مع توجه مجلس الأمن الدولي إلى منح نفسه مزيداً من الوقت، ربما يمتد بحسب مصادر دبلوماسية مصرية، تحدثت لـ"العربي الجديد"، حتى يوم الإثنين المقبل، للبت في الطلبات المصرية السودانية بشأن سد النهضة الإثيوبي، وتحديد ما إذا كان سيُصدر قراراً، أو بياناً يوصي بالعودة السريعة إلى طاولة المفاوضات، أم سيتعذر الاتفاق، لتُترك القضية مرة أخرى لتصرف الاتحاد الأفريقي والمسار التفاوضي الملتف بلا نهاية، فإنه بات واضحاً من جلسة أول من أمس الخميس أن اتفاق المبادئ الذي وقّعته الدول الثلاث في مارس/ آذار 2015 كرّس موقعه كأكبر حجر عثرة أمام أي تصرف مستقبلي لمصر في حال استقرت على ضرورة استخدام القوة، أو الحلول التصعيدية، أو حتى الاعتراض على مسار تفاوضي معين يراد إخضاعها له في أي ظرف سياسي أو فني في السنوات المقبلة، لا سيما أنه من المتوقع تجدد الجدال حول التزامات إثيوبيا تجاه دولتي المصب مع كل فترة فيضان، خصوصاً في السنوات التي ستشهد جفافاً متوسطاً أو شديداً أو ممتداً.
ركزت جميع الدول في كلماتها خلال الجلسة على ضرورة العودة إلى المفاوضات لحل القضية
وركزت جميع الدول في كلماتها خلال الجلسة على ضرورة العودة إلى المفاوضات لحل القضية، مع ذكر معظمها لاتفاق المبادئ باعتباره المرجعية القانونية التي يجب الاستناد إليها. ثم تمايزت بعض المواقف، كدعوة تونس وفرنسا والنرويج والمكسيك وإستونيا لوقف جميع الإجراءات الأحادية بشأن سد النهضة، بما فيها الملء المنفرد من الجانب الإثيوبي، ودعوة الولايات المتحدة وبريطانيا وأيرلندا والهند وفيتنام إلى الالتزام باتفاق المبادئ مع العودة السريعة للمفاوضات بقيادة الاتحاد الأفريقي وبمراقبة أطراف دولية عدة على رأسها الاتحاد الأوروبي. بينما كان موقف الصين أكثر ميلاً للحياد مقارنة بموقفها المعارض لمصر في جلسة مجلس الأمن الصيف الماضي، فيما كان موقف روسيا هو الأقرب إلى الإثيوبيين اعتراضاً على نقل القضية إلى الساحة الدولية، وكذلك رفضاً للتهديد بالحل العسكري.
وعلى الرغم من استبعاد التصويت على مشروع القرار الذي قدّمته تونس مدعوماً من مصر والسودان والولايات المتحدة، متضمناً دعم الأمم المتحدة للمفاوضات برئاسة الاتحاد الأفريقي ووضع خريطة طريق قصيرة الأمد لها، لا تزيد على 6 أشهر مع وقف الإجراءات الأحادية، واقتصار الأمل المصري السوداني على إصدار بيان من المجلس يحمل تلك التوصيات، إلا أنّ المصادر المصرية تحدّثت عن "تفاؤل ومؤشرات إيجابية" في أروقة الأمم المتحدة، ليس فقط على مستوى الدول والمنظمات المتعاطفة مع دولتي المصبّ، بل أيضاً على مستوى الصين. وكذلك، نظراً لتغيّر موقف بعض القوى على مدار العام، فضلاً عن الموقف الأوروبي والفرنسي الإيجابي الذي تزامن مع صدور بيان للاتحاد الأوروبي أول من أمس، ضد الملء الثاني المنفرد للسد، وهو ما يجعل المصريين متفائلين بممارسة ضغوط أكبر على إثيوبيا.
غير أنّ المشكلة الأبرز تتمثّل في تركيز الحديث عن اتفاق المبادئ كمرجعية للمفاوضات، بعدما أثبت فشله على مدار 6 سنوات كإطار للمناقشات السياسية أو الفنية أو القانونية بين الدول الثلاث، لتضمّنه عدداً من البنود المتناقضة والتي تسمح بتفسيرات مغايرة لمقاصد الإعلان والتوافق، وبصفة خاصة المبدأ الخامس الذي ينظم التعاون في الملء الأول وإدارة السد، مكتفياً بالنص على التشارك في وضع "الخطوط الإرشادية والقواعد" من دون تفاصيل التشغيل. فضلاً عن أنه يجيز لإثيوبيا إعادة ضبط سياسة التشغيل من وقت لآخر، بشرط "إخطار" وليس أخذ رأي أو استئذان مصر والسودان، وهو ما نفذته إثيوبيا حرفياً من دون النظر إلى معناه، في الملء الثاني هذا العام.
