أفاد مصدر حكومي إثيوبي ومصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد"، بأن من المشاكل التي استجدّت على مسار الوساطة الأميركي في قضية سد النهضة، أن أديس أبابا طلبت بشكل واضح الاتفاق على جدول أعمال المفاوضات المقررة بعد الاتفاق المؤقت حول الملء الثاني، المفترض في يوليو/تموز المقبل. ودعت أديس أبابا إلى تزامن الاتفاق النهائي على قواعد الملء والتشغيل مع الاتفاق المنشود منها لوضع محاصصة جديدة لمياه النيل الأزرق. وهو وضع تعتبر مصر والسودان، وكذلك "بعض الوسطاء"، أن لا مكان له في الوقت الحالي لإنقاذ مسار التفاوض برمته.
وأضاف المصدر الإثيوبي أن رئيس الوزراء أبي أحمد ناقش المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان، الذي اختتم زيارته للمنطقة، أول من أمس الخميس، من أديس أبابا، حول هذا المطلب. لكنه أشار إلى أن "الموضوع الأساسي لمباحثات أحمد وفيلتمان والتي جرت في مقر إقامة الأخير، كان الوضع السياسي الداخلي والتطورات الأخيرة في نزاع الحكومة الإثيوبية مع قومية تيغراي والأزمات الأخرى مع قوميات أورومو وأمهرة وبني شنقول". وأوضح المصدر أن تكرار المطالبة بوجوب فرض محاصصة جديدة لمياه نهر النيل قبيل كل جولة تفاوض حول قواعد الملء والتشغيل، أمر مقصود لفرض جدول أعمال مضغوط، على الرغم من أن التأثير السلبي لذلك على مسار المناقشات، ويبعدها عن سياقها المرغوب من مصر والسودان.
وفي انتظار حديث فيلتمان عن نتائج جولته في جلسة استماع رسمية مع البيت الأبيض والكونغرس في اليومين المقبلين، دعا نشطاء إثيوبيون متعارضو الاتجاهات إلى مسيرات في واشنطن تحت عناوين مختلفة. وستُقام مسيرة لإعلان مساندة حق بلادهم في إنشاء سد النهضة، وأخرى تضامنية مع تيغراي ضد سياسات أبي أحمد.
ناقش فيلتمان مع أبي الملفات الداخلية في إثيوبيا كأولوية
وتراجع بشكل واضح استخدام إثيوبيا لسلاح المطالبة بالمحاصصة الجديدة والخروج عن الاتفاقات القديمة، منذ فشل المحاولة المصرية السودانية للجوء إلى الأمم المتحدة الصيف الماضي، حتى مارس/آذار الماضي. وحينها ذكر وزير الخارجية ديميكي ميكونن، أن "الحصة العادلة لبلاده من مياه نهر النيل هي 86 في المائة ولا يستطيع أحد أن يهاجمها أو ينتقص منها"، في إطار احتفالات أديس أبابا بمرور عشر سنوات على بدء إنشاء سد النهضة.
لكن هذه المطالبة تعتبر سلاحاً فعالاً للمقايضة، مع الأخذ في الاعتبار البيان الصادر عن القمة الأفريقية المصغّرة التي عقدت في يوليو/تموز 2020 بالتزامن مع إتمام الملء الأول للسد، وتضمّن عبارة "التطورات المستقبلية على النيل الأزرق" حسب الطلب الإثيوبي. وفتح بذلك الباب لمفاوضات "قد تكون طويلة الأمد" تتضمن الاتفاق على قواعد الملء السنوي والتشغيل المستمر من جهة، وإعادة المحاصصة في مياه النيل الأزرق، وكذلك النص على كيفية التعامل مع المشاريع المستقبلية التي بإمكان إثيوبيا إنشاؤها على النيل الأزرق في المسافة الواقعة بين المنابع وسد النهضة من جهة أخرى. وهي النقطة التي أصرّت كل من مصر والسودان أن يكون من الواضح فيها ضرورة الإخطار المسبق قبل فترة كافية.
