قالت مصادر دبلوماسية غربية في القاهرة، لـ"العربي الجديد"، إنّ الاتصالات الجارية بشأن سد النهضة بين الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية ذات التأثير والعلاقة الوطيدة بمصر وإثيوبيا والسودان، تشير إلى صعوبة الاعتماد على المقترح السوداني المصري لاستئناف المفاوضات بآلية الوساطة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة والأمم المتحدة، والاتحادين الأفريقي والأوروبي) خلال الفترة الحالية، نظراً لرفض أديس أبابا المطلق لهذه الآلية وزعمها المتكرر عدم تسلم تفاصيلها من القاهرة والخرطوم. فضلاً عن عدم رغبة بعض العواصم الرئيسية الأوروبية في "توريط نفسها في مهمة إعداد صياغات يمكن أن تفجر وضع المفاوضات، ويمكن أيضاً أن تسيء للعلاقات بينها وبين إحدى الدول أطراف القضية".
وأضافت المصادر أنّ إثيوبيا ما زالت تصرّ على أنّ المفاوضات لا يمكن أن تُستأنف إلا من خلال الصيغة السابقة التي فشلت في التوصل إلى أي حل، برعاية الاتحاد الأفريقي وحده، وحضور الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كمراقبين فقط. وبالتالي، فهي لم تبد أي مرونة تجاه المقترح المتداول، كما لم ترسل عبر أي وسيط، إشارات إيجابية إزاء مطلب وقف الملء الثاني للسد إلى ما بعد التوصل إلى اتفاق ملزم وشامل. وأوضحت المصادر أنّ من أسباب حالة الفتور الأوروبي تجاه الأمر، أنّ الإدارة الأميركية الجديدة لم تحسم أمرها بعد من المقترح السوداني المصري، وأنه يظهر عليها الاتجاه لإبقاء الوضع على ما هو عليه، واقتصار جهودها على منع تطور القضية إلى مواجهة عسكرية بين مصر وإثيوبيا. ومن الأسباب أيضاً أنّ المقترح السوداني المصري، وعلى الرغم من أنه يعطي صلاحيات واسعة للآلية الرباعية، إلا أنه قد يتسبب في "حساسيات" مع الاتحاد الأفريقي، بسبب اختلاف الاتجاهات الفنية بين بعض العواصم الأوروبية ومفوضية الاتحاد حول الأزمة، وفقاً لما سبق وأبداه خبراء الاتحاد من آراء خلال الجلسات الأخيرة من المفاوضات نهاية العام الماضي قبل تعثرها.
لا ترغب بعض العواصم الأوروبية بتوريط نفسها في مهمة إعداد صياغات يمكن أن تفجر وضع المفاوضات
وذكرت المصادر أنّ بعض العواصم كباريس، كانت لديها النية للمشاركة في تقديم حلول فنية، على ضوء خبرات أوروبية سابقة في التعامل مع مسائل الأنهار المشتركة، خاصة في حالات النزاع التي نشبت بين بعض دول الكتلة الشرقية السابقة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وليس فقط في صورة مشاركة الاتحاد الأوروبي كمراقب للمفاوضات، ولكن أيضاً بمشاركة الدول الأوروبية ذاتها، وأن هذا الاستعداد كان من العوامل التي دفعت السودان ومصر لاقتراح الآلية الرباعية. لكن عدم قبول إثيوبيا بذلك، سواء على المستوى الفردي من العواصم الغربية، أو على المستوى الجماعي في شكل آلية وساطة، جعل تلك العواصم أقل حماساً للمشاركة.
وكانت مصر ترحب بأداء فرنسا تحديداً دوراً في هذه المحاولات، لتمتعها بمصداقية عالية لدى الحكومة الإثيوبية، كونها إحدى الدول التي شارك مستثمروها في إنشاء السد، ولكنها في الوقت ذاته لا تتصور أن يعود العمل بأي ضرر على مصر، وفقاً لحديث دار خلال الزيارة الأخيرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى باريس، بحسب مصادر مصرية مطلعة. وقد قارنت هذه المصادر بين لهجة المسؤولين الفرنسيين (الذين أبدوا رغبة في المشاركة بتقديم حلول) خلال تلك الزيارة، ومواقفهم المحايدة سلبياً سابقاً، عندما كانت مصر تطلعهم على تطورات العمل بالسد، وتطلب منهم التدخل لوقف العمل به من خلال الضغط على الشركات الفرنسية، حيث أبلغوا الخارجية المصرية وقتها مراراً بأنّ الحكومة لا تستطيع الضغط على المستثمرين بهذه الصورة.
