أكدت مصادر دبلوماسية مصرية إجراء السعودية اتصالات غير معلنة مع القاهرة والخرطوم خلال الأيام الماضية، في إطار مساعيها لتحريك مبادرة فردية منها بشأن قضية سدّ النهضة. ويأتي ذلك بعد اللقاء الذي جمع وزير الخارجية الإثيوبي ديميكي ميكونين والسفير السعودي في أديس أبابا، سامي جميل عبد الله، يوم الخميس الماضي، والذي لم تعلن الرياض أيّ تفاصيل عنه. وأضافت المصادر لـ"العربي الجديد" أن "الموقف المصري - السوداني المشترك الذي أُبلغ للسعوديين يتلخص في الإصرار على آلية الوساطة الرباعية الدولية، المشكّلة من الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة، ورفض الملء الثاني المنفرد لسدّ النهضة قبل التوصل إلى اتفاق شامل ملزم قانونياً وفنياً". وذكرت المصادر أن "الاتصالات السعودية لا تتحرك من تصورات جاهزة لكيفية حلّ الأزمة، كما أنه يمكن اعتبارها منفصلة عن الجهود المبذولة في إطار التفاوض ذاته"، لكن القاهرة "طالبت بأن تركّز الرياض على توجيه هذه الوساطة لعودة إثيوبيا لمسار المفاوضات وفقاً للمقترح السوداني - المصري، ومنع الإقدام على تصرفات استفزازية جديدة، ربما تقود المنطقة بالكامل للخطر".
لا تتحرك الاتصالات السعودية من تصورات جاهزة لكيفية حلّ الأزمة، وتخلو حتى الآن من إعداد لأي قمة
وأشارت المصادر إلى أن المرحلة الراهنة من الاتصالات تخلو حتى الآن من إعداد لأيّ قمة مشتركة على الأراضي السعودية بشأن سدّ النهضة، مشددة على أن عقد القمة من عدمه لم يعد أمراً يهم مصر، نظراً لعدم ترتب أي نتائج إيجابية على القمم الأخيرة التي عقدت عن بعد العام الماضي، وإخلال إثيوبيا بالتعهدات السياسية التي أعطتها سابقاً. وبالتالي، فمن وجهة النظر المصرية، بحسب المصادر، "ليس هناك ما يدعو للتفاؤل بإمكانية الحلّ أو أخذ ضمانات في اجتماع على المستوى الرئاسي، علماً بأن هذه النقطة كانت سبباً في إجهاض دعوات الاجتماع التي وجهتها جنوب أفريقيا للدول الثلاث خلال الشهر الأخير لها كرئيس للاتحاد الأفريقي".
وأوضحت المصادر أن السعودية تتحفظ على الطريقة التي تتعاطى بها إثيوبيا مع الملف، شأنها شأن معظم الدول التي انخرطت في جهود الوساطة حتى الآن، لكن الرياض ركّزت أيضاً في اتصالاتها على "ضرورة عدم تطوير الأزمة إلى استخدام حلول غير دبلوماسية بالقوة". هذا الأمر تتحاشى مصر حالياً الحديث عنه بشكل رسمي، فيما تحدّثت عنه الخرطوم الأسبوع الماضي، نافية رؤيتها للحل في مواجهة عسكرية.
وكان "العربي الجديد" قد نشر في 17 مارس/ آذار الحالي معلومات عن صدور تعليمات من الاستخبارات العامة المصرية إلى وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، بتصعيد الحديث عن "ضرورة الحسم بالقوة"، والإشارة الصريحة إلى "مطالبات استخدام القوة العسكرية" طالما استمرت أديس أبابا على موقفها المتشبث باستمرار العمل للملء الثاني المنفرد للسد، بدون اشتراط التوصل إلى اتفاق نهائي على قواعد الملء والتشغيل. وبعد النشر بساعات، نُشرت مقالات وتصريحات عدة في وسائل الإعلام المصرية تتحدث عن الحل العسكري وضرورة استخدام القوة. كذلك انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي المدارة من قبل الاستخبارات وحسابات الأشخاص المؤثرين المعروفين بتأييدهم للرئيس عبد الفتاح السيسي وعلاقتهم القوية بمكتب مدير جهاز الاستخبارات العامة اللواء عباس كامل، مقاطع مسجلة من لقاءات سابقة للسيسي مع قيادات الجيش، تحدث فيها مقدم الاحتفالات العسكرية، العقيد ياسر وهبة، عن الحسم العسكري للقضايا التي تعجز الدبلوماسية عن حلّها، لإرغام الخصم على التفاوض.
