- اللقاءات بين الجانبين تحت رعاية الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تهدف لترسيم الحدود والتوصل لاتفاق سلام، مع تفاؤل الرئيس الأذربيجاني بإمكانية التوصل إلى اتفاق قريبًا. أذربيجان تطالب بانسحاب أرمينيا من قرى حدودية، بينما تسعى أرمينيا لاستعادة أراضٍ احتلتها أذربيجان.
- أرمينيا تسعى لتعزيز علاقاتها مع الغرب وحلف الناتو للابتعاد عن روسيا، مع التأكيد على تطوير الحوار والشراكات مع الأطلسي. الكرملين ينتقد هذا التوجه، معتبرًا أنه لا يسهم في استقرار المنطقة، بينما ترى موسكو أن المصالح الاقتصادية قد تحد من توجهات يريفان الغربية.
تتسارع التطورات المرتبطة بملف أرمينيا ـ أذربيجان، جنوبي منطقة القوقاز، خصوصاً بعد سلسلة إعلانات أرمينية تتمحور حول الرغبة بالتوصل لاتفاق سلام مع أذربيجان، يُنهي صراعاً منبثقاً من نهايات الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن الماضي، وحتى العام الحالي.
وفي مؤشر إلى نية أرمينيا التسريع في عملية ترسيم الحدود مع أذربيجان، والتوصل في أسرع وقت ممكن إلى اتفاق سلام نهائي، حذّر رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، أول من أمس الثلاثاء، سكان القرى المتاخمة لأذربيجان في منطقة تافوش، من أنه إذا رفضت السلطات الأرمينية تسليم قراهم إلى باكو، فقد تندلع حرب بحلول نهاية الأسبوع الحالي.
وجاءت تصريحات باشينيان قبل ساعات من استقباله الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ في العاصمة الأرمينية يريفان، الثلاثاء. وأوضح باشينيان أنه بعد ترسيم الحدود، سيصبح خط التماس الحالي مع الجيش الأذربيجاني حدوداً معترفاً بها، وبدلاً من الأفراد العسكريين، سيخدم حرس الحدود هناك.
الانسحاب المتبادل
وأشار إلى أن الأذربيجانيين يطرحون وجوب الانسحاب بشكل متبادل من المناطق المتنازع عليها، على طرفي الحدود المعترف بها وفق الخرائط السوفييتية المعتمدة قبل ترسيم نحو ألف كيلومتر من الحدود المشتركة. وفي لقائه مع سكان قرية أوسكيبار، قال باشينيان إن عملية ترسيم الحدود بين أرمينيا وأذربيجان "تنتقل إلى المرحلة العملية".
وبعد تمكن أذربيجان من حسم ملف معبر لاتشين، والسيطرة على كامل منطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، نتيجة هجوم مباغت وخاطف شنّته في خريف العام الماضي، تدور الخلافات حول السيادة على ثماني قرى أذربيجانية. وأربع من القرى هي: كركي (في جمهورية ناخيتشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي، وهي جيب أذربيجاني بين تركيا وأرمينيا)، وبارخودارلي، وسوفولو، وأوسكيبارا العليا (في شمال غربي أذربيجان). أما القرى الأربع الأخرى، فتقع في منطقة قازاخ الأذربيجانية، وهي أشاغي ـ أوسكيبار، وباغانيس ـ أيريم، وخيريملي، وغيزيلهاجيلي. وهي قرى احتلها الجيش الأرميني في حرب ناغورنو كاراباخ الأولى (1988 ـ 1994).
باشينيان: عملية ترسيم الحدود تنتقل إلى المرحلة العملية
في المقابل، تصرّ يريفان على استعادة آرتسفاشن و31 تجمعاً سكنياً على الحدود، التي، بحسب أرمينيا، احتلها الأذربيجانيون في الفترة بين عامي 2021 و2022، لكن باكو تنفي ذلك. وتقدر مساحة الأراضي التي تطالب بها أذربيجان بنحو 57 كيلومتراً مربعاً، فضلاً عن سيطرتها على جزء من أراضي أرمينيا، جيب آرتسفاشن في منطقة غيغاركونيك.
