استمع إلى الملخص
- **علاقات معقدة مع السوريين والحريري:** كانت علاقته بالمسؤولين السوريين قائمة على الاحترام المتبادل دون تبعية، ورفض عدة طلبات سورية، كما رفض التحالف مع رفيق الحريري في انتخابات 1996، مما أدى إلى خسارته الانتخابية.
- **نزاهة واستقامة:** تعرض لمحاولة اغتيال عام 1984، ورفض التوقيع على أحكام الإعدام، وكان معروفاً بنزاهته واستقامته المالية، مما أكسبه لقب "ضمير لبنان".
كتب رئيس الوزراء اللبناني الراحل سليم الحص ما يقارب العشرين كتاباً، دار معظمها حول مواقفه السياسية ودوره خلال الفترات المختلفة التي شارك فيها نائباً في البرلمان ووزيراً ورئيس حكومة خمس مرات، منها مرتان عندما اختاره الرئيس إلياس سركيس بين عامي 1976-1980 رئيساً للوزراء من خارج النادي التقليدي لرؤساء الوزارات نتيجة صداقتهما خلال العمل في مصرف لبنان المركزي عندما كان سركيس حاكماً للمصرف.
وكانت المرة الثالثة عند اغتيال رئيس الحكومة رشيد كرامي في 1 حزيران/ يونيو 1987، فأصبح رئيساً للحكومة بالوكالة في عهد الرئيس أمين الجميِّل، واستمر برئاسة الحكومة بعد نهاية ولاية الجميّل الرئاسية، حيث حكمت لبنان حكومتان إحداهما برئاسة الحص والثانية برئاسة العماد ميشال عون.
ترأس الحص الحكومة للمرة الرابعة بين عامي 1989-1990، في عهد الرئيس إلياس الهراوي.
أما المرة الأخيرة فكانت بين عامي 1998-2000 في عهد الرئيس إميل لحود وانتهت بخروجه من الوزارة، وخسارة مقعده النيابي عن بيروت أمام غنوة جلول مرشحة قائمة رفيق الحريري.
ويكاد يجمع من عرف الرجل بأنه من قلة قليلة من الساسة اللبنانيين الذين لم يتلوثوا بالفساد، فاستحق عن جدارة لقب "ضمير لبنان".
من كتبه الكثيرة نتوقف عند كتابه "للحقيقة والتاريخ: تجارب الحكم ما بين 1998 و2000" الصادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر عام 2001، والذي يروي الحص فيه تفاصيل فترة رئاسته الأخيرة لرئاسة الوزراء، وعلاقته بالرئيس إميل لحود وغريمه رفيق الحريري وبالسياسيين والأحزاب اللبنانية وبالسوريين.
العنيد
يصف الحص علاقته بالمسؤولين السوريين بـ"علاقة احترام متبادل لا أكثر ولا أقل. فعلاقتي بسورية لم تكن يوماً على شيء من التبعية"، رغم إيمانه العميق بأن "طريق لبنان إلى العروبة تمر بالضرورة عبر دمشق".
يؤكد الحص أنه لم يكن يتشاور مع السوريين بالشأن اللبناني، وأن "المؤثرات السورية على القرار اللبناني لم تعبر يوماً من خلالي، وإنما عبرت من خلال قنوات أخرى في الدولة".
يورد بعض الأمثلة عن رفضه طلبات السوريين: "فاتحني الرئيس حافظ الأسد عام 1989 تلويحاً بإمكانية تعيين اللواء سامي الخطيب مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي فاعتذرت، وعين لاحقاً وزيراً للداخلية في حكومة الرئيس رشيد الصلح".
ويضرب مثلاً آخر عندما طلب منه الرئيس رفيق الحريري عبر بعض الأصدقاء، ومنهم فؤاد السنيورة، التحالف معه بلائحة واحدة بانتخابات عام 1996، فاعتذر "من منطلق أنني لا أجد ما يجمعني معه فكراً وأسلوباً وأهدافاً وإمكانات"، فضلا عن أنه "إذا رافقت الرئيس الحريري في الانتخابات، فهذا سيلغي حقي في معارضته سياسياً بعد الانتخابات".
أعاد السوريون الطلب من الحص التحالف مع الحريري على مائدة عبد الحليم خدام في بلودان (شمال غرب دمشق) بحضور العماد إبراهيم الصافي واللواء غازي كنعان وأكد اعتذاره.
