدامها على هذه المساحة الكبيرة من الأراضيّ، وأخضعت الفلسطينيّين فيها لنظامها القضائيّ والإجرائيّ، ثمّ أخضعت باقي الفلسطينيّين بعد حرب يونيو/حزيران إلى نظام عسكريّ قمعيّ. إلّا أنّ الواقع التاريخيّ عبر العقود السبعة ونيف بيَّنَ أنّ سياسات إسرائيل القمعيّة والقهريّة لم تتغيّر سوى ظاهريًا أما تطبيقًا فاتخذ مجرى مشابها.
هذا يعني أنّ الفكر المؤسِّس للكيان قد انطلق من تبنّي وتطبيق أدوات تعمل على اقتلاع الشعب الفلسطينيّ، إمّا دفعةً واحدةً؛ كما حصل لشريحةٍ واسعةٍ من الفلسطينيّين في عام 1948، حين رحل 800 ألف فلسطينيّ من قراهم ومدنهم وبيوتهم وأراضيهم وممتلكاتهم، ودفع بهم إلى خارج حدود إسرائيل باتجاه لبنان وسورية والأردن، أو باتجاه الضفة الغربية، الّتي ضُمَّت إلى التاج الهاشمي الأردني في 1950، وإلى قطاع غزّة الّذي أُخضِعَ لإدارة عسكريّة مصريّة، أو عبر ترحيلٍ تدريجيٍّ، على دفعاتٍ متباعدةٍ زمنياً ومكانياً، منعاً لوقوع معارضةٍ واحتجاجٍ وغير ذلك.
تظهر الدراسات العديدة الّتي أجريت عبر السنين أنّ التطهير العرقيّ في فلسطين لم يكن وليد ساعته، أيّ أنّه لم يطفُ على السّطح لأسباب ميدانيّة أثناء تنفيذ العصابات الصّهيونيّة؛ ثمّ الجيش الاسرائيليّ، عملياتها ضد الفلسطينيّين في عام 1948، إنّما هو وليد خلفياتٍ فكريّةٍ تاريخيّةٍ، انطلقت من أفواه وأقلام آباء الصّهيونيّة، وواضعيّ قواعدها الأيديولوجيّة، سواء في نهايات القرن التاسع عشر أو في بداياته. وتطور هذا الفكر خلال فترة الانتداب البريطانيّ، إذ وجدَ مفكّرو وقياديّو الحركة الصّهيونيّة دعمًا ومساندةً من حكومة الانتداب لمصلحة المشروع الصهيونيّ، المتمثِّل في نهاية المطاف بإقامة الوطن القوميّ اليهوديّ في فلسطين، بناءً على ما ورد في تصريح بلفور عام 1917.
من يتتبّع أساليب إسرائيل في موضوع التطهير العرقي والتّرحيل القسري، يلحظ لجوءها إلى تبنّي أدوات القوّة والقمع والتّرهيب على مدى عقودٍ عديدةٍ
يوسف فايتس؛ من بين الشخصيات الصّهيونيّة البارزة الّتي طرحت فكرة "ترانسفير" الفلسطينيّين، استناداً إلى إحدى توصيّات لجنة بيل البريطانيّة (اللجنة الملكية البريطانيّة)، بتبني اسلوب "التبادل السّكّانيّ". وقدم اقتراحه للقيادة الصّهيونيّة بجعل الترانسفير (التّرحيل) اختياريًّا، ثمّ لمّا انضمّت إلى فكرته إدارة الصندوق اليهودي (القيرن قييمت)، ممثَّلةً برئيسها يوسف نحماني، طُرِح تنفيذ فكرة الترانسفير بالقوة. وهذا ما يمكننا ملاحظته بتطور هذه الفكرة إلى درجة التطهير العرقيّ في حرب 1948، حين أصرّ فايتس وقياداتٌ أخرى، على منع عودة العرب، الّذين تركوا فلسطين على حدّ تعبيره. وهم عمليًّا خضعوا لعميات طردٍ ممنهجةٍ من قراهم ومدنهم.
طبقَ الفكر الترانسفيري؛ بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، أثناء معارك وعمليات حرب 1948، الّتي أدّت إلى النّكبة الفلسطينيّة، وبالتوازي أدّت إلى إقامة دولة إسرائيل على جزءٍ كبيرٍ من الأرض الفلسطينيّة.