وتستند إثيوبيا إلى البند الثاني من هذا المبدأ لتبرر لنفسها وللعالم أن القواعد التي يجب الاتفاق عليها لا يمكن اعتبارها ملزمة بأي حال، لأنها موصوفة في الاتفاق بأنها "استرشادية"، فضلاً عن كونها غير مقتصرة على خطة واحدة يجب اتباعها، فهي بحسب النص "ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد". كما يحمل البند نفسه نصاً آخر لا يخدم الأهداف المصرية، فهو يتحدث عن "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد"، مما اعتبرته إثيوبيا سنداً قانونياً لتنجز الملء الأول بالفعل ثم لتبدأ الملء الثاني بالتوازي مع المناقشات، طالما أن السد لم يكتمل بناؤه، وأخطرت بذلك مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي.
مصادر مصرية تتحدث عن تفاؤل ومؤشرات إيجابية في أروقة الأمم المتحدة
كما يتضمن هذا المبدأ بنداً آخر تفسره إثيوبيا لصالحها فقط، هو "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، والتي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت لآخر"، وعليه ترى إثيوبيا أن مصر اعترفت بتوقيعها على هذا البند بالسيادة المطلقة لها على السد، وترفض مشاركة مصر والسودان في تحديد قواعد التشغيل طويلة الأمد، إلا في حدود التأكد من "عدم الإضرار"، باعتباره مبدأ منصوصاً عليه في الاتفاق ذاته.
ويسمح المبدأ السابع لإثيوبيا بالتلاعب في مواعيد إرسال البيانات المطلوبة لمصر والسودان وكذلك حجمها، بحديثه عن "التوقيت الملائم" لإرسالها، من دون تقيّد بمواقيت خاصة في مراحل الملء والتشغيل. كما يتيح المبدأ الثامن لإثيوبيا بالتصرف كما تشاء على مستوى ضمان أمان السد، مكتفياً بأن يكون هذا "بحسن نيّة" من دون ضغوط من دولتي المصب. بينما المبدأ العاشر الذي يفتح باب الوساطة الدولية الملزمة يتطلب أيضاً "اتفاق الدول الثلاث على ذلك"، وهو شرط أثبتت التجارب العملية استحالة توافره، خاصة بعد فشل جولة الوساطة المطولة التي عقدت في واشنطن مطلع عام 2020 وأسفرت عن توقيع مصر منفردة على مشروع اتفاق.
واللافت أن إثيوبيا حالياً تقف وحدها معارضة للاعتداد بمشروع الاتفاق الذي تم برعاية أميركية، بينما تطلب مصر والسودان أخذه في الاعتبار عند عودة المفاوضات، باعتباره أقرب المقترحات التي بلورت جهود التفاوض إلى الكمال، ويعالج نسبة تتجاوز 90 في المائة من نقاط الخلاف، بحسب الكونغو الديمقراطية الوسيط الأساسي حالياً، باعتبارها رئيس الاتحاد الأفريقي.
الانسحاب من اتفاق المبادئ يضع المجتمع الدولي أمام التزاماته
وعلى النقيض من بحث دوائر مصرية وسودانية عدة منذ شهور مسألة الانسحاب من اتفاق المبادئ كتحرك أولي لنزع الشرعية عن السد وتعرية التصرفات الإثيوبية أمام العالم، يشكك البعض في إمكانية ذلك، ويصوّرون صعوبته سياسياً وقانونياً وإجرائياً، متذرعين بأنه يُشهد العالم على التفهم المصري والسوداني الكامل لحق إثيوبيا في التنمية، وكأن السماح بإنشاء أكبر سد في أفريقيا على مدار 10 سنوات، ليس دليلاً كافياً على رضوخ دولتي المصب لهذا الواقع الضار استراتيجياً واقتصادياً.
لكن، وبحسب مصادر دبلوماسية وقانونية متخصصة في المجال الدولي، فإن الانسحاب من اتفاق المبادئ كفيل بوضع المجتمع الدولي أمام التزاماته المفترضة وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، لما في ذلك من تهديد للأمن الإقليمي والسلم الدولي، ولأن هذه الخطوة تزيل عن كاهل مصر عبء التسليم بحق إثيوبيا في إنشاء هذا المشروع الذي اختلف تخطيطه وتطورت أهدافه من مجرد سد لتوليد الكهرباء، إلى خزان مائي ضخم يهدد بتعطيش دولتي المصب حال تشغيله بكفاءته القصوى، ويسمح بتشغيل سدود أخرى مستقبلية، فضلاً عن أنه بات مشروعاً سياسياً لتقزيم مصر وتجريدها من مزاياها الحضارية ونقل مركز ثقل المنطقة إلى أديس أبابا.