بعد الانتخابات التي نجح بها الحص والحريري، استقبل حافظ الأسد الحص وقال له: "إن إخوانك في سورية حاولوا جاهدين أن يرتبوا تحالفاً بينك وبين الرئيس رفيق الحريري في المعركة الانتخابية، ولم يكن في الأمر مآرب أخرى، ولكنك، كما قيل لي، عنيد".
كما رفض طلب رستم غزالة الذي كان يشغل مسؤول أمن بيروت بضم ناصر قنديل إلى لائحته الانتخابية عن المقعد الشيعي بانتخابات عام 2000، وتمسك بحليفه محمد يوسف بيضون. المفارقة أن قنديل نجح على قائمة الحريري وخسر الحص وبيضون.
يتحدث عن علاقته ببشار الأسد التي بدأت بدعوة الأسد الابن -قبل ترؤسه- الحص لتناول الغداء في نادي الشرق بدمشق، وقد سأله عمن يرشح لرئاسة الجمهورية اللبنانية وكان موعد الانتخابات قد أزف. فأجاب "اللحودين: إميل لحود ونسيب لحود".
يلخص الحص علاقته بالسوريين بأنها كانت تفتقد الحرارة التي يريدونها، حيث يجب أن تتصل بهم وتراجعهم كثيراً، وأنه كان حريصا على عدم التردد على سورية كثيراً، إلا أنه يعترف بأنه كان يمر على اللواء غازي كنعان في عنجر "في طريق ذهابي إلى دمشق أو إيابي منها".
كما يعترف في مكان آخر بأنه وخلال حكومته الأخيرة "لم نستطع إجراء تبديل في رئاسة إحدى المؤسسات الكبرى لأن رئيسها القائم كان يحظى بحماية جهة سورية".
محاولة اغتيال
تعرض الحص لمحاولة اغتيال عام 1984، قُتل فيها سائق سيارته ودركيان كانا يتقدمان موكبه على دراجتين، وامرأة كانت في الجوار.
بعد ثلاث سنوات زار الحص ورئيس المجلس النيابي حسين الحسيني مكتب عبد الحليم خدام الذي سأل الحص إن كان يريد أن يسمع تفاصيل عملية محاولة اغتياله بسيارة مفخخة من إيلي حبيقة، فرفض الحص مقابلة حبيقة، واكتفى بمعرفة الفاعلين من خدام الذي أخبره أن مدبري العملية هم "إيلي حبيقة ومدير مخابرات الجيش العميد سيمون قسيس في منزل ميشال المر".
يرفض الرئيس الحص التوقيع على أحكام الإعدام بقناعة "ليس من حق الإنسان أن ينتزع حياة إنسان. فالله وحده يهب الحياة والله يستردها. إنني لا أستبيح ذبح حيوان، فكيف بقتل إنسان؟ إن نفسي، كوني نباتياً، لا تتقبل ذبح نعجة أو بقرة أو فروج".
اقترح عليه نائبه ميشال المر أن يوقع عنه مراسيم الإعدام التي صدرت عام 2000 خلال غيابه، ولكنه رفض ذلك، إذ يقتضي مرسوم الإعدام في لبنان توقيع وزير العدل ورئيسي الوزراء والجمهورية، ومع ذلك قام المر بالتوقيع على مرسومي إعدام، إلا أن الحص طلب سحبهما، وقد حصل ذلك.
الرئيس لحود
يذكر الحص أن أولى قرارات حكومته في عهد الرئيس الهراوي كان تعيين إميل لحود قائداً للجيش، وقد استطاع لحود "إنهاء الفرز الطائفي في الوحدات العسكرية.. فلم يعد لأي لواء أي هوية مذهبية أو طائفية في قيادته أو بنيته أو رقعة انتشاره".
يكيل الحص للحود آيات الثناء فهو أفضل ضابط ولو كان في البلد رجل واحد لا طائفي فهو إميل لحود، وهو رجل نزيه ومستقيم ومترفع إلى أبعد الحدود.
الا أنه يأخذ عليه سماحه لنجله إميل إميل لحود بالترشح لانتخابات 2000، التي فاز فيها على لائحة ميشال المر وكذلك طلبه توزير صهره إلياس المر، وفي الحالتين نصحه الحص بعدم فعل ذلك.