بعد أنْ انتهت حرب الـ 48 بتوقيع سلسلة من اتفاقيات الهدنة بين إسرائيل والدول العربيّة المحيطة (دول الطوق)، شرعت حكومة إسرائيل في اتّباع مجموعة من أدوات التّرحيل والتطهير العرقيّ، دونما رقيبٍ أو حسيبٍ، من بينها تشريع مزيد من القوانين المُسَانِدة لسياساتها في مصادرة الأراضيّ الفلسطينيّة في الداخل، وكذلك في وضع اليد على عقارات وممتلكات الفلسطينيّين الّذين طُردوا ورُحلوا في الحرب. نتج عن هذه السياسة اقتلاع فلسطينيّين كثر من أراضيهم بذرائع قانونيّة، مثل قانون المنفعة العامة للأراضيّ، أو قانون التّسويّة، أو لعدم توفر أوراق تُثبِت حقوق الملكيّة، أو تحويل مساحات من الأراضيّ إلى مناطق عسكريّة. من جانبٍ آخر؛ تبنّت حكومات إسرائيل في العقدين الأوّلين لتأسيس إسرائيل أداة تجميع العرب البدو في منطقة الجليل، في تجمّعاتٍ سكنيّةٍ ضيقةٍ ومحدودةٍ، والاستيلاء على الأراضيّ الّتي كانوا يستعملونها قبل النّكبة.
لم تتوقف حكومات إسرائيل المتعاقبة عن ابتداع سياسات التطهير العرقيّ والتّرحيل للفلسطينيّين منذ تأسيسها، من بين الأدوات التنفيذية لهذه السياسات، تضييق الخناق على البلدات العربيّة الفلسطينيّة في الداخل الفلسطينيّ، بعدم توسيع مساحة خريطتها الهيكليّة، وقصور مقصود من وزارة الداخلية الإسرائيليّة في عدم منح تراخيص البناء، وبالتالي تزداد كثافة البناء داخل حدود البلدة الضيقة، وتتراكم الأبنية الواحد فوق الآخر. وهناك من يُضطرّوا إلى بناء بيوتهم دون ترخيص، ما يدفع القضاء الإسرائيليّ إلى إصدار أوامر الهدم إلى جانب غراماتٍ ماليّةٍ باهظةٍ. ثم ومع انتشار ظاهرة البناء غير المُرَخّص؛ للأسباب الّتي ذُكِرت، ولتراكم مديونيّة الفلسطينيّين، تُضطرّ عائلاتٌ بأكملها للانتقال إلى بيوتٍ وشققٍ سكنيّةٍ في المدن المختلطة؛ حيفا وعكا ويافا وغيرها، ذات تكلفة المعيشة الباهظة للغاية، بالإضافة إلى اضطرار هذه العائلات إلى العيش وسط بيئات جديدة لم تكن تألفها من قبل، فضلاً عن عملية سلخها عن نسيجها الاجتماعيّ الطبيعيّ والمنطقيّ.
ومن الأدوات الأخرى المستعملة في تنفيذ سياسات تهجير وترحيل الفلسطينيّين قسريًّا في الداخل؛ بالرغم من كونهم يحملون الهَوية الإسرائيليّة، تلك المشاريع الّتي تُعلن عنها الحكومات الإسرائيلية بأنّها مشاريع تطوير، وتقصد في عرضها فكرة "التطوير" السعي إلى مصادرة مساحات من الأراضيّ لهذه الغاية. لكن؛ وكما حصل عشية يوم الأرض في عام 1976، فإنّ المصادرات كانت تهدِفُ إلى ضمّ هذه الأراضيّ إلى مستوطناتٍ يهوديّةٍ، بغرض توسيعها وتحسين ظروفها الاقتصاديّة والحياتيّة، وبالتالي تتحول هذه المشاريع إلى مشاريع "تهويد المكان" والتضييق على سكّانه الأصليّين من الفلسطينيّين.