وأوضحت المصادر أن اتفاق المبادئ في صورته الحالية لا يعدو كونه وثيقة تفاهم، أو إعلان حسن نوايا، لا تترتب عليه أي التزامات قانونية تجاه أي دولة، طالما لم يتم استخدامه للتوصل إلى اتفاق نهائي على قواعد الملء والتشغيل، خصوصاً أنه لا يتطرق إلى أي إلزام يمكن تصنيفه كجزء من التشريعات المحلية للدول الثلاث.
وبالتالي، فثمة طريقان واضحان يمكن سلك أي منهما للانسحاب من هذا الاتفاق، أولهما وأبسطهما أن يعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشخصه وصفته الموقّع عن مصر، وكذلك رئيس المجلس السيادي الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان بصفته خلفاً للرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، الانسحاب من الاتفاق، أو تعليق ذلك على شرط معين مثل التنفيذ الفوري لنصوص بعينها في الاتفاق.
لن تترتب على مصر والسودان في حال الانسحاب أي عقوبات
وسبب سهولة هذا الإجراء أنه لم يتم إعمال إجراءات التصديق التشريعي على الاتفاق، سواء في مصر أو السودان أو إثيوبيا، ولم يتم إيداعه بشكل قانوني لدى الأمم المتحدة، بل عُرض فقط على الأمانة العامة ومجلس الأمن كاتفاق عرفي بين الأطراف.
أما الطريق الآخر بالنسبة لمصر تحديداً، لوجود سلطة تشريعية فيها، فهو وارد التطبيق إذا أراد السيسي توجيه رسالة إلى العالم لتبرير الانسحاب من الاتفاق بوجود إرادة شعبية لذلك، بما يمكن اعتباره تمهيداً للتصعيد، بناء على الآليات الدستورية المتاحة في مصر. فالمادة 151 من الدستور تنص على أن "يمثل رئيس الجمهورية الدولة في علاقاتها الخارجية، ويبرم المعاهدات، ويصدق عليها بعد موافقة مجلس النواب، وتكون لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً لأحكام الدستور"، وبناء عليها يمكن لرئيس الجمهورية عرض اتفاق المبادئ حالياً أو في أي وقت لاحق على مجلس النواب لإقراره، تمهيداً للتصديق عليه، وهنا يمكن لمجلس النواب رفض الاتفاق، فيصبح في حكم المنعدم بالنسبة لمصر، ويغدو انسحابها منه أمراً واقعاً.
ولا توجد مواعيد ملزمة للسيسي لعرض الاتفاق على البرلمان الذي يسيطر عليه بشكل شبه كامل، كما أن التوقيع لا يعني استيفاء الشروط والتصديق، فالسائد في مصر وباقي دول العالم أن يتم التوقيع على الاتفاق أولاً، كما حدث في إعلان المبادئ، ثم الإقرار من السلطة التشريعية والتصديق من رئيس الجمهورية والنشر في الجريدة الرسمية.
وفي كل الأحوال لن تترتب على مصر أو السودان، بحال الانسحاب، أي التزامات أو عقوبات، لأن الاتفاق تم بمعزل عن القوانين الدولية ذات الصلة، كما أنه لم تترتب عليه أي ثمار عملية يمكن التراجع عنها، فكل ما جرى على ضوئه لا يتجاوز مرحلة العمل التحضيري لاتفاق تلهث خلفه دولتا المصب وتتنصل منه دولة السد.
وسبق أن كشفت مصادر مصرية مطلعة أن النقاش حول الانسحاب تجدد بقوة بعد الإخطار الإثيوبي الرسمي لدولتي المصب بالبدء رسمياً في الملء الثاني قبل يومين من انعقاد جلسة مجلس الأمن، وبعد نحو أسبوعين من بدء عملية الملء فعلياً، واختارت أديس أبابا أن تبلغ رسمياً بذلك بعد إتمامها الوصول إلى أقصى مستوى بلغته بحيرة السد في نهاية الصيف الماضي.
وفي حالة انقضاء اتفاق المبادئ، فلن يتبقى أمام الأمم المتحدة في مجال مراقبة العلاقة المتردية بين إثيوبيا ودولتي المصب، إلا نصوص واضحة في المعاهدات الثنائية المنظمة لعلاقاتها بهما، تحظر بوضوح التصرفات الإثيوبية الحالية. وأحدث هذه النصوص المواد 5 و6 و7 من اتفاق التعاون العام بين مصر وإثيوبيا المبرم في يوليو/ تموز 1993 بين الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، ورئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ملس زناوي، والتي أودعت الأمم المتحدة عام 2013، وتنص بصورة صريحة على "الامتناع عن الإقدام على أي نشاط يتعلق بمياه النيل قد يؤدي إلى إحداث ضرر ملموس بمصالح الطرف الآخر" ويلتزم البلدان بموجبها بأن ينشئا آلية دورية للتشاور والتعاون.