وكانت مصر والسودان قد التزمتا الصمت الرسمي إزاء تصريحات وزير الدولة السعودي للشؤون الأفريقية، والسفير السابق في القاهرة، أحمد عبد العزيز قطان، خلال زيارته الخرطوم الشهر الماضي، عن سعي السعودية لإنهاء ملف سدّ النهضة بالشكل الذي يضمن حقوق الأطراف الثلاثة. وكشف قطان عن لقاءات سابقة بتوجيهات من الملك سلمان بن عبد العزيز، مع السيسي، ورئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، وحديثه عن نية عقد لقاء قمة "في الوقت المناسب" لحلّ الأزمة.
تركز الرياض في اتصالاتها على ضرورة عدم تطوير الأزمة إلى استخدام حلول غير دبلوماسية بالقوة
وأوضحت المصادر أن مصر سبق أن طلبت من السعودية والإمارات أداء دور ملموس في الأزمة نظراً لعلاقتهما الوثيقة بأديس أبابا، لكن كانت هناك دائماً محاولات من الجانبين لجعل الدور في إطار "تحسين أجواء التفاوض بين الأطراف المتنازعة"، وليس بهدف "تقديم حلول نهائية"، ولذلك كان البلدان أبعد من أطراف أخرى غربية وشرقية في متابعة قضية السدّ. وذكرت المصادر أن مصر "باتت تتفهم" منذ عامين تقريباً أن الدول الخليجية ستكون من المستفيدين الأبرز من مشروع سدّ النهضة، سواء بزيادة استثماراتها الزراعية أو في مجال الطاقة، "وبالتالي فلم تعد تراهن كثيراً على وساطات خليجية". لكن هذه المصادر رأت أن "التصريح السعودي الجديد (تصريح قطان) ربما يحمل تغييراً في المستقبل، إلا أنه غير مجدول حتى الآن"، مشددة في الوقت نفسه على "ثقة القاهرة في شخص قطان الذي كان على اطلاع واسع في القضية منذ بدايتها". وترى المصادر المصرية، رغم ذلك، أنه بناء على حقائق عدة، فإن السعودية تملك بالفعل أوراقاً يمكن بها الضغط على أديس أبابا، وكان من الممكن استخدامها مبكراً، لكن ذلك لم يحدث.
وتعدُّ السعودية حالياً، وفق بيانات أديس أبابا، سادس أكبر شريك تجاري لإثيوبيا بقيمة تبادل إجمالية تصل إلى 6 مليارات دولار، وزاد بشكل كبير إصدار تصاريح العمل للعمالة الإثيوبية البسيطة، خصوصاً قبل جائحة كورونا، ما عزّز العلاقات بين البلدين. ومنذ انضمام السعودية لمنظمة التجارة العالمية في عام 2005، أصبحت إثيوبيا واحدةً من أهم الدول الجاذبة للاستثمار من قبل المواطنين السعوديين. ففي نهاية عام 2015، أعلنت وزارة الزراعة السعودية أن المملكة تحتل المرتبة الثالثة بين المستثمرين الأجانب في إثيوبيا بنحو 294 مشروعاً معظمها في مجالي الزراعة والإنتاج الحيواني، كما أن لهم استثمارات هائلة في مزارع البن، الذي تستورد منه الرياض سنوياً أكثر من 80 ألف طن.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2019، وبينما كانت مفاوضات سدّ النهضة جارية برعاية إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، أعلنت الحكومة الإثيوبية حصولها على قرضين من السعودية بقيمة 140 مليون دولار، لتمويل مشروعات للبنية التحتية والطاقة، وأنه سيتم توجيه القرضين إلى إنشاء طرق ومشروعات الطاقة وإمداد المياه. وقبلها زوّد صندوق التنمية السعودي في العام 2016، بموجب اتفاقية التعاون التجاري والاقتصادي والأمني بين البلدين، 305 مستثمرين سعوديين و69 شركة سعودية بالتمويل لتطوير الإمكانات الإثيوبية.