استمرارًا لهذا النموذج؛ تبنّت حكومة إسرائيل قبل سنواتٍ قليلةٍ مشروعًا يحمل اسم "برافير"، هدفه تجميع العرب البدو في النقب في تجمُّعاتٍ سكنيّةٍ مُحدّدةٍ، وتنازلهم عن مساحاتٍ شاسعةٍ من أراضيهم، وتخليهم عن الأماكن الّتي عاشوا فيها لقرونٍ طويلةٍ مضت. بمعنى آخر، إنّ سياسة إسرائيل في التعامل مع العرب البدو في النقب؛ بعدم الاعتراف بعددٍ كبيرٍ من قراهم، الّتي يعيشون فيها منذ قرونٍ؛ كما أشرنا إلى ذلك، هدَفُها تحويلهم إلى مخالفين للقانون، وجرّهم بالتالي إلى المحاكم، وفرض غراماتٍ باهظةٍ عليهم، بالإضافة إلى هدم السلطات الإسرائيلية عشرات البيوت الّتي يسكنها العرب البدو، كما هو الحال مع قرية العراقيب، الّتي هدّمتها إسرائيل أكثر من مائتي مرّةٍ، إلّا أنّ سكّانها مُصِرُّون على العودة إلى بنائها والعيش فيها.
إنّ الهدف الإسرائيليّ من التضييق على العرب البدو في النقب جنوبيّ فلسطين، هو دفع الآلاف منهم إلى ترك المنطقة، والانتقال إلى مناطق أخرى، آلاف من العائلات العربيّة البدويّة؛ الّتي لم تكن لديها خيارات كثيرة، أو لم تحظَ بحمايّةٍ قانونيّةٍ واضحةٍ، اضّطرت إلى الانتقال للعيش في تجمُّعاتٍ بدويةٍ قائمةٍ ومعترفٍ بها من طرف حكومة إسرائيل، أو انتقل بعضهم إلى أقرب مدينةٍ عربيّةٍ مختلطةٍ، كاللد والرملة ويافا.
تظهر الدراسات العديدة الّتي أجريت عبر السنين أنّ التطهير العرقيّ في فلسطين لم يكن وليد ساعته، أيّ أنّه لم يطفُ على السّطح لأسباب ميدانيّة أثناء تنفيذ العصابات الصّهيونيّة؛ ثمّ الجيش الاسرائيليّ، عملياتها ضد الفلسطينيّين في عام 1948
يمثل سوق العمل أداةً من أدوات التّرحيل القسريّة لعائلاتٍ وأفرادٍ كثر أيضاً، خصوصًا من شريحة الشّباب، إذ هناك مجالات عمل وتوظيف مغلقة في وجه العرب الفلسطينيّين لدواع أمنيةٍ، أو لسياساتٍ رسميةٍ غير معلن عنها. فعلى سبيل المثال؛ هناك مصانع ومعامل في مناطق مختلفة في إسرائيل تُصنِّع منتجاتٍ عسكريّةٍ، في خضم صناعاتها المدنية، ترفض هذه المصانع توظيف أيّ عربيّ في أيّ وظيفةٍ أو مجالٍ. يُضطرّ المواطن العربيّ إلى البحث عن بدائل وفقًا لقدراته ومهاراته، إلّا أنّه لا يجدها في معظم الأحيان، ما يجبره؛ إما على البحث عن وظيفةٍ أو مكان عمل آخر لا يفي بقدراته، أو على ترك الوطن والهجرة معتقداً أنّ فرص العمل والحياة أفضل هناك. هذا التّرحيل بـ "الرضا" ظاهرياً، أو غير مباشر، لكنه مؤسسٌ على قواعد قهريّةٍ وقسريّةٍ غير معلن عنها رسميًّا.
من جهةٍ أخرى مرتبطة بهذا الجانب، هي رفض قبول وانتساب الطّلّاب العرب في مجالاتٍ تعليميةٍ عدّةٍ، لارتباطها بالأمن الإسرائيليّ، خصوصًا التخصصات العلمية الدقيقة، والإلكترونيّات والحواسيّب، ما يدفع الشّباب الأكاديميّ إلى البحث عن مواقع تعليميةٍ أخرى خارج الوطن، تستجيب مع تطلعاته وآفاقه الحياتيّة.