وتصرّ أذربيجان على ضرورة انسحاب أرمينيا من القرى الحدودية من دون أي شروط أو مفاوضات، في حين يمكن التفاوض لاحقاً على الجيوب غير الحدودية التي يحتلها الأرمن. وفي أوائل مارس/ آذار الحالي، طالب نائب رئيس الوزراء الأذربيجاني شاهين مصطفاييف، الذي يرأس لجنة ترسيم الحدود في بلاده، بإعادة أربع قرى غير جيبية إلى أذربيجان في المرحلة الأولى من ترسيم الحدود.
والأرجح أن تصريحات باشينيان حول احتمال وقوع حرب وشيكة في حال لم يتم إخلاء القرى الحدودية، تهدف إلى تحضير الأرمن لتنازلات، وتوجيه يريفان رسالة إضافية للغرب حول استعدادها للمضي في المفاوضات برعاية بروكسل وواشنطن من أجل التوصل إلى اتفاق سلام مع باكو بأسرع وقت ممكن.
لقاءات سابقة بين أذربيجان وأرمينيا
التقى الجانبان الأرميني والأذربيجاني عشرات المرات على مستويات مختلفة برعاية الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة منذ بداية العام الماضي. وعقدت اللجنتان المعنيتان بترسيم الحدود سبع جولات.
وفي 15 مارس الحالي، قال وزير الخارجية الأرميني أرارات ميرزويان إن "أرمينيا وأذربيجان قريبتان من التوصل إلى توافق في الآراء بشأن الاعتراف بحدود عام 1991، كأساس لترسيم الحدود والاعتراف المتبادل بالسلامة الإقليمية، ومواقف البلدين أصبحت الآن أقرب مما كانت عليه قبل شهر".
علييف: بتنا أقرب من أي وقت مضى لإبرام اتفاق سلام
وقبلها بثلاثة أيام أكد باشينيان في مؤتمر صحافي، أن أذربيجان تعترف بوحدة وسيادة أرمينيا على كامل أراضيها وليس لديها أي اعتراضات. وعززت تصريحات المسؤولين الأرمن والأذربيجانيين أثناء جولة ستولتنبرغ في الأيام الماضية، في جنوب القوقاز، الآمال بقرب التوصل إلى اتفاق سلام وإنهاء ملف ترسيم الحدود.
بدوره، أكد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف وجود فرص جيدة لتسوية العلاقات بين أذربيجان وأرمينيا، موضحاً أن بلاده "أقرب من أي وقت مضى" لإبرام اتفاق سلام مع أرمينيا. وقال في مؤتمر صحافي مشترك مع ستولتنبرغ، السبت الماضي، إنه "نتيجة لاستعادة أذربيجان سلامتها الإقليمية، أعتقد وآمل أننا قريبون جداً من تحقيق انفراجة.. سيكون هذا تغييراً جدياً للغاية في جنوب القوقاز". وخلص إلى القول إن "ذلك يعني أن السلام الذي طال انتظاره سيأتي، ونحن الآن في مرحلة نشطة من مفاوضات السلام مع أرمينيا".
أما ستولتنبرغ، فشدّد على أن السلام في هذه المنطقة مهم للغاية لشعوبها وبلدانها، وكذلك لمنطقة البحر الأسود وأمن شمال الأطلسي. ورأى أن "أذربيجان وأرمينيا لديهما فرصة لتحقيق سلام دائم بعد سنوات من الصراع".
وجدد ستولتنبرغ في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الأرميني باشينيان، الثلاثاء، التأكيد على أن ثمة فرصة أمام أرمينيا وأذربيجان لتحقيق سلام دائم عقب صراع مستمر منذ سنوات. وحض ستولتنبرغ البلدين على التوصل إلى اتفاق يمهد الطريق لتطبيع العلاقات والسلام الدائم للشعبين الأذربيجاني والأرميني.
وأكد أن "الأطلسي سيعزز سيادة أرمينيا وسلامتها الإقليمية وتطلعاتها السلمية". من جانبه، أشار باشينيان إلى أنه يتوقع الدعم من المجتمع الدولي وحلف الأطلسي، من أجل التوصل إلى السلام بين أرمينيا وأذربيجان "على مبادئ محددة ومتفق عليها بشكل متبادل".