كما يأخذ على لحود تبني ترشيحات الوزير ميشال المر وتقديمها على أنها ترشيحاته، وهذه الترشيحات لم تكن موفقة برأيه وكذلك "جنوح الرئيس إلى مراعاة جانب بعض الجهات السورية النافذة في لبنان بأمور تتعلق بالإدارة العامة أو مؤسسات الدولة".
اللافت أن الحص تحدث عن نقل لحود رسائل له عن طريق ابنته الوحيدة وداد.
الحريري الغريم
يحضر شبح الرئيس رفيق الحريري في ثنايا مذكرات الحص دائماً، فهو سبب خسارته النيابية عام 2000 لاستخدامه "المال السياسي"، وسيطرته على وسائل الإعلام ومهاجمة حكومته وشخصه بخطاب إثارة طائفي.
يعزو الحص سبب الخصومة إلى موقفه من أسلوب الحريري وموافقة الأخير على لعبة الترويكا التي كانت قبله عندما كان الحريري رئيساً للوزراء، وهي المشاركة في الحكم بينه وبين الرئيس إلياس الهراوي ورئيس مجلس النواب نبيه بري.
استاء الحريري من الحص لقبوله رئاسة الوزراء بعد اعتذاره هو عنها، بسبب تفويض بعض النواب رئيس الجمهورية إميل لحود اختيار من يشاء لرئاسة الحكومة، ما اعتبره الحريري مخالفة دستورية.
في جلسة الاعتذار مع الرئيس، سأل الحريري لحود بمن تفكر الآن؟ فأجاب لحود "الرئيس الحص"، فقال الحريري: "اسمع مني واصرف النظر عنه. فكل الذين تعاملوا معه قبلك لم يتحملوه، لأنه عنيد ورأسه يابس".
بدأت حكومة الحص ما سمته "إصلاحاً إدارياً"، ففصلت بعض الموظفين الكبار، وأحالت آخرين للتفتيش، وأثير موضوع أموال البلديات، حيث اتهم الوزير فؤاد السنيورة وباسم السبع وآغوب دميرجيان، ثم أوقف وزير النفط شاهي برصوميان، وبدأ التحقيق في صفقات لمجلس الإعمار والإنماء وبلدية بيروت وهيئة أوجيرو وغيرها.
يشير الحص إلى أنه الذي حمى السنيورة من الاعتقال بهذا الاتهام، وأنه كان من طلابه في الجامعة الأميركية في بيروت و"عينته حين توليت رئاسة الوزراء للمرة الأولى خلفاً لي في لجنة الرقابة على المصارف".
يتحدث عن قانون انتخابات 2000، التي سقط فيها ومعه ثلاثة وزراء من حكومته، وكيف اعترض على هذا القانون، ولكنه مر بموافقة وزرائه فكان أمام خيار الاستقالة أو الاستمرار، واستمر رغم معرفته أن القانون جاء "تجاوباً مع إصرار النائب وليد جنبلاط على تقسيم جبل لبنان انتخابياً، وتم وضعه بمعرفة أجهزة أمنية لبنانية معينة وبرعاية سورية مباشرة".
جنبلاط يهدد
يروي الحص أنه في فترة الحكومتين، حكومة الحص وحكومة عون، عام 1988، طلب منه الوزيران وليد جنبلاط ونبيه بري فتح باب التطوع فرفض، فقام وليد جنبلاط بتهديده في اجتماع مجلس الوزراء قائلاً: "ليكن معلوماً أن كل من يقف في وجهنا عند المفاصل نحن قادرون على سحقه تماماً، أنا قتلت وأنا أقتل. قتلت من فئتي وقتلت من غير فئتي".
النزاهة
يمكن سوق الكثير من الأمثلة على نزاهة الرجل واستقامته المالية، وهنا لفتتني المبدئية الأخلاقية في موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي، إذ يورد في الكتاب أنه قبل لقاء وزير الخارجية السوري فاروق الشرع حينها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك برعاية أميركية في 15 ديسمبر/ كانون الاول 1999، طلب الحص من نائبه ميشال المر: "إذا استؤنفت المحادثات على المسار اللبناني وجرى افتتاح احتفالي للمحادثات، فأنا لا أسمح لنفسي بمصافحة مسؤول إسرائيلي أو مجالسته. في تلك الحال، سأطلب منك تمثيل لبنان في اللقاء". رحب المر وأعلن عن ذلك في وسائل الإعلام.