تّتمسك حكومة إسرائيل بتبنّي سياسات اقتلاع أخرى، كما هو الحال في عدد من المدن المختلطة، عن طريق وضع تخطيطٍ هندسيٍّ مستقبليٍّ لأحياء قديمةٍ؛ أغلبها أحياء عربيّة، كما في حيفا ويافا واللد وغيرها، بهدف تطبيق مشاريع "التجديد الحضري" (gentrification)، لتحسين مستوى الأحياء ونقلها إلى "عصر الحداثة"، ولكن تكاليف هذه المشاريع باهظةٌ جدًّا، أعلى من قدرة ساكنيها، فتُضطرّ عائلاتٌ كثيرةٌ لبيع منازلها ومحلّاتها لشركاتٍ استثماريةٍ كلّها يهوديّةٌ، تسيطر على المكان وتُحدِث التغيير المخطط له، ما يؤدي إلى ترحيل السّكّان وترحيل اسم المكان وتاريخه وموروثه العمراني، ونسيجه الاجتماعيّ والثقافيّ.
لم تسع حكومات إسرائيل المتعاقبة إلى تخصيص مساحةٍ من الأرض لإقامة قرىً عربيّةٍ جديدةٍ، أو لتوسيع القائم منها. بل بالعكس سعت ولا تزال إلى بناء المزيد من المستوطنات لصالح المجتمع اليهوديّ، وفقًا لكّل أسس ومعايير البناء العمرانيّ الحديث، مع الأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الحالية والمستقبلية. يترافق مع هذه المشاريع إقامة وتشكيل لجان قبول السّكّان، ومن أبرز أنظمة هذه اللجان عدم قبول من لا يناسبون التّركيبة الاجتماعيّة للمجتمع القائم في المستوطنة المُنشأة حديثًا. هذا يعني؛ رفض قبول طلبات السّكن والعيش للعرب مواطني إسرائيل، ما يضطرّ العربيّ الفلسطينيّ إلى البحث عن سكنٍ في مواقع أخرى، وهذا يعني تطهير المكان بمفهوم الحفاظ على نقاوة عرق ساكنيه. حالاتٌ كهذه توجّهت إلى القضاء الإسرائيليّ، الّذي أعلن بصريح العبارة أنّه لن يتدخل في أنماط وأشكال الحياة لمجموعةٍ تريد العيش وفقًا لتوجهاتها الحياتيّة، بكلّ ما تعنيه الكلمة.
كذلك نجد نماذج صارخة وفاضحة على كيفية استعمال أدوات التطهير العرقيّ والتهجير القسريّ في بعض أحياء القدس وضواحيها، عن طريق استصدار أوامر إخلاء لعائلات كثيرة في سلواد والشيخ جراح، باستخدام عمليات تزييف وثائق وأوراق رسمية مرتبطة بالملكية. إذ تسعى الحكومة الإسرائيليّة إلى تفريغ المناطق المحيطة بالقدس، لقطع العلاقة بين القدس ومحيطها، والحيلولة دون توفير تواصل جغرافي بين الأحياء العربيّة المحاصرة في القدس، والمناطق الفلسطينيّة القريبة، ومنها رام الله.
بالمُجمل العام، من يتتبّع أساليب إسرائيل في موضوع التطهير العرقي والتّرحيل القسري، يلحظ لجوءها إلى تبنّي أدوات القوّة والقمع والتّرهيب على مدى عقودٍ عديدةٍ؛ منذ تأسيسها، وصولاً إلى تبنّيها اليوم نفس الأساليب والأدوات إنّما بطريقة ناعمة، ونعني بها في ظل قاعدة وغطاء قانونيّ، يوفر لها مساحة العمل بحرية، تنفيذًا لسياساتها وتوجهاتها لصالح مشروعها في تحقيق المزيد من السيطرة على الأرض وجعلها يهوديّة، وتقليص مساحة الحضور العربيّ، والمشهد الحياتيّ العربيّ، ضمن السّياق الاستعماريّ الصّهيونيّ، الجاري تنفيذه على أرض الواقع في فلسطين منذ عام 1948.
التطهير العرقيّ والتّرحيل القسريّ لا يعني بالضرورة ما حدث في عام 1948 فقط، وما حدث أيضًا على مر الزمن، إنّما تطهير مساحة كبيرة من الحضور الفلسطينيّ بكل مركباته ومكوناته، لصالح مشهدٍ يهوديٍّ إسرائيليٍّ نقيٍّ تماماً، ما يثبّت الحضور التاريخيّ اليهوديّ للأرض بكونها يهوديّة، دون أثرٍ للعربيّ فيها.