الإدارة الأميركية الجديدة لم تحسم أمرها بعد من المقترح السوداني المصري
وحول تسريع هذه الأجواء الفاترة، لخطوة مصر والسودان المتوقعة باللجوء لمجلس الأمن مرة أخرى لبحث حل جديد للقضية، قالت المصادر الأوروبية إنّ "تكرار هذه الخطوة سيكون من سبيل مصادرة (تطويق) احتمال استخدام الحل العسكري أو التلويح به لاحقاً". وأضافت أنّ "المصريين باتوا أكثر دراية بتبعات خطوة اللجوء لمجلس الأمن مما كانوا عليه العام الماضي"، وأنّ المسؤولين الأوروبيين -وبصفة خاصة الفرنسيين- نصحوا بعدم اتخاذ هذه الخطوة، من واقع خبرتهم الخاصة، عندما فشلوا في توفيق وجهات النظر بين واشنطن وبكين لإصدار بيان يطالب بعدم اتخاذ أي خطوات أحادية، في إشارة لضرورة امتناع إثيوبيا عن ملء السد لأول مرة قبل التوصل إلى اتفاق. الأمر الذي لم يتم وأفشل المساعي المصرية التي جرت في يونيو/حزيران الماضي، بل وألقى بالملف في جعبة الاتحاد الأفريقي الذي سمحت وتيرة المفاوضات التي يرعاها، لإثيوبيا بإتمام عملية الملء الأول للسد من دون إخطار.
وفي ذلك الوقت، كانت مصر تسعى مدعومة من الإدارة السابقة للولايات المتحدة، لطرح مشروع قرار يتضمن ثلاثة أقسام؛ الأول يؤكد على دعوة كل من مصر وإثيوبيا والسودان إلى استئناف المفاوضات الفنية للتوصل إلى اتفاق بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة بشكل مستدام يضمن مصالح الجميع ويمنع إلحاق الضرر بأي طرف. والقسم الثاني يتضمن دعوة الدول إلى الالتزام بمبادئ القانون الدولي في حماية الحقوق المائية لجميع الدول المشاطئة للنيل الأزرق وأن يكون الاتفاق منظماً لآلية دائمة لفض النزاعات التي قد تنشأ بين الأطراف. أما القسم الثالث، فيدعو جميع الأطراف -والمقصود بذلك إثيوبيا- إلى عدم اتخاذ أي خطوات أحادية الجانب بشأن السد إلا بعد التوصل إلى اتفاق.
وفي المقابل، استطاعت إثيوبيا مدعومة من الاتحاد الأفريقي، ودول أعضاء بمجلس الأمن كالصين وجنوب أفريقيا، إبقاء النزاع محصوراً تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، بحجة أنّ المنظمات القارية هي الأجدر بالنظر بالنزاعات الداخلية. وهي النقطة التي ركز عليها ممثل أديس أبابا في مجلس الأمن، السفير تاي أسقي سلاسي، في طلبه عدم نظر الموضوع في مجلس الأمن واعتباره غير مختص.
المصريون باتوا أكثر دراية بتبعات خطوة اللجوء لمجلس الأمن
وفي 20 مارس/آذار الحالي، نشرت "العربي الجديد"، تقريراً عن تفاصيل الملفات التي تقترح الخرطوم والقاهرة إيكالها إلى آلية الوساطة الرباعية الدولية. وكان أبرزها على المستوى الفني، صياغة اتفاق نهائي لقواعد الملء والتشغيل، بحيث ترعى الآلية صياغة نهائية وموحدة لجميع البنود التي شهدت المفاوضات السابقة خلافات واسعة بشأنها، والتي منها وضع برنامج واضح ومسبق ومتفق عليه للملء المستمر والدائم للسد، والاتفاق على حجم التدفق اليومي من السد والذي سيصل إلى سد الروصيرص بالسودان، حتى لا تتأثر السلامة الإنشائية للأخير وباقي السدود السودانية، والاتفاق على حجم التدفق العام في فترات الجفاف والجفاف الممتد.
أما أهم الملفات على المستوى القانوني والسياسي، فهي رعاية التوافق على آلية فض المنازعات التي ستنشأ مستقبلاً حول تشغيل السد والملء، والبت في اقتراح مصري سوداني بأن تظل الآلية الرباعية هي مرجعية فضّ المنازعات، وليس الاتحاد الأفريقي فقط، وضمان التزام إثيوبيا بتنفيذ الاتفاق واعتباره ملزماً بشكل نهائي، وعدم التراجع فيه، أو الالتفاف عليه.