الابتعاد أكثر عن روسيا
في مؤتمره مع ستولتنبرغ، قال باشينيان: "نحن مهتمون بمواصلة وتطوير الحوار السياسي القائم وتوسيع الشراكات مع التحالف، وكذلك مع الدول الأعضاء الفردية. نأمل أن تتم الموافقة في المستقبل القريب على برنامج الشراكة، وأن يتم تكييفه بشكل فردي مع الشكل الجديد للتعاون بين أرمينيا وحلف شمال الأطلسي".
وربط رئيس الحكومة ذلك بالحاجة إلى تطوير الإمكانات الدفاعية للجمهورية، مستدركاً بأن يريفان ملتزمة بأمن واستقرار جنوب القوقاز بالتوافق مع الأطراف الإقليمية، وأن تعاونها مع الأطلسي لن يكون موجهاً ضد أي طرف.
وفي حين ذكر باشينيان بالاسم علاقات بلاده مع جورجيا وإيران، غير أنه تجنب الحديث عن موسكو في مؤشر إضافي إلى تردي العلاقات مع روسيا وسعي أرمينيا إلى الابتعاد أكثر عنها، خصوصاً في المجالات الأمنية بعد تجارب حرب 2020 التي دامت بين 27 سبتمبر/أيلول 2020 و10 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، وخسرتها يريفان أمام باكو، وأيضاً بعد حرب "اليوم الواحد" بين 19 و20 سبتمبر 20203، التي انتصرت فيها أذربيجان.
وشكك المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، في قدرة حلف شمال الأطلسي على تعزيز الاستقرار في جنوب القوقاز. وقال أول من أمس الثلاثاء، إن "محاولات الأطلسي لتوسيع نفوذه ووجوده بطريقة أو بأخرى من غير المرجح أن تضفي الاستقرار على المنطقة"، رغم إشارته إلى أن اللقاءات والتنسيق مع الحلف "حق سيادي لدول القوقاز".
وخلص إلى القول إنه "نحن نراقب عن كثب ونعتزم التركيز بشكل أساسي على علاقاتنا الثنائية وأدوات التعاون التي يمتلكها جانبنا". أما المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، فاعتبرت أن تصريح باشينيان بشأن إخلاء القرى الحدودية "نتيجة مشاورات مع الغربيين".
وسبق لباشينيان أن تطرق في 12 مارس الحالي إلى علاقة بلاده مع روسيا، وفي مؤشر إلى تباعد المواقف مع موسكو، والرغبة بالاقتراب أكثر من بروكسل وواشنطن، أوضح باشينيان أنه "جمدنا بالفعل مشاركتنا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (تضمّ أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وروسيا وطاجيكستان، وانسحبت منها أذربيجان وجورجيا وأوزبكستان سابقاً)، ولا نشارك في الاجتماعات...".
واعتبر أنه "لا نتوقع سوى إجابة عن سؤال واحد: ما هو نطاق مسؤولية المنظمة في أرمينيا؟ بدأت كل المشاكل منذ اللحظة التي أثارت فيها يريفان هذه القضية. إذا أجابت منظمة معاهدة الأمن الجماعي عن سؤال أين تقع دائرة مسؤولية منظمة معاهدة الأمن الجماعي في أرمينيا، وكانت هذه الإجابة تتوافق مع رؤية أرمينيا، فسنعتبر أن القضية بيننا قد تم حلها... وإذا لم يكن الأمر كذلك، فستغادر أرمينيا منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، لكنه لم يحدد موعداً لذلك.
وأشار باشينيان في تصريحاته في حينه إلى أن "الاتحاد الأوروبي، على عكس روسيا، اعترف بأراضي أرمينيا ذات السيادة، ولهذا حصل على فرصة نشر مراقبيه في المنطقة". في 13 مارس الحالي، أكد المتحدث باسم المفوضية الأوروبية بيتر ستانو، أنه بإمكان أرمينيا التقدم بطلب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وذلك تعليقاً على اعتماد البرلمان الأوروبي في التاريخ نفسه، قراراً يدعو إلى دعم رغبة يريفان في التقدم بطلب للحصول على وضع مرشح للاتحاد الأوروبي.
وتجدد الجدل بين موسكو ويريفان بشأن حرب ناغورنو كاراباخ الثانية في خريف 2020، واعتبرت زاخاروفا، السبت الماضي، أن بلادها ساعدت أرمينيا كثيراً ودافعت عنها وبذلت جهوداً مضنية لوقف إراقة الدماء.