وكانت إضافة هذه العناصر للاتفاق، من الأمور التي رفضت مصر والسودان التطرق إليها في المفاوضات السابقة، لكن إثيوبيا استمرت خلال التفاوض تحت لواء الاتحاد الأفريقي نهاية العام الماضي، بما حمله بيان قمة يوليو من عناصر، بما في ذلك الاعتراف بعمل حساب للتطورات الجديدة على النيل الأزرق، تماماً كتمسكها بالتفسير الحرفي لاتفاق المبادئ الموقع عام 2015.
وفي ذلك الوقت، أعلنت الرئاسة المصرية أنه "سيتم لاحقاً العمل على بلورة اتفاق شامل لكافة أوجه التعاون المشترك بين الدول الثلاث فيما يخص استخدام مياه النيل"، في ما اعتُبر ارتداداً كبيراً عن موقف مصري ثابت ضد الخطة الإثيوبية لإعادة المحاصصة. وهو الأمر الذي فسرته المصادر الفنية والدبلوماسية المصرية بأن "إثيوبيا اشترطت للمضي قدماً في المفاوضات للوصول إلى اتفاق كامل بشأن قواعد الملء والتشغيل، أن يتم الاتفاق أيضاً على خطة جديدة للتعاون في الاستخدام المنصف والعادل لمياه النيل الأزرق، أي بين مصر والسودان وإثيوبيا فقط. أما الانعكاس المباشر لهذا الأمر، فهو إلغاء جميع الاتفاقيات السابقة لتقسيم المياه بين دولتي المصب (السودان، مصر)، خصوصاً اتفاقية عام 1959، التي سيفرغها سد النهضة عملياً من مضمونها".
والآن تحاول مصر والسودان إعادة الفصل بين المسارين نهائياً، بالتركيز على مشاكل السد، خصوصاً بعدما اقتنعت السلطة الحاكمة في الخرطوم، بعيداً عن بعض الدوائر الحكومية الفنية، بخطورة تسليم قرار التحكم في النيل استراتيجيا إلى أديس أبابا. ومع ثبات مطالبة إثيوبيا بأن يكون أي اتفاق على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة "استرشادياً"، طالما استمرت مصر والسودان في تمسكهما باتفاق المحاصصة الموقع عام 1959، باعتبار أن من المستحيل الوفاء بذلك التقسيم المائي في حالة الأخذ بأي مصفوفة من أي طرف تتعلق بتنظيم تدفق المياه من السد. وبالتالي، فإن هدفها الحالي، إذا أرادت مصر والسودان منها واقعياً إتمام الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل قبل الملء الثاني المتوقع إتمامه نهاية يوليو المقبل، هو أن تقرنه باتفاق جديد ينظم محاصصة جديدة لمياه النيل الأزرق. وهو ما يجعله يتعامل واقعياً مع استفادة مصر من كميات أكبر بكثير من حصتها المنصوص عليها، واستفادة السودان المتوقعة من كميات إضافية أيضاً في حال البدء في ملء السد النهضة وتفعيل مصفوفات التدفق في حالتي الفيضان والشح المائي.
من جهتها؛ قالت المصادر الدبلوماسية المصرية لـ"العربي الجديد"، إن القاهرة والخرطوم ترفضان أي حديث حالي عن اتفاق المحاصصة من دون إثبات حسن النوايا أولاً، من خلال التوافق المضمون سياسياً من الوسطاء على جدول قصير المدى للتفاوض وصولاً إلى اتفاق نهائي. وبالتالي عدم الربط بين الاتفاقين، إذ تعتقد مصر بوجوب ضم باقي دول حوض النيل لأي اتفاق من هذا النوع، مع ثبات موقفها بمراعاة وضعها مع السودان وفقاً للقوانين الدولية".
وأضافت المصادر أن شعور مصر الحالي بتراخي الموقف الأميركي على الرغم من التعهد بحل المشكلة، ينعكس بصورة مباشرة على الاتصالات الجارية بين الطرفين حول الأزمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وتأخذ التصريحات المصرية، بشكل واضح جانب المقاومة الفلسطينية، متمسكة بفرض وضعها كوسيط استراتيجي له وضعه التاريخي والإنساني المهم في المنطقة. الأمر الذي ربما يتأثر بالسلب مستقبلاً في حال ترسيخ التفوق الاستراتيجي الإثيوبي والخليجي لأسباب عدة منها سد النهضة، الذي سيضع بتشغيله القاهرة تحت ضغط دائم من قوى عدة.
القاهرة والخرطوم ترفضان أي حديث حالي عن اتفاق المحاصصة
وتدعي إثيوبيا أن ملء بحيرة سد النهضة سيخفض الحصة المصرية (الفعلية) إلى رقم يتراوح بين 52 و55 مليار متر مكعب، شاملة بواقي الفيضان، مقابل ارتفاع نصيب الخرطوم الفعلي إلى ما يتراوح بين 18 و20 مليار متر مكعب، بدلاً من 8 مليارات كان منصوصا عليها في اتفاقية 1959. وترفض السودان ومصر تلك الحسابات، خصوصاً الخرطوم، التي قال مسؤولوها أكثر من مرة بعد فشل المفاوضات الفنية الأخيرة، بأن الاتفاق المنشود لا يجوز أن يمتد لإعادة المحاصصة، كما أشارت إلى ذلك ضمنياً في خطابها إلى مجلس الأمن مطلع الشهر الماضي.
أما مصر فرغم أنها ستكون المتضرر الأكبر من إعادة المحاصصة، إلا أنها ترغب، في حال اضطرارها لذلك، إلى فتح حديث أوسع عن الموارد المائية المتاحة لدى كل بلد في حوض النيل، بغية إحراج إثيوبيا التي لها مشاكل مائية مع دول أخرى. وتريد مصر إثبات أنها الطرف الأضعف في المعادلة والأكثر تضرراً على الدوام، وليس الجانب الإثيوبي الذي يروّج على نطاق واسع لرواية مفادها أن مصر هي الطرف الأكثر استفادة من النيل، وأنها تحرم إثيوبيا من الاستفادة من مواردها الطبيعية، وترغب في استمرار حرمانها.
وفي أغسطس/آب الماضي، أدلى وزير الخارجية المصري سامح شكري بتصريحات لوكالة "أسوشييتد برس"، قال فيها إنه "يتوجب أخذ جميع الموارد المائية للدول في الاعتبار عند عقد أي اتفاق جديد على حصص مياه النيل". وهو تصريح اختلفت على تقييمه مصادر دبلوماسية بديوان الخارجية المصرية استطلعت "العربي الجديد" آراءها حولها آنذاك، واعتبره البعض "سلبياً" لأنه يفتح مجالاً لمفاوضات طويلة الأمد حول المحاصصة وإلغاء اتفاق 1959 وعلى أسس ربما تكون جديدة ولا تخدم مصر على الإطلاق، بينما اعتبره آخرون "إيجابياً" لأنه يطرح على العالم أهمية النظر لقضية السد من جميع جوانبها، بما في ذلك مراعاة تمتع إثيوبيا بالعديد من الموارد الطبيعية التي لا تحسن استغلالها.
ويتبقى حالياً نحو شهرين ونصف الشهر على الموعد المتوقع لإتمام الملء الثاني، وتؤكد التقارير الفنية خروج آلاف الأفدنة من الرقعة الزراعية على مراحل، ابتداء من العام بعد المقبل، وضرورة تخصيص مصروفات ضخمة لعلاج نتائج التطور الذي سيطرأ على استخدامها للأغراض الزراعية والصناعية والتنموية في كل من إثيوبيا والسودان، من استخدام مكثف للمبيدات وزيادة كميات الصرف الصناعي والزراعي في حوض النيل.