وحول ما يشاع عن احتمال انسحاب أرمينيا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي دعت زاخاروفا إلى ضرورة أن تنطلق يريفان من الاحتياجات الحقيقية للبلاد وليس من منطلق "مغازلة الغرب"، لأن مثل هذا القرار لا يخدم مصالح أرمينيا الوطنية، معربة عن رفضها أي أجندة مناهضة لروسيا تفرض على شعب أرمينيا عبر الإشاعات والخطابات العدوانية.
من المؤكد أن روسيا غاضبة من محاولات الأطلسي والاتحاد الأوروبي التقدم في "حديقتها الخلفية" جنوبي القوقاز، وتخشى فقدان أرمينيا بعدما فقدت جورجيا سابقاً بعد حرب الأيام الخمسة في أغسطس/آب 2008. غير أن موسكو تراهن على أن المصالح الاقتصادية ستجبر يريفان على توخي الحذر أكثر وعدم الذهاب بعيداً في الانجرار وراء "الحلم الأطلسي الأوروبي".
ويرى خبراء أن بيد روسيا أوراق قوة كثيرة في التعامل مع أرمينيا، مثل خلق الفوضى عبر مؤيديها وداعميها في يريفان، في وقتٍ لا تستطيع تعطيل اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان، راهنت سابقاً على أن تكون الراعية والمهندسة له، لا الغرب. ومن الأوراق التي تملكها روسيا أن انضمام أرمينيا إلى الأطلسي غير ممكن من دون إغلاق القاعدة العسكرية الروسية في غيومري في أرمينيا، التي تضم 5 آلاف جندي. وروسيا لن توافق على إنهاء العقد الساري المفعول حتى عام 2044، وحينها يمكن تحول القاعدة إلى نموذج مشابه للوجود الروسي في إقليم ترانسنيستريا المولدوفي.
أما اقتصادياً، فقد حققت أرمينيا في العام الماضي نمواً بلغ 10 في المائة، بفعل الاعتماد على عملية التصدير لروسيا، وافتتاح شركات روسية فروعاً في أرمينيا. كما ازداد حجم التبادل التجاري بين البلدين منذ بداية 2023 حتى نهاية نوفمبر الماضي، بنحو 40 في المائة ووصل إلى 6.3 مليارات دولار، مقارنة بنحو 2.5 مليار دولار مع الاتحاد الأوروبي.
بيسكوف وزاخاروفا ينتقدان يريفان لتواصلها مع الأطلسي
ولهذا فإن أرمينيا ستعاني كثيراً في حال قررت الانسحاب من الاتحاد الاقتصادي الأوراسي والتقرب أكثر من أوروبا، بحسب الروس، خصوصاً أن حدوداً مباشرة لأرمينيا مع أوروبا. كما أن هناك جالية أرمينية قوية ومؤثرة في روسيا تدعم التقارب مع موسكو، وتضم رجال أعمال وازنين، إضافة إلى قيادات في بروباغاندا الكرملين مثل مارغاريتا سيمونيان، المديرة العام لشبكة "روسيا اليوم" ورئيسة تحرير موقع "سبوتنيك".
كما يمكن لروسيا دعم صف واسع من القيادات الأمنية والجيش في أرمينيا، تحديداً الذين تضرروا من ثورة 2018 التي قادها باشينيان وأطاحت الرئيس السابق سيرج سركيسيان. مع العلم أن احتمال ترتيب انقلاب عسكري ضد باشينيان يبقى وارداً، لكن ما يعطل ذلك هو تراجع النفوذ العسكري للجيش الأرميني، بعد حربي 2020 و2023.
حتى أن أي دعم عسكري غربي لأرمينيا ليس وارداً في الوقت الحالي، لانشغال الغرب بدعم أوكرانيا ضد روسيا. كما أن حلف الأطلسي مرتبط بعلاقات قوية مع أذربيجان، منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في العام 1991، وهي قاعدة مهمة للحلف في مواجهة إيران. ويمكن إعلامياً إثارة البلبلة في أرمينيا عبر خطاب يحمّل باشينيان المسؤولية عن تشريد أكثر من 100 ألف من سكان ناغورنو كاراباخ ما زالوا يعيشون في ظروف صعبة.